ولادة من خاصرة الوقت - محمد عمران
2006-04-09
أهبط درجاً أبيض إلى حيث الغرفة في
ضاحية الليل
الجرس
طعم نبيذ يسيل
الباب
غبطة رمان تنكسر
يمسكني من قلبي عطر مكتوم الصوت
خمس يمامات تهاجر بيدي إلى الدفء
*
في الشوارع الصاعدة إلى زيت عينيك
(الشوارع مذبوحة المصابيح
المتوكأة على عصا مدن
تآكلها ظلام أصفر
الملتفة بعباءة وطن
تهرأ حريرها
الجارة حذاء من موت لزج)
استوقفتني أشجار ليباس حلوقها رنين:
«احملنا إلى الماء في
بحيرة جسد حبيبتك»
معي
القرى التي أعلق في القلب
الجبال التي تسكن الحنجرة
الأعراس
الأعياد
سنديانات المقابر
والخيول الخشبية التي تجر صهيلها في غبار
طرق ميتة
معي
قمر ينزلق على سطح صيف يحلم
وريح تلتف على مغزل بيت عار من الفرح
معي
غابة بكاء دائمة الخضرة
أنهار خوف لا تجف
ودورات فصول جوع
أيضاً
وديان أرغفة قديمة اليباس
تتسلق قدمي
في الشوارع الصاعدة إلى زيت عينيك
*
بين ذراعي أحمل متدلية أجزائي
(أحزان انطفأت فلا حطب عتيقاً لم
يبتل بماء أحمر
أحزان ترملت، تنحني على أيتامها
وتلوك السماء
وأحزان خرق تنس بصمت)
وأهبط غرفتك في ضاحية الليل
خذيني يا يمامات خمساً صغيرة إلى الدفء
بي رعدة ليل من ثلج
*
تأخذه يدي
يدخل مثل وطن عائد لتوه من جنازة حرب
حزيناً
منكسراً
وجهه بحر هجرته مياهه فارتد إلى الأعماق
في الأعماق
ارتطم مركب وجهه بتضاريس صخر أخرق
فانكسر،
وتشظى دمه،
وانجرحت مرايا الأعماق البيض
بلور ودم
سبيكة الماء الذي يعيد البحر
أدخل أيها البحر الذي تختلج أعضاؤه جميعاً
يدخل مثل غمامة خذلتها الريح
وما فوق رأسه سماء
بلى،
فوق رأسه سقف حديد واسمنت
تصالب قضبان
أرقام
مربعات
بلى،
فوق رأسه ما يكسر قامة العاصفة
ما يغتال المطر
فوق رأسه ما يذبح حنجرة الشمس
ويدخل لاجئاً مثل أرض خرجت من فرحها
*
دفئاً دفئاً
بما برودة مقبرة غائبة في الجليد.
موتاه صامتين يستلقون في المقبرة الكبرى
الجليد يسترخي
هياكل انهدت تفسخت في جثة الأرض
هياكل أنبنت في لحمها أعمدة
صبت على أذرعها مدائن
ممالك
صكت نقود
وبطاقات لأعياد
وموتاه ينامون بلا حزن
بغير غبطة
موتاه في المقبرة الكبرى يموتون
ولا سماء فوق دمهم
ولا أرض تحت دمهم
موتاه صامتين يرقدون في المقبرة الكبرى
الجليد يسترخي على أسمائهم
أعمارهم
أحلامهم
معدات الأرض تطحن الأحلام والأعمار
والأسماء
تهضم الأعمار والأسماء والأحلام
والجديد يسترخي
الفصول ثلج
والزمان امرأة مجهضة يحمل ظل موتها
ويدخل الدفء على رغيف جسد له احمرار
كوكب مشتعل
(يقول إني كوكب مشتعل
يقول...)
«امنحيني جسداً أدفن مقبرتي فيه»
(يحلم بمحيط جسد يتسع لمراكبه جميعاً
بحمولة موت كبير شحن المراكب
وحين من اليابسة صرخت به: خذ ثيابك.
تقرى عريه كاملاً فخجل وصرخ
باليابسة:
ارميها لي. ارتداها. فخرجت منها
أصوات يعرفها. سمع بينها مثل
انفجارات. سمع أشياء أكثر رعباً
فازداد خجلاً،
وأومأ لبحارته أن ينطلقوا بالمراكب)
(يقول إني كوكب مشتعل،
يقول...)
«امنحيني جسداً أدفن يابستي،
ذاكرة يابستي فيه»
(... يحلم باقيانوس جسد يتسع
لمحيطاته جميعاً
بحزن قارات خمس شحن المحيطات
وأعطى أوامره للريح
كيف، فجأة، صار جسده المحيطات
كلها
كيف، فجأة، سكنه وجع القارات
ليس فجأة
يذكره هجراته السابقة في الكوكب
المعلق بين الضوء والسقوط
يذكر ابتداءه من أرض فتحت
جمجمتها المشارط
ويذكر: أول ما رضع طفولة الدم
كان له طعم فلفل حاد جعله يصرخ)
«انهمر يا مطر جسدها آت من الغيظ ومعي
حلق الأرض
وأنت آباط الفاكهة، تعري.
جوعي لا يحتمل الانتظار»
(.. به جوع كل الرجال إلى امرأة
تفتح الخصب
أو تفتح الحب
أو تفتح الموت
أو تفتح المستحيل...)
*
افتح الخصب
يدخل زيتون عيني صاعداً النسغ الصاعد في
وردي يصير ورقاً موعوداً بالثمر ثمراً موعوداً
بالزيت زيتاً موعوداً بالضوء ضوءاً موعوداً
بالخبز خبزاً يجلس على عرش الجوع وبيده
صولجان يومئ للبحر أن يرسل ريحاً للريح
أن تتناسل سحاباً للسحاب أن يلد مطراً للمطر
أن تضاجع تراباً التراب أن يحبل وينجب.
يقرأ للأرض فاتحة كتاب الخصب
افتح الحب
يدخل حقل وجهي المتهيأ للحصاد يتسلق
قامات زرعي الناضج يسكن السنابل البيادر
يخرج قمحاً تنقره حمائم برية وعصافير دوري
يعشش في خضرة سنديان قراه ويهدل في
آفاق بيض يختزن بعضه لفصول جوع قادمة
افتح الموت
يصرخ
«ولا تفتحي الموت اكتفيت بالخصب اكتفيت
بالحب»
*
2
جسدك ملء الغرفة يهطل موسيقا
الموسيقا تتكور خبزاً
أقماراً
فاكهة
الخبز يعود إلى الحقل
الأقمار تسافر نهر بياض يجري
وتعود الفاكهة إلى الزهر
انسكبي موسيقا جسدك
قلبي خرج من ثيابه يبتل بالرقص
(كان الرقص حقلاً يسكنه الزرع
والعصافير
استوطنه الخوف
فصار حجرة
جاء فتحها الجسد)
(يرقص مثل سماء ممزقة، والمحيطات في يده تتأرجح، يندلق الدم، ينداح فوق البلاط المربع والمستطيل، يفيض، يغيب البلاد، السرير، الكراسي، الثياب المعلقة، الصور، والملصقات، النوافذ والسقف، والجسدان اللذان اكتسيا جانحين ورقاً على أفق من دم..)
أوقفي موسيقا جسدك
أريد أن أوازن القارات
(كيف يوازن القارات؟
واحدة أهزلها الجوع فلا جسد لها
واحدة في ثقل أودية خبز
كيف يوازن القارات؟
قارة لها وجه طفل يحلم بحلوى عيد
أخرى لها هيئة غول مدجج بالأسلحة
كيف يوازن جسده؟)
أوقفي جسدك
نكاد نسقط
(امسكيهما أيتها الغرفة فإنهما يسقطان
امسكي الغرفة أيتها المدينة فإنها تنهار
امسك المدينة أيها الوطن فإنها تتداعى
امسكي الوطن أيتها الأرض فإنه يتصدع
... من يمسك الأرض؟)
من يمسك الأرض..
جسدي قرن مكسور
جسدك قرن خاو
والسماء ارتخت أذرع جاذبيتها
(ينحني جسدها قوس قزح هجرته
الألوان جسد، يتكئ على خوائه ويسقط)
لماذا تخذلنا أيها الحب؟
(أيها الحب لماذا من جسدينا تسحب
أوراق اعتمادك تطوي بيرقك الأخضر على
سارية عناقنا تنزل الساري، تترك لصفرة
الريح وحدها أن تملأ مملكة الجنس)
(كان الحب يجيء في هيئة ماء
يسقي جسديهما
في هيئة شجرة
يتخذان من جذعها سرير مضاجعة
في هيئة مدينة
يفتحان شوارعها لعيد الرقص
ومرة جاءهما في هيئة ثور أزرق
جعل من جسديهما قرنين متكافئين
وضع عليهما الأرض
التي
تتأرجح
بين يدي سماء مشلولة
فحملاها
وحدث توازن الأرض)
جسدان قرنان مكسوران
من أحرق الماء
(يقبع فيها حطام سفينة
في جثة بحر)
جسدان خاويان
من أغرق النار
(ليس سوى الليل ينفتح فما هائلاً بفكين
من سواد بأسنان زرقاء تأخذ شكل ريح
تتلوى في أفق هامد الريح ننفجر غماماً رمادياً
ينفجر ماء..)
السلام للماء يولد من خاصرة اليباب
السلام للولادة
اخرج من الماء يا وقت جسدينا
آه، ما أعمق الموت،
ما أضيق خاصرتي الوقت
آه، ما أقسى الولادة
ما أصعب القيامة
ليكن نزف، لا بد من الدم
لا بد من تمزيق أنسجة
السلام لشهادة الأنسجة
السلام للخلايا التي بموتها تفتح الماء
(الجبال مضغوطة، ذرية الينابيع تلقي
نسلها في المسيل المهجور، الحياة تدب في
الحصى، وترقص سلسلة الصليل)
الينابيع
أعرف فاتحة التفجر
البسملة التي تشق السواقي
التي تقطع حبل السرة بين الماء والوقت
(هكذا امتلكتهما شهوة السيل، حلم
أن يكون جسداهما الغرق)
ليكن جسدانا
قبتين من الماء، أو قبتين من الدم
غيمتين من النار، أو غيمتين من العشق
ها، قيامتنا تبدأ من الحمرة.
دمشق، آذار 1976
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |