Alef Logo
ضفـاف
              

تراجيديا الواقع ــ تراجيديا الكتابة / علاقة شخصية

2008-01-28

سيبدو الأمر كما لو أنه كذب احترافي. إذ إن الكتابة، وإن كانت تؤثر في القارئ، إلا أن تأثيرها لايؤدي إلى الحالة الحقيقية التي حدثت لي بصفة شخصية، ومن شدة ما هي حقيقية ستبدو، نظراً للعلاقة الوثيقة بين الحقيقية وبين الكذب، كما لو أنها كذب لاريب فيه.
ذات يوم كنت أقرأ رواية ماركيز الشهيرة "الحب وشياطين أخرى". في هذه الرواية يطلع ماركيز القارئ منذ الصفحة الأولى على النهاية الفادحة والكارثية للبنت الجميلة "بطلة" الرواية. فهو يبِدؤها بتعليق أنه ذهب ضمن مهمة صحفية لحضور عملية "نبش" قبر فتاة، وبعملية حسابية سهلها له طول شعر الفتاة، بدا وكأنه عرف قصة الفتاة الميتة، ولأنها قصة مثيرة قام بروايتها ووضع لها عنوان "الحب وشياطين أخرى".
إذاً هو يروي قصة فتاة ميتة، لكن المثير في الأمر أنني طوال صفحاتها كنت كمن ينتظر معجزة تنقذ الفتاة من الموت، كنت أبتكر أنواعا من العلاج يمكن أن تساعد في شفاء البنت المريضة، حنقت على كل من أزعجها وأهملها، كنت أشعر أن قلبي ينبض في الفراغ عندما
تصل إلى مرحلة قاسية من الإهمال أو المرض، شعرت، أحياناً، وحقاً، بفرح شديد عندما بدا أحدهم أنه سيحبها لعله يعتني بها، و شعرت، بالوقت ذاته، بغيرة منه...
باختصار، لقد عشقت الفتاة. وقعت في غرامها دون أي ادعاء.
تابعت الرواية كمن يمشي على حد السيف، كمن يقع، وهو يعرف مسبقاً، في هاوية، كنت أشعر أنني ذاهب إلى دفن من أحب، وزاد الأمر خطورة أنني كنت أشعر أنني أشارك بإيصالها إلى قبرها بيدي الآثمتين، نتيجة عجزي المخزي عن فعل شيء، كانت تموت أمامي وبين يدي، وكل ما أستطيعه هو أنني ألهث وراء الأحداث كأبله فقد أشياءه...
وحدثت النتيجة المعروفة مسبقاً، ماتت الفتاة. وانتهت الرواية. الفاجع أنها بدت لي كأنها الفتاة التي أحب وقد ماتت موتاً حقيقياً، وكما يحدث للعاشقين في مثل هذه الحالة حدث لي: مرضت من شدة الحزن. مرضت مرضاً حقيقياً لامجاز فيه، حتى إن صديقتي وزوجتي آنذاك بدأت تقدم لي أنواع العلاجات التي تقدم لمريض: انواع معينة من الحساء وخافضات حرارة وما إلى هنالك...
غبت عن عملي دون إعلام الإدارة. وعندما بدأت أغادر المنزل بقيت الرواية، لفترة طويلة، في يدي، كأنها شكل حبيبتي الذي زال، كأنها أثرها، كانت الرواية في يدي تعبيراً عن حالة حداد طويلة عشتها...
مع ملاحظة أنني، بعيداً وعلى الضد من لعبة التواضع، أعتبر نفسي قارئاً احترافياً، كي لا أظن أنني وقعت في هذا نتيجة قلة الأعمال الروائية التي قرأتها، وبالتالي فإن أي عمل جيد، ولو قليلاً، يؤثر بي على هذا النحو المزري...
هذه الرواية، وإن كانت مكتوبة بمهارة، إلا أنني أعتبرها واحدة من أقل روايات ماركيز تفوقاً. ومع ذلك جعلتني أعيش معها وفيها كأنها واقعي الحقيقي. الأمر المهم، إذاً، أنها حولت الواقع، أو أكثر من هذا، بنت واقعاً تراجيدياً، حولت واقعي الشخصي إلى واقع تراجيدي. لنفترض أن الرواية (هذه، على الأقل) واقعية، إلا أن الكتابة نظرت إلى واقعها على أنه تراجيدي، فلم يبد ثمة فصل بين الواقعين: كلاهما بدا تراجيدياً، الأمر الذي جعلني، كقارئ، أعيش واقع الكتابة على أنه واقعي الشخصي، لقد عشت إذاً، في الكتابة، واقعاً تراجيدياً.
***
أمر آخر حدث لي عبر الكتابة: أثناء قراءتي الأعمال الكاملة للشاعرة الراحلة سنية صالح. كنت أشعر، طيلة القراءة، أنني أقع تحت فعل من السحل والإنزواء والتلاشي... وبدا لي أن فعل البكاء النشيجي الذي تخجل منه الثقافة العربية بشقيها الشعبي والنخبوي وتنسبه، كعلامة ضعف، للمرأة، فعلاً غير مخجل، بل شديد القوة والتعبير والدلالة، كنت أنتحب كثاكل، كطفل فقد أمه وسط شارع مكتظ، كمن يشعر أن كرامة البشر أهينت، كمن يشعر أنه مرغ بالتراب أمام حبيبته في الوقت الذي كان يستعرض فيه بطولاته وانتصاراته... بدا لي أنني مطالب بالثأر لكل هذا.
لم تكن حالة الحزن التي تطبع الشعر العربي بطابعها (وربما الشعر بالمطلق) هي السبب في حالة الانتحاب النشيجي هذا، وإلا ماتوقفت عنه، ولم يكن حزناً على المرأة التاريخية التي تنقل سنية صالح، بلاهوادة، آلامها. كان الأمر، فيما يبدو، يتعلق بالطاقة التراجيدية التي ما انفكت الشاعرة عن شحن شعريتها بها، ومثلما فعل ماركيز بالنظر إلى واقع الفتاة على أنه تراجيدي، نظرت صالح إلى واقع المرأة التاريخي على أنه كذلك، دون أن نكون كقراء أو دارسين أو باحثين مضطرين إلى التحقق من ذلك، إننا أمام كتابة صوّرت الواقع على أنه كذلك، وفيما تصوره فإنها تحوله، أو، بعبارة أكثر دقة، تبنيه تراجيدياً. فليس كل حزن تراجيدياً، والحزن ليس تراجيدياً دائماً.
لقد قدم ماركيز وصالح تراجيديا الحزن، وعرضا، بحزم، تارخ الآلام البشرية عبر الفتاة لدى ماركيز، وعبر صوت الجوهر الأنثوي الخالق والمطعون لدى صالح، عبر بناء كتابي لم يتوقف عن بناء الواقع والكتابة بصفتهما تراجيديين.
في هذا النوع من الكتابة يتم النظر إلى الواقع على أنه شيء تبنيه الكتابة، وأن لا واقع خارج النص، إذ لا معنى للوجود الواقعي خارج النص، بمعنى: لا يجدي النظر إليه على أنه موجود أم غير موجود، سيجري النظر إليه على أنه شيء أوجده النص، أو أنه موجود في النص وكفى، وهكذا تحوّل الكتابة الواقع، وتبني تاريخاً...
***
لقد دخل الشهيد يوسف العظمة الذاكرة السورية الجمعية، وتوطن في المكان الفاره والمحجوز للنبل وللمثال الذي يجب أن يحتذى، وتحتفظ هذه الذاكرة بصورته الراقية وهو يذهب إلى موته دفاعاً عن القيمة.
ضمن هذه المعاني الكبيرة التي بني عليها العالم في أطواره النبيلة حدث لي الأمر الذي لن أشعر بأي خجل من عرضه، بل بكبرياء:
طلب إلي أحد الأصدقاء، أثناء انشغاله بإعداد موسوعة عن شخصات سورية هامة، بكتابة دراسة عن الشهيد يوسف العظمة، فوافقت دون تحفظ. وبدأت بالقراءة والبحث عن تفاصيل ومواقف تشكل حياة الرجل ومثله وثقافته... لكن المأسوي أنني كلما تقدمت في القراءة وباشرت الكتابة، تمنعني عن المتابعة حالة شديدة الوطأة من البكاء والشعور بالاضمحلال وفقدان القيمة والانزواء، الأمر الذي أدى إلى الاعتذار عن الكتابة عن هذا النموذج الفذ، وكان السبب صعب التصديق بطبيعة الحال، إذ من يصدق أنني كنت أبكي عوضاً عن أن أكتب. وهكذا فقدت فرصة أعتبرها كبيرة في الكتابة عن قيمة لم أنفك أتبناها وأدافع عنها، ولم تنفك، هي، عن إعادة صياغتي وتشكيلي.
لم يكن الأمر ينطوي على أن حياة الرجل على هذه الدرجة من الحزن، بل أكثر، لم يكن الرجل حزيناً إلى هذه الدرجة، بل كان الأمر أن حياته انتهت على نحو تراجيدي، يذكر بالأبطال الإغريق الذين كانوا يذهبون إلى حتفهم باسمين، ولكن الإغريق كان يترصدهم هوميروس وسوفوكليس واسخيليوس... الخ. يبنون حياتهم ويصنعون لهم أمكنة تراجيدية، فيما لم تتحول مأساة العظمة إلى تراجيديا، ولم تتحول دمشق إلى مكان تراجيدي. كنت أقرأ العظمة، وفيما أقرأ أبني تراجيديا الأمكنة والأشخاص والأحداث، وكأنه بناء على الطريقة الإغريقية، إذ لم تتجاوز التراجيديا إلى الآن، في زعمي، التراجيدية الإغريقية، حتى أنه يمكنني القول إنها توقفت أمام الباب اليوناني
هذه التراجيديا التي انبنت أثناء ملاحقتي الاسباب الكامنة وراء التصرف الأخير للرجل والتي جعلته يذهب إلى موته دفاعاً عن القيمة، هي ذاتها التي سببت توقفي عن الكتابة وأزاحت الحجاب الذكوري الذي يخفي الدموع، فبكيت.
هنا كانت تراجيديا الواقع تنتظر تراجيديا الكتابة، وحيث أنها لم تتحقق، استغلت القراءة هذه الثغرة وحلت محل الكتابة وبنت تراجيديا مؤجلة، من غير اللائق أن تنتظر هوميروس ليكتبها!
***
وحيث أننا لم نعرف الواقع قبل الكتابة، فمن غير المجدي أن ننظر إلى ما قبل الكتابة بحثاً عنه، فالكتابة هي الكفيلة ببناء واقع ربما يكون متشابكاً تراجيدياً مع الكتابة، لكن أغلب الظن أن الكتابة هي التي تبنيه، الأمر الذي يجعلنا، كقراء، نبحث عن الواقع داخل النص، وعن النص داخل نفسه ودلالاته وتأويلاته.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow