خيري الذهبي: أنصاف المتعلمين في الستينات نشروا الخواء بلا تراث ولا معاصرة
2008-05-06
كنت أعرف خيري الذهبي من خلال عدد من أعماله الروائية وخاصة ملكوت البسطاء و حسيبة و ليالٍ عربية في الماضي.. وأخيرا لو لم يكن اسمها فاطمة . ولكل من هذه الأعمال جمالها ومكانتها في رسم ملامح المرحلة التاريخية التي اختارها وبناء عالمها الروائي الواضح في شخوصه المتصارعة وأهوائهم ومصالحهم المختلفة، إضافة إلي لغة أدبية متميزة وأسلوب جذاب يزيد قارئه حبا بلغته العربية. وفي هذا اللقاء، تبين لي أكثر فأكثر جمال هذه اللغة من خلال تدفقه بالحديث ووضوح أفكاره ومدي تمكنه من أدواته التعبيرية مما يجعل حديثه لا يقل جمالا وسلاسة عن كتابته. وهذه المزايا تذكرنا بالسنوات العديدة التي أمضاها الأستاذ خيري الذهبي في تدريس اللغة العربية، وهو يتمتع بذاكرة قوية ومتابعة للتاريخ القديم والحديث، كما يهتم كثيرا بالعادات والنثريات أو المنمنمات الصغيرة التي يتداولها المجتمع السوري، والشامي بالذات، مثل نباتات الزينة، وأنواع العصافير، وألوان الأطعمة، وحتى أسماء الأقمشة والمنسوجات التي تدخل في تصميم الأزياء. ومن يستمع إلي حديثه يشعر أن هذا المبدع يتملكه فخر وثقة بنفسه، وهي ثقة لائقة بصاحبها وتظهر واضحة بنبرات صوته. وهو يتمتع بصوته المتميز في الساحة الأدبية العربية، إنه يبدو نسيج وحده، لا يستعير أقلام الآخرين ولا يقلد تجاربهم لأن له مشروعه الروائي الخاص والكبير الذي يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا والمجتمع، ذكريات الماضي بوقائع الحاضر وأحلام المستقبل. خيري الذهبي ابن دمشق وابن المجتمع الدمشقي الحميم، وهو المبدع الدمشقي الأول والأهم في كتابة الرواية العربية، في خصوصيتها السورية.
* أستاذ خيري، كيف تري الحركة الأدبية في الوطن العربي وخاصة في سورية، بعد فترة الزهو التي كانت في الستينات؟
في ندوة تلفزيونية لي، كنت قد أقمتها في التلفزيون العربي السوري وكان شريكي فيها رئيس تحرير جريدة تشرين الدكتور خلف الجراد، كنت قد تعرضت إلي قضية أساسية موجودة في عالم الثقافة السورية، وهي أنه في بداية الستينات من القرن الماضي طرد جيل كامل من مثقفي سورية من الساحة الأدبية والإعلامية والأكاديمية، وجيء بجيل جديد من حملة الثانوية ودار المعلمين وفرضوا علي الساحة الإعلامية والثقافية والفكرية فصاروا هم المثقفين.. هؤلاء المثقفون الجدد كان واحدهم يجلس ويضع ساقا علي ساق ثم يقول: مالي والكتب الصفراء؟ مالي ولهذه الكتب العفنة؟ لقد انتهينا منها. من هو الجاحظ؟ ما هي الأغاني؟ من هو المبرد؟ من هو ابن كثير؟ وبضربة قلم واحدة تخلص هؤلاء المثقفون الجدد من التراث كاملا. وكانت النكبة أن مناهجنا التعليمية كانت أضعف من أن تعلم أبناءنا لغة أجنبية كافية لحملهم إلي القراءة والتوصل إلي التيارات العالمية في الأدب والثقافة والاجتماع والفلسفة. وبهذا ظهر إلينا جيل جديد لا علاقة له بالتراث ولا بالمعاصرة، هذا الجيل اعتمد في ثقافته الكاملة علي قراءة من سبقه من الكتاب، أو قراءة المترجمات النادرة والقليلة والهشة التي قد تصل إليه من القاهرة أو بيروت. وإذا ما عرفت نظام الرقابة السورية الصارم جدا والشديد الصرامة في إدخال الكتاب إلي سورية، كان لك أن تعرفي أن الكتب التي تصل مترجمة، حتى هذه الكتب كانت أندر من أن تكفي هؤلاء الناس، فوقعنا في هذا الخواء المرعب الذي يعيشه الجيل الجديد من المثقفين. الألعن من هذا كله أنه فجأة أو ليس فجأة، أنه منذ الخمسينات بدأ ضغط ما يسمي بالأدب الملتزم علي الناشئة من الكتاب والأدباء، وأدب الملتزم يعني شيئا واحدا في مدلوله الحقيقي وهو أن تحيل الأدب.. هذا الحصان البري الجامح المتهور المندفع بلا حدود.. إلي جحش مربوط في رباطات جيدة وبأرسان جيدة ليخدم القضية التي التزم بها. جاء الشيوعيون فقالوا بالأدب الملتزم فصار الأدب الملتزم عليه أن يكتب في موضوع واحد هو المستغل. وجاء البعثيون فجاؤوا بالأدب الملتزم ليصبح الأدب هو كيف نجحت الثورة وانتصرت علي الطغاة والبورجوازيين والرأسماليين والفاسدين كلهم ممن سبق الثورة ـ النور البعثي الذي جاء في أوائل الستينات. هذا الإرغام للأدب وتحويله أداة إعلامية، بالإضافة إلي ما قلناه سابقا في انقطاع الصلة ما بين التراث وما بين الأدباء الجدد، وانقطاع الصلة ما بين التيارات العالمية وما بين الأدباء الجدد، أوصلنا إلي هذه الحالة التي تجعل من كتابنا وأدبائنا يدورون في دوامة. وأنا حين قرأت سؤالك هذا أحسست بأني أحاور الآن كاتبة سورية عاشت في سورية العظيمة فيما بعد الستينات، أولئك الذين حفظوا الدرس جيدا فإذا ما سألوا سألوا بالتزام، وإذا ما أجيبوا أجيبوا بالتزام. الرواية بناء اجتماعي متخيل هدفه إضاءة الواقع في سبيل التغير. من قال هذا؟ من ادعي هذا؟ من دعم هذا؟
(كنت قد قدمت له أسئلة مكتوبة منها دور الرواية في إضاءة الواقع وتأثيرها في المجتمع وعملية التغيير. لكنه أبعد الأسئلة وقال دعينا نتحدث بعيدا عن الطريقة البعثية)
ثم تابع حديثه: الرواية، فن الرواية أدب ينتمي إلي عالم الجمال، لا ينتمي لا إلي علم السياسة ولا إلي علم أيديولوجيا الأفكار ولا إلي أدب التغيير ولا إلي كل هذه الحماقات التي بدأنا بتمثلها منذ أيام جدنوف وحتى أيام ناديا خوست. سيدتي الكريمة الأدب أدب والفن فن والجمال جمال، والسياسة دعيها للسياسيين وآثامهم، دعيها للمغيِّرين وآثامهم، دعيها للثوريين ولدفاعاتهم ونضالاتهم وليتركوا لنا هذه الزاوية الصغيرة التي اسمها الأدب.
* المعروف أنك كتبت رواية المدينة، دمشق أو المدينة.. كيف تبدأ فكرة الرواية عند خيري الذهبي؟ وما مدي انشغالك في هموم هذه المدينة؟ وكيف كنت تري المدينة من قبل؟ وكيف تراها اليوم؟
هناك ملاحظة صغيرة هو أنك تسألين عن المدينة، والغريب أننا الآن نحن في سورية لا نعيش في مدينة، ولم يعد هناك في سورية من مدن. نحن نعيش في قري كبيرة، في اللغة العربية أصلا مكان الاستقرار البشري كان يسمي قرية، وقرية مشتقة من فعل قري (تجمع) أو القرى (الضيافة).. أو قر في المكان فهي قرية، أي مستقر، وأنا أعتقد أن أول قرية تحولت إلي مدينة حسب اللغة العربية هي يثرب، فهي أول قرية سميت بمدينة، ومدينة كلمة اشتقاقها من فعل دان، ودان يعني خضع للدين.. فدان يدين دائن ومدين ومدينة. فالمدينة هي المكان الذي خضع للدين الجديد أي القانون، والفارق ما بين القرية والمدينة هي أن القرية تتعامل مع الحياة حسب قوانين الطبيعة فهي تستيقظ مع الشمس وتنام مع الظلمة، تصغي للديك وتخاف من البرد حسب المطر إلخ. أما المدينة تلك التي تخضع للقانون الجديد، ويثرب خضعت للقانون الجديد: الدين.. الدين المحمدي، ثم فيما بعد أصبحت المتغيرات الكبيرة التي أسميناها مدنا تخضع للقانون الوضعي، ولكن للأسف الشديد نحن الآن في العالم العربي ومنذ سقوط ما أسموه بالبرجوازيات، أي منذ سقوط الرجال الذين حكموا هذه المنطقة مثل مصطفي باشا النحاس ومثل خالد العظم ومثل نوري السعيد وجاء هذا الجيل من العسكريين الذين حكموا هذه المنطقة وأصروا علي ترييف المدينة وإخراجها من قانون المدينة، وتحول النظام العالمي الذي يقوم علي تمدين الريف في بلادنا تحول إلي ترييف المدن، وهكذا لم يعد لدينا مدن في العالم العربي.
أنت إذا مضيت إلي القاهرة سترين كمية هائلة من القرى تتعايش مع بعضها اسمها مدينة القاهرة، وإذا ما جئت إلي دمشق تعيشين في كمية كبيرة من القرى المتعايشة مع بعضها ولكن يسمونها مدينة. لا قانون، لا أعراف تحكمها، لا شيء مما يمكن أن يعطي المدينة مدينة.
أنا أعيش الآن في حي يبلغ سكانه تقريبا ما لايقل عن ثلاثمئة ألف نسمة، وهذا الرقم يسجل من كبريات المدن في القرن التاسع عشر.. فباريس لم تكن تزيد عن ثلاثمئة ألف في القرن التاسع عشر، ومع ذلك أنا أعيش في حي ليس فيه ناد ثقافي، وليس فيه ناد اجتماعي، وليس فيه سينما، وليس فيه مسرح، ولا حديقة.. ليس فيه أي مكان للإنسان أن يقابل جاره ليحييه، المكان الوحيد المتاح للقاء الجيران هو في المسجد. هذا المسجد هو المكان الذي أجبرتنا القرية الجديدة علي اللقاء فيه، وبذلك تحولنا إلي هذه القرى المتعايشة. الناس تعرف بعضها في المساجد، وليس في المقاهي ولا النوادي ولا الكازينوهات ولا المسارح ولا السينمات، كل مظاهر المدينة الحديثة لا توجد في مدينتنا التي يسمونها مدينة الآن. أنت تسألينني عن المكان في الأدب السوري، منذ بداية القرن العشرين صُنِع شيء في بلاد الشام التي لم تعرف دولة سابقة اسمها سورية، واخترع شيء اسمه فلسطين ولم يكن ذا سابقة تاريخية، واصطنع شيء اسمه لبنان، ثم اصطنع شيء أسموه الأردن.. طبعا من صنع هذه الأسماء الأربعة والجغرافيات الأربع رجل بريطاني اسمه لويد جورج وأعطيت هذه التسميات فيما بعد إلي الموقعين علي الاتفاقيات الذين أسموها في ذلك الحين (سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي). سورية التي اصطنعت بإرادة إنكليزية ـ فرنسية، كما تحدثنا لم يكن لها سابقة تاريخية. سورية، الاسم نفسه ليس اسما عربيا، بل هو اسم جيء به إلينا من التراث الغربي، من السلوقيين الذين كانوا أول من ابتكروه، ثم ضاع هذا الاسم مع مجيء العرب لتصبح منطقة اسمها بلاد الشام، ولما أراد الغرب أن يصطنع شيئا جديدا في المنطقة ويلغي أربعة عشر قرنا من الإسلام جاؤوا بشيء اسمه سورية. والغريب أن هؤلاء الناس الذين كانوا يسمون في هذه المنطقة الجغرافية المسماة بسورية، لم يقبلوا بسورية وطنا لهم وعبر مئة سنة منذ سقوط الدولة العثمانية إلي الآن لم يظهر حزب سياسي واحد في سورية يقول إن سورية وطني، فكل الأحزاب السياسية التي ظهرت في سورية ظهرت وهي تنظر إلي خارج سورية حلما وأملا. العروبيون كانوا يقولون نحن نطمح إلي وحدة الوطن العربي كاملا، طبعا حلم مبالغ فيه ولكنه حلم مشروع، القوميون السوريون كانوا يقولون نحن نطمح إلي سورية الكبرى، الإسلاميون كانوا يقولون إننا نطمح إلي الأممية الإسلامية كما وجدت أثناء العصر العثماني أو ما قبل العثماني، الشيوعيون كانوا يقولون نحن نطمح إلي الشيوعية الأممية الدولية...إلخ.
لكن حزبا سياسيا واحدا لم يظهر في سورية يقول سورية وطني الذي أقبل به إلي الأبد... هذه الفكرة الصغيرة انعكست علي الأدب. الغريب أن معظم الكتاب كانوا يهربون من الكتابة عن المكان، لأنهم يعرفون أنهم حين يكتبون عن المكان كانوا يظنون أنهم يخونون الحلم الذي يطمحون إليه، وهو الخروج من السجن الصغير المسمي الوطن السوري إلي الحلم الآخر، هم ابتعدوا عن الكتابة عن هذا الوطن الذي يعيشون فيه.. بدأت ترين اغترابا عن المكان في الكتابة واعتبار اللغة وطننا ومكاننا بدلا عن الوطن المكان، فصرت ترينهم يكتبون عن بغداد الحلم وعن إشبيلية الأسطورية وأحيانا عن (درسدن) كما فعل مصطفي الحلاج. المهم يكتبون عن كل شيء إلا عن الأرض التي يدرجون عليها. هذا الانفصال والذي شجع عليه كثيرا من قبل هؤلاء البروكستيون (ورثة بروكست قاطع الطريق المعروف وسريره العجيب) الذين يشرفون علي الكتابة في البلد أدي إلي ما ذكرت سابقا عن القطيعة مع التراث وعن التيارات المعاصرة، وعن الخوف من الحديث عن المكان، الآن أصبحت تستطيعين أن تري كيف يدور هؤلاء الكتاب في فقاعة من هواء صنعها لهم المنظرون الأيديولوجيون متوسطو الثقافة أصلا بدءا من ميشيل عفلق وحتى الآن.
متوسطو الثقافة ليسوا فلاسفة وليسوا مفكرين علي المستوي الذي يستطيعون فيه أن يصنعوا أيديولوجية حقيقية. تصوري علي عقلة عرسان يصنع أيديولوجية أمة. هذه كانت مأساة حقيقية عشناها ونري تأثيرها الآن في الكتابة بهذا الشكل المأساوي، أنا أقرأ مخطوطات حتى أصاب باحمرار في العيون من الهواء والهراء والإنشائيات، أنت تعرفين أنك لا تستطيعين أن تمسكي بالمادة الكتابية بيديك إمساك اللحم لكي تكتبي، أنت تكتبين فراغيات، هوائيات، إنشائيات، كلام لا معني له... وهذا هو المرعب في الكتابة السورية الآن. أنا أعرف كاتبة سورية، كتبت في السنوات الأخيرة مايزيد عن ألف، ألفي صفحة من الروايات وكلها هراء في هراء في هراء لأنها لا تعرف لماذا تكتب، ليس من رسالة، إنها تردد المقولات الإعلامية الصحفية في الكتابة، وهذا يصنع مدرسة من صغار الكتاب ومتوسطي الكتاب الذين يرون النجاح فيها، في هذا الاتجاه فيسرعون وراءهم وهكذا تدور الدوارة. نحن نعيش للأسف الشديد نتيجة أن انقطعنا مع التراث وانقطعنا علميا ودراسياً مع المعاصرة، وأبعدنا عن المتوسط لنقذف في الصحراء. نحن سرقت سواحلنا.. بعضها للأتراك في اسكندرونة (أنا لست قوميا سوريا حتى لا أريد أن أفهم بهذه الطريقة، ولكني أنظر إلي واقع سورية) أخذت الاسكندرونة وأعطيت للأتراك، وأخذ الساحل اللبناني منا، وأخذ الساحل الفلسطيني وأعطي لليهود، فأصبحنا قارة صحراوية ليس لها إلا ثمانون كيلومترا من الاتصال بالمتوسط، ثم جاء حزب البعث الصحراوي فكريا أصلا فأغرقنا في هوائيات من الألفاظ دون أن يكون لدينا مادة حقيقية للكتابة، ثم جاء علي عقلة عرسان فخرب وخرب وخرب... أنا أتمني من حسين جمعة وأنا متفائل به كثيرا لأنني أعتقد أن كل من يأتي بعد علي عرسان سيكون أفضل منه. في مراحل علي عرسان كان سوادا حقيقيا في تاريخ سورية. انتهينا منه الآن، الحمد لله. أنا أعتقد أننا قادمون علي مرحلة أفضل يتحرر فيها الكاتب من هرائيات وهوائيات علي عرسان الكاذبة.
* هناك بعض الروائيين يتبنون ويقدمون للساحة الأدبية أسماء جديدة من الشباب وأعمال هؤلاء غالبا ما تكون مجرد محاولات مبتدئين. كيف ترى مثل هذا التبني؟
في الستينيات من القرن الماضي كنت طالبا في مصر، وكنت علي علاقة طيبة بالكاتب الكبير يحيي حقي وهو أستاذ أفخر بشدة بأنه كان من أولئك الذين أحببتهم في صباي.. كان يملك شاعرية خاصة ولغة خاصة ورقة إنسانية خاصة. كان في ذلك الحين رئيسا لتحرير مجلة اسمها المجلة وهي كانت من أهم المجلات الأدبية والمتنوعة في مصر في ذلك الحين، وربما في اللغة العربية. وفي ذلك الحين ظهر كاتب جديد هو إسماعيل ولي الدين فقدم نوفيللا أو رواية صغيرة كان اسمها حمام الملاطيلي فأعجب بها يحيي حقي فتبناها وأخذ يكتب عن هذا الكاتب بأن له مستقبلا. وفي إحدى الزيارات التي قمت بها مع بعض الأصدقاء في مصر في ذلك الحين للأستاذ حقي بدأنا نعاتبه كيف تبني كاتبا نحن لم نعتقد أنه كاتب متميز، فنظر إلينا وقال: والله احترت معكم ياشباب، إذا تبنيناه تبنينا الشباب الجدد قلتم إنهم مثل اللبلاب، وإذا ما تركناهم دون تبنٍّ فسيصبحون شجر سنديان، ولكن من بين كل مئة بذرة سنديان ستنمو سنديانة واحدة، والتسعة والتسعون الباقية سوف يقتلها البرد والريح والجفاف والأقدام التي تمر فوق الموقع، احترنا معكم. فقلنا له: ولكن هذا لبلاب.. أتربون اللبلاب؟ فنظر إلينا في حنان وأبوة وقال: ولكن الحياة أيضا في حاجة إلي لبلاب. مقولة تلح علي كثيرا منذ ما يقارب الأربعين عاما وأنا أفكر فيها.. هل نتبنى كاملا كل النبتات الجميلة في الأدب أم نتركها للصراع مع الطبيعة حتى يتصلب عودها وتتحول إلي أشجار سنديان تستطيع أن تبقي علي الحياة كاملة؟ ثم أتذكر مقولة يحيي حقي بأولئك الذين كانوا يكافحون ويحاربون ويقاتلون ويقفون ضد التيار ولكنهم يصلبون ليصبحوا سنديانا للمستقبل. ولكن الحياة في الوقت ذاته مليئة بالشجيرات وباللبلاب الذي لا بد له أن يعيش أكثر، وربما لن يكون له مستقبل، ربما لا يستمر حتى السنة القادمة.. ربما لن يعيش حتى العقد القادم ولكنه يعيش. الحياة بحاجة إلي سنديان.. وإلي شجيرات.. وإلي لبلاب.
* رواية ملكوت البسطاء تحولت إلي مسلسل تلفزيوني، هل استطاع المسلسل أن يصل إلي مستوي هذه الرواية الجميلة؟
منذ بضعة عشر عاما كنت في رحلة صغيرة مع روائي كبير اسمه غالب هلسا ـ رحمه الله ـ كنا قادمين إلي دمشق فرأينا عن بعد البنايات المغلفة بالأنتينات والهوائيات الكثيرة الكثيرة، فنظر إليها بحسرة وقال أمامك الآن مئات الآلاف من القراء الذين يقرؤون أتفه الأدب تحت اسم المسلسلات التلفزيونية، هذه الأنتينات تسرقهم منا في قراءة أدبنا. فقلت له: هل يجوز أن نترك كل هؤلاء القراء لهؤلاء الكتاب من أنصاف المثقفين وأرباع المثقفين وممن يحومون حول السطح ولا يستطيعون الغوص عميقا بالروح البشرية؟ من هذا الحوار ظلت المسألة تتناوشني لفترة طويلة، وأنا بالحقيقة حاولت أن أركب الجوادين في وقت متقارب معا.. حاولت أن أصل إلي القارئ العريض قبل كتابة الأعمال التلفزيونية وحاولت أن أستجيب لنوازع روحي الطامحة جدا إلي سماوات لا يستطيع التلفزيون أن يصل إليها عبر فن الرواية، فكتبت الرواية وحاولت أن أخلص في كتابتي للرواية إلي أقصي مشاعر الحريات والمثقفة عالميا وليس محليا، وربما كان هذا مؤثرا علي جماهيريتي التلفزيونية.. فحينما أكتب بالتلفزيون لا أستطيع علي نقد ذاتي أن أنزل إلي مستوي الكتابة التلفزيونية الحقة.. يظل ذلك جزءا من الكاتب الروائي المتأنق، لابد أن يبدأ بالكتابة فالناس اعتادت علي السفاسف واعتادت أن تنظر إلي التلفزيون كفن راق يمكن أن يوصل فنا راقيا إلي القراء. مابين هذين القطبين لصت طويلا، وفي السنوات الأخيرة وبعد تجربتي حينما طلب مني أحد المنتجين التلفزيونيين أن أكتب له عملا تلفزيونيا عن الصراع مع الصهيونية، فقررت أن أكتب لأول مرة ليس عن القضية الفلسطينية كقضية لاجئين ومظلومين ومطرودين من بلادهم ومستعمرين... لا، قررت أن أكتب عن الصراع الأيديولوجي الأساسي ما بين الفكرة العربية والفكرة الصهيونية، أن أكتب عن الصراع ما بين الصهيونية واليهودية أصلا، وأنت تعرفين أن اليهود لم يقبلوا الصهيونية إلا كرها، وبعد انتصار الصهيونية التي استعانت بالغرب علي العرب وعلي اليهود. أنت تعرفين أن الصهيونية خدعت عشرات الآلاف من اليهود اليمنيين وانتزعتهم من فردوسهم وجاءت بهم إلي فلسطين، انتزعت الآلاف من اليهود العراقيين من فردوسهم البابلي التاريخي وجاءت بهم إلي فلسطين ليتحولوا إلي أيد سوداء تعمل في المهن التي لا يعمل بها الأشكناز البيض. ولكن وأنت تعرفين أن الصراع مابين الفقراء يحيلهم إلي أعداء، وهكذا تحول هؤلاء اليهود إلي أعداء. المهم ليس هذا، حينما دخلت في الجدي، فالصراع الصهيوني مع اليهود ومع العرب ومع المسيحية الصهيونية في صراعها أيضا ضد العرب وضد اليهود أخذ المنتج هذا العمل ودار به علي الأقنية جميعا فلم يجد من يرضي أن يذيع عملا كهذا.
هم يريدون البكائيات، يريدون الفلسطينية المسكينة المطرودة، المقاتل المهزوم، لكن لا يريدون أن يقرؤوا الحقيقة في الصراع الحقيقي الأيديولوجي الذي يتم بين حضارتين، بين القومية العربية والقومية المفترضة الصهيونية والتي لا علاقة لها حقيقة باليهودية. أنت تعرفين أن جماعة هالوت إسرائيل كانت ضد الصهيونية، نتركاتا كانت ضد الصهيونية وأتت عشرات الحاخامات والحركات اليهودية في أمريكا نفسها ضد الصهيونية، ولكن نحن لا نعرف هذا الأمر، نحن نضعهم كلهم في بلوك واحد ونبدأ في تكبيرهم فنصغر، فإذا ما صغرنا آمنا بأننا لم نستطيع أن نفعل ولا نستطيع أن ننتصر، فما علينا إذاً إلا أن نستسلم وأن نساير الواقع. فلنعد إلي موضوعنا الذي حدثتني عنه، الرواية أعذب من التلفزيون، لأنها فن الرمزية اللغوية، والرمزية اللغوية تجعل من كل قارئ مشروعية في قراءة النص كما يراه هو. فهو يري المكان بعينه الخاصة، ويري الشخوص بعينه الخاصة، ويقرأ الأفكار بعينه الخاصة. وحينما سمعت قراءتك لرواية لو لم يكن اسمها فاطمة سمعت قراءة غير التي أنا كتبتها، هناك عشرات القراءات للنص الروائي، ولكن حينما يكتب للتلفزيون أو للسينما تصبح قراءة واحدة هي قراءة السيناريو وقراءة المخرج للسيناريو تصبح قراءة محددة. السينما أرقي من التلفزيون بمئات المرات، التلفزيون والسينما فيها أعمال لخيال أحادي وليس لخيال جماعي أي خيال كل القراء المتعامل مع النص الواحد، السينما أو التلفزيون هي خيال القارئ الواحد السينارست المخلص.
***
يتبع
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |