ملف العلمانية / أزمة ثقة
2008-01-29
الصوَر النمَطية المتبادلة لدى الإسلاميين والعلمانيين
بين الإسلاميين والعلمانيين في الوطن العربي شك متبادل، أزمة ثقة، لم يتبددا مع الزمن على الرغم من الفرص التي أتاحتها التحديات الخارجية والداخلية للتعاون ولتنمية فرص التفاهم. تُرَاوِح الأزمة عند معدلاتها المألوفة من دون ان تتفاقم أو تستفحل على نحو دراماتيكي في بعض الأحيان، وفي بعض الساحات الجغرافية العربية، بينما يرتفع معدلها أكثر في أحايين أخرى وساحات أخرى، فتبلغ حدود التكايد والتصادم. كثيرة هي الأسباب التي تدفع نحو تلك الحال من التوجس المتبادل بين الفريقين وترفع من معدلات أزمة الثقة بينهما، ويهمنا منها في هذا المعرض سبب نحسبه الأهم والأظهر هو: الموقف من مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية وفي “اللعبة الديمقراطية”، وما يبدو من تنازع بين الفريقين على هذه المشاركة وعلى شرعيتها وما ينجم عنها من نتائج.
يسلّم بعض العلمانيين (من القوميين خاصة) بحق الحركات الاسلامية في المشاركة السياسية: في
تكوين أحزاب سياسية، وفي خوض المنافسات الانتخابية، وفي الوصول إلى السلطة التنفيذية من طريق صناديق الاقتراع. غير أن أكثر العلمانيين (من الليبراليين واليساريين ومن بعض القوميين) لا يُسلم لهم بذلك الحق لاعتقاده بأن مشاركتهم في الحياة السياسية وفي السلطة تهدد النظام الديمقراطي بل تهدد النظام السياسي في طبيعته المدنية. يميل قليل من العلمانيين إلى قول ذلك مواربة وبمفردات مبهمة ترفع الاشتباه عن موقفهم الديمقراطي وتقيهم تبعة ضبطهم في حال تلبس غير ديمقراطي؛ فيما لا يتحرج أكثرهم من الافصاح عن ذلك الموقف جهرة وبغير قليل من العنف اللفظي.
يشك العلمانيون في إيمان الاسلاميين بالخيار الديمقراطي: نهجاً في السياسة ووسيلة للصراع السياسي، على نحو ما يحاول الأخيرون أن يشيعُوه في الرأي العام. يعتقدون، في المقابل، أن للإسلاميين جدول أعمال ثانياً غير معلن هو برنامجهم الفعلي، وهو عينه البرنامج الذي على أساسه يعبئون جمهورهم في حياتهم التنظيمية الداخلية، والبرنامج هذا يتلخّص في التعامل مع الوسائل الديمقراطية بانتهازية بما هي وسائل للوصول إلى السلطة، ثم الانقضاض عليها وعلى الحياة الديمقراطية برمّتها بعد تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، وتطبيق برنامج يقضي بأسلمة الدولة والمجتمع وتقويض أسس النظام المدني.
أما الإسلاميون، من جهتهم، فلا يرون في علمانية العلمانيين ما تعنيه العلمانية في أصولها الغربية من فصل بين مجال السياسي ومجال الديني وحياد للدولة أمام الأديان والطوائف، وإنما يميلون في حديثهم عنها إلى الايحاء بأن العلمانية ليست شيئاً آخر غير الالحاد أو معاداة الدين. وهكذا يذهب العلمانيون في نظر الاسلاميين إلى استكمال ما بدأته الغزوة الكولونيالية من فك لعُرى العلاقة التلازمية بين الدين والدولة في الإسلام، ومن فرض لقوانين وتشريعات ومنظومات قيم غير مستمدة من الشريعة أو من مبادئ الإسلام، وإنما منقولة من مرجعيات أخرى تعبّر عن شخصية مجتمعات أخرى، ويزيد الإسلاميون على ذلك بالقول إن موقف العلمانيين السلبي من الإسلاميين موقف من الإسلام نفسه الذي يحمل الأخيرون مشروعه الاجتماعي والسياسي والثقافي، وليس موقفاً منهم كحركة سياسية فحسب.
ويعتقد الإسلاميون، أيضاً، أن مبررات شكوكهم في العلمانيين لا تقتصر على كون الأخيرين دعاة نموذج اجتماعي وسياسي وحضاري مجافٍ لقيم الإسلام ومستورد من خارج دائرته الحضارية فحسب، وإنما لمحالفتهم نخباً حاكمة مستبدة أو لا تتمتع بالشرعية الدستورية لمجرد أنها تدعي الحداثة وتعادي الحركات الإسلامية وتجهد لحرمانها من حقّها في المشاركة السياسية، بل والتواطؤ معها لمنع الإسلاميين من ممارسة ذلك الحق وبما يعطي السياسات الاستئصالية لبعض تلك النخب شرعية سياسية داخلية.
هذه لوحة من سجال عقيم نشهده، منذ عقود، بين قبيلتين سياسيتين وثقافيتين متنابذتين. عنوانه الحقيقي الصراع على السلطة، لكنه الصراع الذي لا يستقيم إلا بمصاحبة ثقافية وايديولوجية. لندع جانباً الوجهين السياسي والثقافي في هذا الجدل، ولنسجل ملاحظات حول شحنته الايديولوجية وأغاليط الخطاب فيه انطلاقاً من السؤال التالي: هل تطابق الصورة النمطية التي يكونها كل فريق عن نفسه، وعن الآخر صورته الفعلية دائماً، وعلى نحو عام؟
الملاحظة الأولى أن بعض العلمانيين يتحدثون في الموضوع بمنطق من يحاكم النيات، وهذا ليس حديثاً سياسياً، وإنما هو ضرب من التنجيم السياسي. المحاكمة لا تكون إلا للأفعال، ولم يتوفر شرطها حتى الآن.
والثانية أن بعضهم يقدم دروساً في الديمقراطية للإسلاميين، وإن لم أخطئ، فليس في سيرة الماركسيين والقوميين السياسية ما يسمح لهم بتقديم مثل تلك الدروس. فهم كالإسلاميين حديثو عهد بالفكرة الديمقراطية التي لم تتجاوز في وعي أقدمهم إيماناً بها ثلاثة عقود.
والثالثة أن العلمانية ليست الإلحاد أو معاداة الدين إلا في وعي أيديولوجي يتقصّد التغليط واستغلال الشعور الديني الجمعي لتأليب الناس على فئة من المواطنين تؤمن بأن مجال السياسة والدولة مجال زمني يجري تنظيمه بمقتضى التعاقد والاتفاق ولا قداسة له أو فيه، لأنه مجال النسبي والمصالح الدنيوية.
والرابعة أن أخذ العلمانيين جميعاً بجريرة بعض منهم أيدوا سياسات الاستئصال الأمني والانقلاب على الشرعية الديمقراطية (التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة في الجزائر وفلسطين مثلاً) فعل ليس يجوز إتيانه إلا من قبل من يبتغي التغليط، وهو يشبه أخذ الاسلاميين جميعاً بجريرة أفعال جماعات العنف الإرهابي.
لقد وصفنا هذا الجدل بأنه عقيم لأنه لا ينتج إلا الفراغ والمتاهة والدوران في الحلقة المفرغة. ونضيف إلى ذلك وصفه بأنه ايديولوجي لأن أطرافه تمارس فيه لعبة الإظهار والإخفاء الايديولوجية: إظهار محاسن الذات وإخفاء عيوبها وتجلية عيوب الخصم وإخفاء فضائله. وهي لذلك السبب لا تتناظر موضوعياً وإنما تتناقر وتخوض في مضاربات كلامية فارغة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |