الطرد والابادة:حقائق مغيبة
2006-04-07
درجت الكتابات التاريخية عامة على توصيف الامبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بـ"الرجل المريض" ولم يُرَد بذلك الإشارة إلى حال هذه الامبراطورية فقط بل أُريدَ له وبشكل ضمني أيضًا الإشارة إلى فتوة أوروبا الناهضة حديثًا، أوروبا التي كانت تصدح في أرجائها الأفكار القومية والفلسفات التحررية وطبعًا في ذات الوقت كان المد الاستعماري لبقية أنحاء العالم قد وصل إلى أوجه.
موضوع الكتاب هو عن مسلمي المنطقة الشاسعة الممتدة عبر الأناضول والبلقان وجنوب روسيا والتي كانت حتى العام (1800 م) تزخر بأغلبية مسلمة من السكان. خلال القرن التاسع عشر حدث نقص كبير في أعداد الأغلبية السكانية من المسلمين إذ إن ربع السكان قد فُقد نتيجة القتل والترحيل القسري وطبعًا لم يقتصر الأمر على السكان المسلمين إذ نال المسيحيون أيضًا نصيبًا وافرًا ولكن فداحة وحجم الأرقام جعلت حكاية المؤلف الأكاديمية هذه تبدو أكثر مقاربة لجهة المسلمين، وهو الأمر الذي جعله يبحث ويدرس المراجع التاريخية والوثائق والكثير من الشهادات لدبلوماسيين غربيين وغيرهم ممن عاصروا المرحلة، ليقع على تاريخ مختلف تمامًا عن التاريخ السائد وليعثر على تفسير هذا التباين الهائل في الأرقام، "إن هذا تاريخ معاناة المسلمين، ليس لأن المسلمين قد عانوا وحدهم، بل لأن تصحيحًا للرواية التقليدية الأحادية الجانب لتاريخ هذه المناطق أصبح ضروريًا. أظن أنه تاريخ قادر شرعيًا على الصمود وحده. إنها قصة وفيات هائلة وواحدة من هجرات التاريخ الضخمة"ص20.
لماذا إذًا حدث هذا التغير الديموغرافي خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ يُرجِع المؤلف ذلك إلى جملة من الأسباب التي من أبرزها الضعف المزمن للإدارة العثمانية على الصعيد العسكري والاقتصادي، وتنامي الوعي القومي لدى الشعوب المسيحية في الامبراطورية العثمانية وأخيرًا كان المد الاستعماري الروسي الكاسح. اجتمعت هذه العوامل جميعها وتفاعلت مع الوضع الأوروبي العام المذكور أعلاه من زخم صاعد مدعوم بثورة فكرية شكلت العتلة الرافعة للمجتمعات الأوروبية يقابله أيضًا حال "الرجل المريض" والوهن الذي انتشر في الأطراف حتى بلغ الحد الذي أعلن بقوة عن بروز حركات تحررية قومية تطالب بالاستقلال تبنتها الأقليات الدينية والقومية في أرجاء الامبراطورية المتداعية.
يشير المؤلف إلى أن سياسة التسامح الديني التي طُبقت في الامبراطورية العثمانية على الأقليات المسيحية والقومية من أرمن ويونان وبلغار، لم تكن مبنية على حسابات دقيقة من جهة العثمانيين. فلم يكن يكفي أن تُسدِّد هذه الأقليات الضرائب (لا يشير الكاتب إلى هذه الضرائب على أنها باهظة ومرتفعة أم لا) ولا أن يكون النظام العام سائدًا والأمن مستتبًا نوعًا ما. فكان غياب سياسة ثقافية تسعى إلى دمج الجميع في بوتقة عثمانية واحدة تكون هي الهوية القومية الطاغية، حيث الولاء الأساس فيها للدولة العثمانية، هو القناة التي حافظت على الصلة بين الولاء الديني والولاء العصبي/ القومي لدى الأقليات المسيحية وجعلها نواة صلبة تنتظر الفرصة لإعلان الانفصال والاستقلال دينيًا وقوميًا. والفرصة كانت سانحة بالطبع في التفات القوى الأوروبية الناشئة، في ذروة تأججها القومي المدعوم بإطار نظري وفكري متماسك، إلى المشرق وبالذات إلى الامبراطورية العثمانية، حين ساهمت في تدعيم فكرة الاستقلال القومي لدى البلغار واليونانيين وغيرهم وتدخلت بشكل مباشر وغير مباشر بذريعة حماية الأقليات المسيحية من العسف الإسلامي العثماني. وهكذا انصب غضب الحركات التحررية السالفة على المسلمين من سكان الامبراطورية بعدِّهم الجزء الأساس من تراثها البغيض وكانت النتيجة هي "الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين بين عامي (1821-1922 م)".
بدأ الأمر مع حرب الاستقلال اليونانية في عام (1821 م) والتي تطورت من عمليات مواجهة وقتل طالت بعض الموظفين العثمانيين إلى موجة كاسحة من التطهير العرقي تهدف إلى محو المسلمين العثمانيين من حدود اليونان دون تمييز. على أساس أن ولاء أي مسلم عثماني في اليونان المستقلة لن يكون لليونان بل للامبراطورية العثمانية. ثم أتت الحرب الروسية التركية (1877-1878 م) بعدها والثورة البلغارية على الحكم العثماني ومن ثم الثورة الأرمينية في بداية الحرب العالمية الأولى، لتتفاقم عملية الابادة وتصل إلى الحد الذي ضاعف من عدد الضحايا على النحو الذي عكس درجة كبيرة من التنظيم والاصرار على إعادة توزيع المنطقة سكانيًا. وجعلت من ذلك العنوان العريض لقرن دامٍ وصل إلى ذروته بتخثر الامبراطوية إلى حدود الدولة التركية المستقلة حديثًا والتي ضمت في عدادها عددًا كبيرًا من الناجين من أهوال الحرب العالمية الأولى والمهجرين من مناطق اليونان بلغاريا والبلقان وغيرها من الأقاليم.
قد تكون الحقائق والوقائع التي يسردها الكتاب جديدة تمامًا على القارئ العربي بل والغربي ذلك أن الصورة الحاضرة والشائعة للموضوع برمته يعتمد على ثنائية التركي المتوحش، المحتل، والوطني المخلص الطامح إلى التحرر من سلطة العثمانيين وما يتطلبه ذلك من سردية قومية تمجد الانتصارات وتتغنى بمواجهة الأعداء والتصدي لهم وتنسج الأساطير حول أبطالها القوميين. تجلى ذلك عند اليونانيين والبلغار والأرمن والصرب والروس وغيرهم ولم يتحدث أي منهم عن المجازر والاستباحة والقتل والتهجير القسري للآخرين من المسلمين والتي يصر جستن مكارثي في كتابه على كونها عمليات تطهير عرقية على أساس قومي ديني. حتى أن المؤرخ الشهير أرنولد توينبي فوجئ بالمذابح التي قام بها اليونانيين ضد الأتراك وقد شاهدها بعينه وهو الذي لم يكن صديقًا للأتراك، بل توقع أن يقوم الأتراك بالأعمال الدنئية لا اليونانيين. ويعيب الكاتب مكارثي على توينبي موقفه من القضية الأرمنية كونه اعتمد في مناصرته لها على تقارير مكتوبة، وليس فيها تقرير تركي واحد، ولم يكن شاهد عيان كما فعل في الحالة اليونانية، التي أجبرته على الالتزام بالموضوعية والحياد أمام الواقع الحي الذي وقف على مجرياته.
والحديث عن المشاركة الأرمنية في "الطرد والإبادة" يبدو جديدًا إذ أن الرواية الرسمية السائدة عربيًا وعالميًا تتمثل في كونهم ضحايا الاضطهاد والقمع والتهجير التركي، وليس العكس، وخاصة المجزرة الشهيرة في أثناء الحرب العالمية الأولى والتي يتطرق إليها المؤلف ببرود وحياد لافت ويفسر الأمر على أنه ضرورة عسكرية تمت لقطع الامدادات عن العصابات الأرمنية التي كانت تهاجم الجيش العثماني وتوقع به خسائر كبيرة، فكان القرار العثماني بترحيل قسم كبير وتهجيرهم إلى مناطق أخرى، مع مراعاة شروط السلامة الصحية وهو أمر لم يتوافر حقًا ونجم عنه مأساة كبيرة يتحمل مسؤوليتها بحسب المؤلف إضافة إلى العثمانيين "الثوريون الأرمن ومناصريهم والروس" ص212. ويتحدث بناءًا على وثائق وتقارير وشهادات تعود إلى تلك المرحلة عن مجازر وقتل جماعي قامت بها حركات أرمنية مناهضة للعثمانيين طالت السكان المدنيين في العديد من القرى والمدن وأحرقت أحياء بكاملها!؟؟. يبدو أن الأحداث العاصفة وقتها جعلت من السكان المدنيين من الطرفين مادتها الرئيس ليكونوا موضوع المجازر والقتل جماعي والتهجير فجرى تبادل للأدوار، الضحية تتحول إلى قاتل والقاتل يتحول إلى ضحية بحسب ظروف القوة والضعف التي تتناوب على كل طرف والدعم الذي يلقاه داخليًا أو خارجيًا. وما يفسر ربما حماس الكاتب للرواية التركية العثمانية، وهي ليست رسمية، هو أن الرواية الأرمنية قد دُعمت ولاقت رواجًا وصل إلى حدود المبالغة والتطرف وتحولت إلى أيقونة لا يمكن مناقشتها، في حين بقيت الرواية التركية العثمانية مكتومة ومفروض عليها الصمت وذلك من ضمن حسابات الهزيمة التي لحقتها في الحرب العالمية الأولى. ولا أدل على ذلك من موقف توينبي ذاته المشار إليه.
لم يتناول المؤلف في كتابه وضع الولايات العربية تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية خاصة وأن العامل الديني لم يكن مصدر الخلاف إذ هو الإسلام يجمع الأتراك العثمانيين والعرب معًا في حين بدا تفرد العامل القومي بكونه جوهر الخلاف الأساس. وبالتالي كان الصراع المستعر بين الحركة القومية العربية الناشئة حديثًا والعثمانيين يختلف عن مثيله في اليونان أو بلغاريا أو البلقان ولم يقترن (بحدود ما هو معروف) بقيام مذابح وحشية وتطهير عرقي بحق الأتراك العثمانيين من المناطق العربية كما حدث في تلك البلاد، مع أن الذاكرة العربية عن المرحلة العثمانية لم تكن وردية بل كانت تنضح بالجراح جراء القهر والاستبداد الذي خيم عليها مئات السنين وهو ما يتقاطع مع الأوضاع في بقية المناطق من الامبراطورية العثمانية، أي أنها لم تكن بالصورة المشرقة نوعًا ما التي قدمها المؤلف في كتابه.
إن الأحداث التي يقدمها الكتاب مثلت الخلفية لحروب وصراعات تجددت في ذات المناطق على نحو غريب وكأن الزمن لم يعبر عليها، فلم تمضي بعد سوى أعوام قليلة على الصراع حول اقليم ناغورني كاراباخ وعمليات التطهير العرقي في البوسنة والهرسك والحرب الروسية في الشيشان، وحافظ العامل الديني والقومي على فرادتهما في المسألة، واتخذ ذات الشكل من الوحشية والدموية وهذا المرة بأسلحة حديثة، وبقيت السياسة الرأسمالية الغربية بشقيها الأوروبي والأميركي تمارس دورها الأساس غير المشرف في متابعة مصالحها الخاصة في حين بقي الضحايا هم ذاتهم من المدنيين الأبرياء يبحثون عن معنى ما لوجودهم العبثي فوق خارطة بلا اتجاه. الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين (1821-1922 م)
تأليف: جستن مكارثي
ترجمة: فريد الغزي
إصدار: قَدْمُس للنشر والتوزيع
دمشق – 2005 م
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |