وحين تموت ..نحاول أن لا نموت معك
2008-08-18
منذ أن أُعلن موته تملكتني فكرة وجود شبه كبير بين رحيله ورحيل جمال عبد الناصر ..؟
قد تبدو الفكرة ساذجة، وخصوصا في اعتيادنا على حالات التناقض شبه الدائم بين السياسي والشاعر، ولكن تفرسي في الوجوه الحزينة للناس من حولي وذهولهم الهادئ واجتماعهم (النادر) على حجم وهول الواقعة، قادني إلى مثل هذه الفكرة.
ورغم أنني لست ناصريا، بل وغير ميال كثيرا للقوموية العروبية، ولم أع رحيل عبد الناصر، إلا أن أحاديث الناس ورواياتهم تلخص إلى حد بعيد مدى الألم الذي انسفح في أوساط المثقفين العرب والشرائح الاجتماعية بصنوفها المختلفة وخاصة الشعبية منها، عندما أعلن موت عبد الناصر، تماما كالذي شاهدناه في الجنازة المهيبة التي تابعها بحزن عبر الشاشات مئات الملايين وشاهدوا الخروج العظيم للفلسطينيين في وداع شاعرهم الأبرز على مر العصور.
ربما هناك حصة للاوعي في ظهور فكرة الدرويش – عبد الناصر، فالأخير، وحسب قراءاتنا المبكرة، كان أحد المحطات الأساسية في حياة محمود درويش، فهو الذي أقنعه بالخروج من الأرض المحتلة والقدوم إلى مصر، التي غادرها فيما بعد إلى بيروت بعد أن انعطف بها السادات نحو رصيف آخر.
في الفكرة نفسها، فإن الدرس المبكر الآخر الذي تعلمناه من الدرويش كان في تعامله مع الموت نفسه، فهو ورغم الحضور الطاغي لشخصية عبد الناصر في حياته، حلما ووجودا وطموحا وإرادة، إلا أنه كان يبكي موت الرجل على طريقته، خارج السرب تماما، مغادرا جوقة الندّابين، محتفيا بالحلم الكبير الذي أطلقه الراحل (الرجل ذو الظل الطويل)، وهو عنوان القصيدة التي أهداها لعبد الناصر، هذا الحلم الذي جعله ينبض في التراب والأفئدة من المحيط إلى الخليج، كأول زعيم عربي يتمكن من جرّ الجماهير العربية إلى قضاياها :
(( نعيش معك
نسير معك
نجوع معك
وحين تموت
نحاول ألا نموت معك .. )).
ولا أنسى الشبه الآخر والمهم بين الدرويش وعبد الناصر، فكل منهما امتاز بصوت رخيم، قوي، وأداء منبري لافت، وحضور جذاب ..
كان الدرس (الناصري)، ذاك الذي استحدثه الدرويش ونقله للأجيال القادمة، عظيم الأثر .. فيّ .. وربما في الدرويش نفسه.
ذاك الدرس علّمه أولا كيف يواجه الموت بالحلم، ويقارعه بالقصيدة، ويهزمه بعد ذلك في مواقع كثيرة، ربما آخرها اختراقه للذهنية الإسرائيلية التي بدأت منذ سنوات تفكر جديا بإدراج نصوص شعرية له في مناهجها الدراسية.
إنني قابل للموت كالصاعقة .. وهكذا هي الأرواح والغابات الكبيرة وأسئلة الحياة ..
نعم هو قابل للموت، ولكن ليس مجانا .. ربما بعد افتضاض غيمة عصية .. أو حريق .. أو قصيدة ..
أوقفوني عن الكلام لكي اصف نفسي ..!!
كيف يمكن لنا أن نفهم ونأول هذه العبارة التي قالها الدرويش منذ ما يقارب الأربعين عاما ؟
بالنسبة لي أفهمها الآن بعد أن توقف عن الكلام .. أفهمها دعوة للقراء والنقاد والثوار لإعادة قراءته والبحث أكثر في نصه الذي كان ينمو بسرعة مذهلة حيرت الشعراء، الذين تسبب الدرويش في تشكل عقد نفسية للكثير منهم..
في أحد خمارات دمشق، كنت شاهدا يوما على نحيب شاعر فلسطيني معروف ، كان يردد باكيا : نحن شعراء .. ولكن محمود درويش لم يترك لنا شيئا ..
وقتها كان الدرويش يخرج على الناس بقصيدته (نشيد الظل العالي)، بعد أن كانت قصيدتاه أحمد الزعتر وبيروت على لسان الجميع ..
منذ تلك الأيام والدرويش يملئ الدنيا ويشغل الناس، ولم لا .. ؟ فجده المتنبي ، وديوانه كان أول شيء يفكر بحمله معه أثناء الخروج من بيروت عام 1982 .. وهو كان واعيا لتجربة جده وأخطائه، ففيما انحدر نص المتنبي في أواخر حياته، كان نص الدرويش يتصاعد وينمو ليصبح، وبجدارة، نشيد الإنشاد الفلسطيني.
لا غرابة إذا أن نقرأ كيف يمتلئ المدرج الروماني بباريس بجمهور غالبيته من الفرنسيين جاؤوا لينصتوا بخشوع لقصائد محمود درويش .. بالخشوع ذاته الذي يستقبلون به قصائد شعرائهم العظام ..
ولا غرابة أن يجلس محمود درويش في مقصورة الشرف، جنبا إلى جنب مع شعراء الإنسانية، وفي الصف نفسه الذي يجلس فيه لوركا ونيرودا وآراغون وناظم حكمت ونزار قباني وآخرون من شعراء العصر الحديث. .
الغرابة أننا ما زلنا نبكي ..
والغرابة أن بعض مثقفينا وشعرائنا ما زالوا يطرحون علينا، وعلى أنفسهم قبل ذلك، ذلك السؤال المفجع والمفجوع: من سيخلف محمود درويش على عرش الشعر ..؟
الشعر ليس مملكة، ليرثها الشعراء، وليس قطيعا من المواشي ليقتسمها الأبناء بعد موت أبيهم ..
جمالية الشعر، وعظمته، ليست في فردانيته الإبداعية فقط، هي أيضا في احتياج الشعوب لمسافات طويلة من الزمن والوعي والمعرفة والتجارب والانتصارات والهزائم، احتياجها لكل هذا كيما تخلّق كل حين، شاعرا أو أثنين أو ثلاثة من طبقة السياب أو أدونيس أو محمود درويش.
كم شاعر نتذكر من مجايلي المتنبي .. وكم نتذكر من مجايلي أبي النواس أو أبي تمام .. ؟
هنا تكمن إحدى سجايا هذا الفن العظيم، حيث ستجعل التاريخ ينتظر عشرات السنين كيما يعلن رسميا عن استواء شعرية فذة من طينة الدرويش.
هل علينا أن نبكي الدرويش .. ؟
يقيني بأن مثله لا يبكى، وعلينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا، ومنها إعادة قراءته كما ينبغي ..
بلى .. في المزيد من قراءة الدرويش ثمة راحة لروحه النبيلة .. وثمة المزيد ..
من هنا نعلن موقفا لـ (ألف)، تتفرد به قبل غيرها، في سعي منها للخروج من البكائيات والفجائعية التي استسلم لها الكثيرون ..
نعلن أننا لن نقبل أي كتابة يُشمُ منها رائحة الرثاء أو ما شابه ذلك، ونرجو من أحبتنا الكتاب أن يساعدوننا في موقفنا هذا، وفي قراءة الدرويش كشاعر هزم الموت بقصيدته التي مازالت تصدح بها حلوقنا، وهزم الطغاة ببيانه الإنساني الذي كان وسيظل جزءا من حساسيتنا الجمالية والفكرية، وهزم عدوه بأن جعله يعترف بأثره الإبداعي، وهذه حالة مفارقة في تاريخ إسرائيل.
أجل .. أوقفوني عن الكلام لكي أصف نفسي ..!!
عن هيئة التحرير
بشير عاني
[email protected]
08-أيار-2021
12-آذار-2016 | |
21-تموز-2012 | |
05-تموز-2012 | |
05-حزيران-2012 | |
24-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |