الصحوة الدينية الكبرى بين الأسقف وماركس
2008-02-06
لعبة التاريخ الحقيقية باتت واضحة: صحوة دينية، تليها ثورة علمية، تتبعها صحوة دينية.. الخ. الدورة هنا دائرية بالكامل.
الاغريق القدماء عرفوا الاديان الوثنية قبل أن يطلقوا ثورتهم الفلسفية الكبرى. ثم ما لم لبثوا أن عادوا بعد حين الى الدين في حلَّته التوحيدية هذه المرة. الرومان أيضاً كان لهم دينهم الوثني الذي سبق انطلاقتهم العلمية- الإدارية، قبل أن ينضووا تحت راية الدين المسيحي في القرن الثالث الميلادي. الحضارة الإسلامية عرفت أيضاً هذه الدورة مراراً: الاختمار الديني أيام حقبة النبوة، ثم التحديث العلمي- الفلسفي في المرحلة العباسية التي لحقت بها مباشرة فورة دينية دامت نيفاً وخمسة قرون.
ما تفسير هذه الرحلة الدائرية للتاريخ؟
يبدو أنه ليس هناك سوى تفسير واحد: الدين يوفر للإنسان ملجأ آمناً يقيه الآلام التي تثيرها الأسئلة الكبرى حول معنى الوجود ومصاعب العيش. وحين ينتصر العلم يقدّم للإنسان مكاسب مادية كبرى، لكنه يعجز عن تقديم أي تفسير لألغاز الوجود، فيقذف بالإنسان إلى خارج ملجئه الآمن. حينها تبدأ صحوة دينية جديدة.
ما مناسبة هذه “الثرثرة الآن فوق نهر التاريخ” (بالإذن من الراحل نجيب محفوظ)؟ إنها الاعتراف المتزايد لسياسيي الغرب بالدور الكبير للدين في السياسات العالمية. الرئيس الفرنسي ساركوزي، مثلاً، ذكر اسم الله تعالى في خطاب له في السعودية 21 مرة، ثم دعا في حاضرة الفاتيكان إلى دور بارز للدين في أوروبا العلمانية. الرئيس الأمريكي بوش ينتمي هو نفسه إلى تيار أصولي إنجيلي يسعى لتغيير الدستور العلماني الأمريكي لمصلحة القيم الدينية. الأسرة المالكة في بريطانيا تتحدث باسم “10 داوننغ ستريت” حين تحمل راية إعادة البلاد إلى حظوة الإيمان. ثم هناك بالطبع بابا الكثلكة (عضو تنظيم “فرسان مالطا”) الذي يحاول ركوب الموجة الدينية عبر توحيد المسيحيين وراءه في مواجهة مع الإسلام.
تسييس السياسيين للدين هنا واضح. وهذه ليست إدانة لهم بل مجرد توصيف أمر واقع. إذ إن جل “مهنة” هؤلاء تقوم على انتهاز الفرص والتلاعب بمشاعر الناس ومخاوفهم وتطلعاتهم. لكن، هل هذا التسييس يصب في مصلحة الصحوة الدينية العالمية الجديدة، والتي تشمل أيضاً الإسلام، البوذية والهندوكية والكونفوشيوسية؟
كبير أساقفة كونتربري، على الاقل، لا يعتقد ذلك. فهو يرى أن هؤلاء الساسة جزء من الأزمة لا الحل. لماذا؟ لأنهم الممثلون الشرعيون للحضارة الراهنة المغرقة في ماديتها والتي يجري “التمرد” الديني الحالي ضدها. هذه الحضارة (الحداثة المادية) تحَول كل شيء إلى سلعة، وتحيل البشر إلى مجرد أشياء أو أرقام. إنهم يصبحون أدوات في ماكينة آلية رأسمالية عملاقة.
خلاصة خطيرة؟ بالتأكيد. وهي تكرر حرفاً بحرف ما كان يقوله كارل ماركس حول “تسليع” الرأسمالية لكل شيء، بما في ذلك الروح.
كبير الأساقفة ليس بالطبع شيوعياً، ولا هو معاد للرأسمالية، برغم انتقاداته العنيفة واللاذعة لها. كل ما يريده هو إضفاء مسحة إنسانية روحية على الوجه البشع لحداثة التسليع الرأسمالي، خاصة في طبعتها الأنغلو- ساكسونية المتطرفة. وهذا ما تقوله أيضاً معظم الحركات الدينية الأخرى.
هذه النقطة الأخيرة ربما توضح حدود الصحوة الدينية العالمية الحالية. إنها ماء يغلي في إناء الحداثة المادية الحالية، لا خارجها. وكذا الأمر على الأرجح بالنسبة للكونفوشيوسية والبوذية والهندوكية. أما الإسلام، وبسبب الضغوط الاستراتيجية الهائلة التي يتعَرض لها من الغرب واليهودية العالمية، فهو لا يزال يتأرجح بعنف بين الصحوة الانفتاحية وبين الانتفاضة الانغلاقية.
لكن، وكيفما جرت الأمور، من الواضح أن البشرية تمر هذه الايام بالفعل في حقبة صحوة دينية كبرى. برد فعل ديني كبير. العلمانيون الذين يرتجفون كورقة خريف خوفاً من مضاعفات هذا التطور، يتحدثون عن مرحلة قرون وسطى مظلمة جديدة. لكن هذا يتضمن خطأين: العجز عن رؤية التطرف المادي الحداثي الذي يوَلد ردة الفعل الروحانية - الدينية الحالية؛ وسوء فهم للطبيعة الجدلية الهيغلية (من هيغل) للتاريخ والتي تسير كالآتي: المقولة تستجلب المقولة المضادة، قبل أن يولد من الصدام الكبير بينهما جديد التاريخ.
والصدام على أشده هذه الأيام، وفي كل أنحاء العالم.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |