هل استطاع امرؤ القيس أن يوقف المذبحة ويسقط الطائرات؟!
2007-10-28
رسائل الأدباء...
عزيزي سميح...
ساعات ما بعد الظهر، ضوء سماء زرقاء، ضوء يتلألأ علي أوراق الشجر، ضوء يتسرب الى النفس ،ضوء من ضوء، لا من موسيقى موزارت ولا من رواية فوكنر. ضوء ضوء...
لعل أول الخريف هو أحد هبات الطبيعة الجديرة بالمدائح . تشدُّ الشجرة قامتها لتشكر هذا البهاء كامرأة تشكر الرجل.. شجرة، امرأة، قصيدة يونانية صافية. وفي وسع الحمام، المصاب صوته بالربو والزكام، ان يطير علي هذا الضوء الثابت، وأن يطمئن الي سماء العودة، في وسعه أن يكف عن الهديل.. ضوء
وأحسُّ برغبة في التعبير عن فرح طاريء، مجاني، غامض، ما أشد سعادة المرء حين لا يودع أحداً، ولا ينتظر أحداً، كأنهلا يصحح بروفات كتاب. أمن مثل هذه العناصر البسيطة تتكون السعادة؟.. وجرس الهاتف لايرن، فما أجمل هذا الكسل! أغلق رواية اسم الوردة للايطالي إيكو، واترك نفسي لفراغ لذيذ.
لا أفكر بشيء يُخرب القلب، واغبطك وانت جالس علي صخرة البداية - الى متي تبقي البداية بداية؟ - سعيداً بشوكة أسوكار وايلد التي تحيل دم العندليب الى وردة، هارباً من سالومي ومن اضطراب مؤلف صورة دوريان جراي وقابضاً علي التعريف المادي الأولي للحرية : هي وعي الضرورة ، ومسلطاً احلام اليقظة علي أساطيل البحرالأبيض المتوسط.. والي متي تبقي البداية بداية؟
ولكن هل استطاع امرؤ القيسفينا - يا عزيزي - امرؤ القيس الذي لا تحبه أن يوقف المذبحة وأن يسقط الطائرات؟ أوهل استطاع، علي الأقل، أن يمنع سواه، ممن ساروا علي دربه، من اللحاق بقيصر، عليالرغم من أنه أدرك الخيبة منذ البداية ونبه السائرين الي أن صاحبه قد بكي...! لاتظلم امرأ القيس، يا صاحبي، وإن وضعه المستشرقون مع السموأل الركيك لأسباب لاتعنيه!
رتب العالم علي هواك، أيها الشاعر القادر علي الاحتفاظ بكل بداية،ومنها وهم الشاعر - أعني قوته ومبرره - في تغيير العالم واستبدال فوضاه بنظامالصورة والإيقاع. وأسلم من الثلج القادم من النافذة. نعم، هناك ثلج لا يراه فتيوجهت إليه السؤال.. هناك ثلج.. ثلج نحسُّ به ولا نريد أن نراه..
وهذا حسن. هذا أفضل من الدفء الرخيص، المبتذل الي حد وصف الثلج بأنه دافيء، ساخن، لاهب. فالثلج ثلج يستمتع بمشهده العباد، عبر الزجاج، وهم جالسون في بيوت دافئة، ألا يشبههذا اللؤم المنافق لؤم المتفرجين علينا، عبر الزجاج والنظريات، وهم يستمتعونبالدفء، والنصر؟ ونحن.. أو بعضنا يتلقف الآهة الضرورية لتحسين الصورة، ونبني عليها،أو منها، تخطيطاً أولياً لتأسيس جمهورية أفلاطونية!.
هل أسخر؟ أسخر كثيراً. فالسخرية وهي البكاء المُبطن خير من دموع الاستعطاف، لأن الأجل قد امتد بنا الي مادون أرذل العمر، الي يوم نهبُ فيه لمواساة القاتل بما حل به من مصاب، هو تأنيبالضمير، حين أتقن لعبة البكاء الالكتروني علي ضحايانا، فكدنا نقول له: اغفر لناموتنا علي يديك.. اغفر لنا أننا سببنا لك بعض الازعاج!..
اضحك، يا ولدي،اضحك، فليس في وسعنا ان ننساق في لغة الحزن أكثر مما انسقنا، فلنوقفها بالسخرية، لالأن السخرية هي اليأس وقد تهذب كما يقولون، بل لأنها لا تثير الشفقة، ولأنها تنزلالقاتل من منزلة الفكرة المجردة، السلطة المطلقة، الي إنسانية تتعارض مع إنسانيةالبشر ومع الطبيعة الإنسانية الي انسانية مضحكة بقدر ما هي مرعبة..
هل تعرفماذا يُشغلني في هذه الأيام، انه الدكتاتور، نقيضٌ ملاكك.. الدكتاتور، اني مشغولبالدكتاتور الي درجة عينت معها نفسي كاتباً لخطب الدكتاتور!!. ما أصعب هذه المهمة،وما أشدُّ ما تثيره من متعة حين نعي أنها لعبة أدبية. سأواصل كتابة خطب الدكتاتور،أليس هذا مسلياً؟.
هل تساءلت يوماً عن خلو الأدب العربي الحديث مع شخصيةالدكتاتور؟ ألأن ملامحه لم تتبلور، بعد، في وعينا، أم لأننا نخلو من طفل أندرسونيالبراءة يشير الي عُري الملك؟.. لقد فسر الكولومبي غارسيا ماركيز اهتمام الروايةالأمريكية اللاتينية بشخصية الدكتاتور بقوله إن الدكتاتور هو الشخصية الأسطوريةالوحيدة التي انتجتها امريكا اللاتينية . أمن الضروري أن يتحول الدكتاتور العربيالي شخصية أسطورية لتنتبه إليه الرواية العربية الحديثة، أم أننا نحتاج الي شروطأخري لتعامل أكثر واقعية وأقل تجريدية مع سؤال السلطة؟.
الدكتاتور فينا حدالتماهي، شخصاً وفكرة. الدكتاتور في نسيج حياتنا، بأسلوب آسيوي كما يقول الاستشراق،سواء كان الدكتاتور معبود الجماهير أم عدو الجماهير ولكنه ما زال مغلفاً بالتجريد،لا أحد يعرفه، لا أحد يراه، مخبأ بأغلفة سميكة من الكوادر والمصالح والأقنعة، لأنهمشغول بتأمين مستقبل مزدهر للأمة تارة، ولأنه مشغول بتفكيك الأمة وإعادتها اليمصادر تكونها الأولي تارة أخري، ولأنه دائماً متأرجح بين المصطلحات الأيديولوجيةالمرنة وتوزعنا التلقائي والقسري علي خنادق أوهامنا.. الدكتاتور حولنا، بيننا،فينا.
حين انتهيت من قراءة رواية الغواتيمالي العظيم استورياس السيد الرئيسانتابني شعور غريب وملتبس: شعرت انني انتهيت من كتابتها لا قراءتها. كم تسحرني هذهالرواية المدمرة التي لا تُظهر الدكتاتور في أكثر من صفحتين. ولكنه منتشر في نسيجالخراب النفسي، والتدمير الذاتي، والموت الأخلاقي، الذي أشاعه في من يعملون معه،وفي تغييب الحد الأدني من العلاقات الإنسانية حتي بين أفراد حاشيته، وفي تحويلالقلب البشري الي خرقة.
وبالمناسبة، لم أفهم لماذا استدرج صديقنا ماركيزالي القول إن هذه الرواية رديئة جداً رداً علي قول استورياس ان ماركيز مجرد كاتبأمثال . لعل هذا التراشق بالإنكار والضغينة هو أحد آثار التخريب النفسي التيأشاعتها الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية حتي علي مستوي العلاقات بين الأدباء الذينتفشت فيهم الدكتاتورية الأدبية وهم يقاومون الدكتاتورية العسكرية.
الدكتاتور يتلاعب بمصائرنا، فلم لا نلعب بشخصية الدكتاتور بتحويله اليمضحك، كما كنا نسخر من الحاكم العسكري الاسرائيلي بتحويله الي مجرد خواجه في مطلعحياتنا الأدبية والسياسية. هل تذكر تلك الأيام؟ هل تذكر زاوية من وحي الأيام فيجريدة الاتحاد التي تألب علي كتابة قصائدها الساخرة حنا أبوحنا وتوفيق زياد وسالمجبران؟ لماذا توقفتم عن السخرية، واحتكرها شيخ شبابنا أميل حبيبي؟ وأنت.. أنت ألمتكن لاذعاً ورائعاً حين دفعت قرقاش الي تعيين وزير للفرح ووزير للحزن لا تفرح الناسولا تبكي إلا بأمر منهما، أو لعلهما اللذان يفرحان ويبكيان نيابة عن الشعب!.
... والدكتاتور يعيش في حياتنا، ويصوغ أسطورته التدريجية، هل خطر لحاكمأمريكي لاتيني أن يُسلط صورته علي القمر بالأشعة ليؤمن الناس بنبوءته عندما يرونوجهه طالعاً من القمر، كما قد يفعل حاكم عربي؟ أفي وسعنا أن نواجه هذه الظواهرالساخرة بغير السخرية؟.
حين باشرت كتابة خطاب الدكتاتور الأول خطاب الجلوسكنت أنوي كتابته نثراً، ولكن امتلائي بالسخرية جرني الي الايقاع. ورغبتي في الضحكجرتني الي القافية. لماذا تثير القافية الضحك اليهذا الحد؟ ألأنها تسلط الحواس عليالنتوء، ولأن الدكتاتور نتوء في الطبيعة؟ لا أعرف تماماً. ولكن الانسجام في غيرموضعه يثير السخرية، والانضباط في موقف فوضوي يثير الضحك. أليست القافية هي أعليتجليات الانضباط؟.. وهكذا رأيت أن من المضحك أكثر أن استخدم قافية واحدة لكل خطابالضجر وهو الخطاب الثاني من سلسلة خطب الدكتاتور التي لا أعتبرها، ولا أريد لأحد أنيعتبرها قصائد، بل خطباً موزونة!..
من هو دكتاتوري؟.. إنه مجمل خصائص الحكمالعربي الفردي الاستبدادي المجافي للطبيعة، والمتجسد في حكام يتداخلون في بعضهمتداخل الصفات العامة المشتركة في فرد، دون أن أحدد ملامحه الشخصية المميزة، لأن ذلكقد يعرضني الي خطر استثناء آخرين، وقد يعرضني ايضاً الي مخاطر الهجاء.
وقدتسألني عن مصادر إنسانية الدكتاتور: هل هي تعاطف خفيّ مع ما يعانيه الدكتاتور مناغتراب وعزلة وحرمان إنساني؟ أم هي تضخيم مع سلطة الكتابة؟.
لعل مصدرالالتباس الذي تبعثه هذه الأسئلة هو أن علي الكاتب أن يتقمص شخصية موضوعه. ومن شروطهذا التقمص ألا يحوَّل الدكتاتور المخلوق من لحم ودم الي آلة، فهذه الآلة تصلح لعملالكاريكاتور لا للأدب الساخر الذي يشترط مستوي انسانياً ولعل انسانية الدكتاتور هينتاج تدخلنا وشرطها لإعادة انتاجه أدباً من ناحية، ومن ناحية اجتماعية - فإنالدكتاتور هو من نتاج البشر، ولو كان تشويهاً لطبيعتهم البشرية!.
أماالجانب الشخصي الذي لاحظته، يا عزيزي، وهو المشترك الضروري بين المؤلف والمؤلف، فإن هنري برجسون يفرسه في دراسته الشهيرة عن الضحك بقوله: مهما يكن الشاعر الهزلي قويالرغبة في استجلاء مضحكات الطبيعة الإنسانية، فما أحسبه يمضي الي البحث عن مضحكاتههو. ولنفترض انه أراد ذلك، فلن يستطيع الوصول إليها، إذ لا يُضحك في المرء إلاالجانب المحتجب عن وعيه من شخصيته ولذلك فإن الملاحظة في الملهاة تجري علي الآخرين،ومن هنا تتصف بالعمومية. وهذا ما لا يتوفر لها حين تجري علي الذات. لأنها وقداستقرت علي السطح لن تبلغ من الأشخاص إلا غلافهم. وعند الغلاف يتماس الناس، ويكونمن الممكن ان يتشابهوا .
لنضحك قليلاً مع الدكتاتور وعلي الدكتاتور. ومهماكان الاختلاف الايديولوجي بين أنواع الدكتاتورية صحيحاً فإن الدكتاتور - في علاقتهبالناس وفي عزلته - هو الدكتاتور. والدكتاتور يثير الرعب والسخرية معاً. وساعات مابعد الظهر هي وقت السخرية. سأودعك الآن لأكتب إحدي خطب الدكتاتور، فقد أطلقت عليهقافيتي، كما أطلق هو عليّ نباح كلابه.. وكُتابه.
أخوك محمود درويش
(باريس - 9/9/1986)
08-أيار-2021
21-آذار-2020 | |
02-تشرين الثاني-2009 | |
26-آذار-2009 | |
18-كانون الثاني-2009 | |
10-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |