حوار مع الناقد المصري د. صبري حافظ
2007-12-18
اتهام الأجيال يُخفي وراءه كسلا نقديا
مأساة جيل التسعينات أنه لم يخّرج نقّاده
في المهرجان الثالث للرواية العربية التي تستضيفه مدينة الرقة سنويا، نجح الناقد المصري د. صبري حافظ في تقديم بحث نقدي فكري متماسك، بيّن فيه بدقة المراحل الأساسية لمسيرة الرواية العربية حتى تسعينات القرن الماضي، متوقفا عند ثلاث مجموعات من المتغيرات المتداخلة،أولها مجموعة التغيرات الحضارية بما في ذلك التغيرات التاريخية والاجتماعية والنفسية والقومية، وثانيها هي مجموعة التغيرات المتعلقة بموقف الكاتب من تراثه النصي ووعيه بهويته وهوية النص الذي يبدعه، وبنوعية الحوار الذي يجريه النص الروائي مع هذا التراث سواء أكان هذا الحوار بالقطيعة معه أو بالاندماج الكامل فيه، وثالثها مجموعة المتغيرات الفنية المتعلقة بطبيعة الاستراتيجيات النصية ودلالات الشكل، والوظائف الفنية المختلفة التي يستخدمها الكاتب في نصه الروائي.
ومن خلال هذه المجموعات الثلاث، المتداخلة والمتفاعلة، تكشف الدراسة عن طبيعة التغير الذي انتاب قواعد الإحالة، إحالة النص الروائي، إلى الأطر المرجعية التي ينبثق عنها، ونوعية الحوار الذي يقيمه معها، والذي يشارك في بلورة وعيه بذاته وبطبيعة الدور الذي يؤديه في الواقع الاجتماعي الذي صدر عنه.
على هامش هذا المهرجان كان لنا مع د. صبري الحوار التالي :
* ثمة إدارة نقدية، إذا صح التعبير، تنتظم فيها أدوات النقد ونهجه ومرجعيته، يستخدمها الناقد في قراءته الخاصة للنص الأدبي .. كيف يدير صبري حافظ النص الأدبي نقديا ؟
ـ في العادة، وفي كثير من دراساتي النقدية، والتنظيرية خاصة، أهتم بحقيقة أن النص يوجد في العالم وليس في الفراغ، وأنه يصدر عن واقع اجتماعي وثقافي وحضاري شامل يُجري حواره الجدلي معه، وهي فكرة أكثر تعقيدا من نظرية الانعكاس التي تقول أن النص يعكس الواقع الاجتماعي أو يحاكيه .
من خلال هذا الفهم، الذي يعتبر النص في حوار جدلي مستمر مع الواقع ومتغير معه دائما ، أجد نفسي دائما أدرس العالم الذي يصدر عنه النص الأدبي بكل متغيراته الاجتماعية والحضارية، فعلى سبيل المثال، كان أول شيء لفت نظري في كتابات الأجيال الجديدة أن الفترة التي تكون فيها وعي هذه الأجيال قد شهدت مجموعة المتغيرات الحادة والمزلزلة أحيانا، وهي الفترة التي تمتد من عام 1970 وحتى بداية ظهور كتاباتهم في التسعينات، هذه الفترة شهدت تحديات اقتصادية مزلزلة نتج عنها انتشار البطالة بين الشباب، والمتعلمين منهم خاصة، وتسعير الكثير من الخدمات الضرورية كالسكن والصحة وغيرها، خارج نطاق قدرتهم، فشعروا بالإحباط وانغلاق الأفق، وكان هذا يناظر انهيار دور مصر في المنطقة وفي العالم، ويناظر أيضا تغيرا حضاريا حادا وهو انتشار ما يسمى بالمدن العشوائية، التي يعيش فيها اليوم أكثر من 40% من سكان القاهرة،وهي مدن تفتقر للتخطيط والخدمات والشروط الصحية وغيرها..
ما شاقني ولفت نظري أن هذه المتغيرات تناظرت مع متغيرات النصوص الأدبية نفسها، فاتسمت الرواية الجديدة بقصر النفس والازدحام بالشخصيات، ولا نجد رواية تمتد مئات الصفحات كما كان يكتب نجيب محفوظ.
لقد رصدت (111)شخصية في رواية لا يزيد عدد صفحاتها عن 120 صفحة، وهذا يعني أن ازدحام المكان،إلى حد الاختناق التي تتسم به المدينة العشوائية، قد انتقل إلى ساحة النص الأدبي، لكن أهم الملاحظات التي خرجت بها هي أن النصوص الجديدة تشكل قطيعة معرفية وموقفية مع مسيرة الرواية العربية السابقة .
* معروف عنك بأنك واحد من النقاد القلائل الذين اهتموا بكتابات الأجيال الجديدة ( الروائية )، وعملوا على تفحصها أدبيا، أين وصل هذا المشروع النقدي .. ؟
ـ بدأ اهتمامي النقدي بالكتابة الجديدة مع الانجاز الأدبي لجيل التسعينات كرد فعل على شيوع الاتهام بأن هذا الجيل، وخاصة في بداية ظهوره على الساحة الأدبية المصرية، لا يعرف قواعد الكتابة ولا حتى قواعد اللغة، وهو اتهام كثيرا ما طرح في وجه كل جيل جديد يفد إلى الساحة الأدبية، هذا الاتهام كثيرا ما أخفى ورائه نوعا من الكسل النقدي الذي لا يبذل جهدا في معرفة الجديد والمختلف الذي يقدمه الشباب عادة، فعكفت على نصوص هذا الجيل، وكنت قد بدأت بكتابة مقال كل أسبوعين في مجلة المصور القاهرية، كرسته لتناول الأعمال الأدبية لهذا الجيل واحدا بعد الآخر، الأمر الذي دفع عددا كبيرا من هؤلاء الأدباء للاتصال بي وتزويدي بأعمالهم، وقد وجدت نفسي بعد عشر سنوات تقريبا قد تناولت بالنقد التطبيقي أكثر من أربعين رواية من أعمال هذا الجيل، وهذا ما شجعني لإعادة تفحص هذه الكتابات ومحاولة استخلاص الخطوط النظرية للتحولات التي طرأت على الأعمال الأدبية لهذا الجيل .
* قلت منذ قليل بان الأجيال الروائية الجديدة قد شكلت قطيعة معرفية مع ما سبقها،هل هذا اتهام ..؟
ـــ لا .. أردت أن أقول أن الرواية العربية، قبل جيل التسعينات، كانت تنطلق من تصور معرفي للعالم ينهض على أنه باستطاعة الإنسان أن يكون ما يريد، لكن .. ومع انسداد الأفق أمام الأجيال الجديدة، أُجهز على هذا التصور ليحل بدلا عنه هما وجوديا يطرح أسئلته المختلفة عن غرابة العالم ولا منطقيته، منطلقا من أن هذا العالم لا يمكن معرفته بأي قدر من الوثوقية، وهذا ما ترك بصمته واضحة على بنية السرد الذي لم يعد واقعيا متسلسلا، إنا سردا ينهض على تفتت وتشظي علاقات التجاور العفوي الذي لا يقوم على أي منطق أحيانا.
أيضا فقد تركت هذه الحالة بصمتها على اللغة الروائية والشخصيات وباقي مكونات النص، وفتحته على مجموعة من التقنيات الجديدة المستعارة من الفنون الأخرى كالسينما والفن التشكيلي، أو مستعارة من السرود الشفوية الأخرى كالشعر والحكاية الشعبية .
* كيف ترى المصداقية الفنية والجمالية للكتابة الجديدة، وأين تقع معاناتها الحقيقية .. ؟
ـ المشكلة الأساسية تبدأ من قواعد التلقي، فالرواية السابقة على ظهور جيل التسعينات كانت تنطلق من قاعدة سعي الكاتب للعب دور في الواقع أو تغييره، بينما رفض النص التسعيني هذا المنطلق، غير آبه بلعب أي دور في الواقع أو تغييره .
كل ما سعى إليه النص الجديد هو فهم سر التناقضات التي تجعل من هذا الواقع أمرا غير محتمل، لذلك يحتاج الأمر إلى تغيير طبيعة التلقي، وتغيير مجموعة التصورات التي يتوقها القارئ من النص، فالنص الجديد لا يقدم نفسه بسهولة للقارئ التقليدي الكسول الذي اعتاد أن تقتنصه الحبكة في شباكها، إنما يريد من قارئه أن يكون أكثر فاعلية ووعيا بتناقضات النص ورؤيته .
النص الجديد يعاني من الغربة، ومن محدودية عدد القراء، ولا يوجد نص يوزع أكثر من 1000 إلى 2000 نسخة، في عالم عربي يتجاوز الـ 200 مليون نسمة، وذلك لأن القارئ الجديد القادر على تلقيه لم يتكون بعد بشكل واسع، إضافة إلى أن لجيل الجديد لم يخرّج بعد نقاده القادرين على خلق جسور جديدة بين هذه النصوص وبين القراء، وبالكاد قد بدأت عملية ظهور جيل جديد من النقاد الشباب الذين يشتغلون على النص الجديد، بعد أن أصبح هذا النص ظاهرة ثقافية لفتت إليها الانتباه .
أتمنى أن يؤدي ظهور هؤلاء النقاد إلى الإجهاز على غربة النص الجديد وتوسيع رقعة قرائه .
* تزايدت في السنوات الأخيرة ظاهرة الندوات والمهرجانات الأدبية والفكرية في البلاد العربية، ما هو رأيك في دورها وجدواها الثقافي .. ؟
ـ في رأيي أن الندوات العربية عموما مهمة في تلافي بعض القصور الذي أشرنا أليه، فهي تتيح للناقد التعرف على ما فاته في المشهد الثقافي لهذا البلد أو ذاك، والتعرف على كتّابه، إضافة إلى الاحتكاك بغيره من المثقفين العرب .
لكن خطورة الأمر تأتي من تحول هذه المهرجانات إلى سياسة عامة في بعض الدول العربية كمصر على سبيل المثال, وهي محاولة تنطوي على محاولة التهرب من المسؤولية الثقافية الحقيقية التي تتطلب بناء قاعدة وبنية تحتية للثقافة تساهم في تكوين عقل نقدي قادر على التصدي لكل تيارات تغييب العقل وتشويه الوعي وتزييفه .
المشكلة أن النظم العربية تخشى المساهمة في تكوين هذا العقل النقدي، خشية من أن يطالها في النهاية، لذا تعمل على تغييبه وتزيفه من خلال مهرجانات ،أشبه بالموالد، تقيمها هنا أو هناك، كغطاء أو درء للتهمة أو الانتقاد،هذه المهرجانات (الموالد) سرعان ما تنفضي دون أن ينبثق عنها أي وعي أو بنية ثقافية قادرة على الاستمرار أو إرهاف وعي الشعوب النقدي والعقلي ، وسأضرب لك أمثلة على ذلك :
الدول العربية، ومصر بشكل خاص، لديها كل الإمكانيات كالمسارح ودور العرض والنشر وغيرها، لإنشاء ثقافة حقيقية، لكن ما يحدث أن هذه الإمكانيات قد تم تهميشها لصالح صناعة مهرجانات سنوية .
في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، تهتم كل الدولة بإنتاج عرض واحد للمشاركة به في المهرجان، بعد ذلك سيتوقف الإنتاج إلى أن يحين موعد المهرجان القادم .. وهكذا ..
إذا قارنا هذا بما يحدث في انكلترة مثلا، سنجد أن المسرح هناك يقوم فعلا بإرهاف العقل النقدي والوعي الجدلي القادر على إضاءة واقعه وعالمه، فالمسرح القومي الانكليزي ينتج ما لا يقل عن 120 عرضا مسرحيا في العام الواحد.
كما أن انكلترة غير مهتمة بإقامة مثل هذه المهرجانات التي نشاهدها في بلادنا، فليس هناك في لندن مهرجان سينمائي كالذي نطبل ونزمر له، ما يفعلونه هو أخذ الأفلام الفائزة في المهرجانات وعرضها في الصالات في مهرجانات خاصة .
إن مجلس الفنون البريطاني ينتج سنويا (30 إلى 40 فلما) سينمائيا، يقوم بتمويلها بنفسه، وهذا هو الذي يكون الثقافة .
نحن ننفق سنويا أموالا طائلة على المهرجانات التي تقام ثم تنفض بلا أثر يذكر، هذه الإمكانيات لو وجهت لخلق بنية ثقافية راسخة، متراكمة، فسيتغير الوعي والثقافة، وبالتالي قدرتنا على هزيمة كل التيارات السلفية والهمجية التي تهدد المنطقة، والتي أوصلت الحاضر العربي إلى مستوى غير مسبوق من التردي والحضيض .
* في سورية هناك اليوم محاولات روائية جادة من قبل جيلي الثمانينات والتسعينات، ربما لم تصبح تيارا بعد، لإنتاج أشكال جديدة من السرد الروائي، ما مدى اطلاعك عليها .. ؟
ـ للأسف لم تتح لي قراءة أعمال الأجيال الأخيرة في سورية بسبب نهوض حدود القطيعة العربية التي تحول دون وصول نص سوري إلى مصر أو نص مغربي إلى سورية .. وهكذا، إلا في حالات نادرة، كمعارض الكتب النادرة، والتي لا توفر دائما، لقراء البلدان الأخرى، وبما يكفي، النصوص الجديدة .
أنا أريد أن أسأل : كم نسخة من أي كتاب جديد تأتي مع الناشر إلى معرض الكتاب، وكم يدوم هذا المعرض، وماذا يفعل الناشرون وهيئات الكتاب وغيرهم بقية العام، وما هي وسيلة القارئ الذي تفوته فرصة حضور هذا المعرض .. ؟
باختصار .. هذه مشكلة عربية عامة .
08-أيار-2021
12-آذار-2016 | |
21-تموز-2012 | |
05-تموز-2012 | |
05-حزيران-2012 | |
24-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |