محنة كاليغولا أو(سيرة ذاتية للطاغية الطيب..)
2006-04-24
محنة كاليغولا
أو "سيرة ذاتية للطاغية الطيب "
(يلزمني مذنبون) – كاليغولا- ألبير كامي
لا، قفوا، لستُ رباً لكي تعبدونْ
لستُ رباً، أنا بشرٌ مثلكم
لستُ من علّقَ الأرض تحت السماء وزيّنها بنجومٍ
وشمسين
لستُ الذي جعل الورد والماء والخيل والزيزفون وريش الطيور
وجمَّل أحلامكمْ بالنساءِ الجميلاتِ
لست سوى "كالِغولا" الحزينْ
عابد الخمر والشعر والفلسفةْ...
كالِغولا الذي – مثلكم- كان يبكي إذا لسعتْ قلبه امرأة
ويخافُ من الموت خوف النعاج إذا شمَّ رائحة الموت.
لا. لستُ رباً. ولكنني بشرٌ صالحٌ وحزينْ ..
بشرٌ هدَّهُ اليأسُ.
كنتُ صبياً وحلواً
ولي هفواتُ وأسئلةٌ وخطايا.. وكنتُ أُحِبْ.
كان لي ألفُ قلبْ
لاحتمال جنون الحياةِ...
وألفٌ لحبّ الحياةِ..
وألفٌ لتمجيدها وعبادتها..
ألفُ قلبْ!...
مثلكم، كنت أبكي وأحزنُ.
كنت أخاف وأشقى وأتعبُ..
كان صداع الجمال يمزّق روحي إذا هبّتِ امرأة في دمي
وأنا أتنزّه في ظلِّ شهوتها.
كان قلبي يئنّ إذا شهقتْ، ويئنّ إذا ضحكتْ، ويئنّ إذا
أومأتْ، ويئنّ إذا حرّكتْ رأسها فوق صدريَ فيما أنا أتنفّسُ
أعضاءها في السرير وأنعسُ بين يديها
مثلكم ..
لم تكن بعد قد عصفتْ بثيابي رياحُ الجنونِ.
مثلكم: لبقٌ وحكيمٌ. أغنّي وألعبُ، أحتارُ، أشهقُ،
ألهو، وأسهرُ تحت النجوم لأسألها عن مصيري.
مثلكم.. كنتُ أقصدهُ في صلاتي لكي يحفظ الله روما..
وأعاتبهُ في صلاتي.. إذا خذلَ اللهُ روما...
وأشكره دائماً.
مثلكم: كنتُ أحلمُ ما تحلمونَ، وأبغضُ ما تبغضونَ...
وكنتُ –كأني أُطلُّ على الأرض من خلف أجفانكم-
أتسلّقُ سور الحياة لكي أتنسّم لألاء نعمتها
فأرى ما ترونْ ....
جنةٌ تفتّحُ أبوابها
قمرٌ طائشٌ يتسكّعُ تحت حرير السماواتِ... أزرقَ...
أبيضَ...
أرضٌ مدللةٌ تترنّم تحتَ نعالِ البغالِ السعيدة مسحورةً
بالجمال..
وشمسٌ تصبُّ عصارة أحشائها فوق أسوار روما العظيمة..
... والحبُّ في كل شيّْ.
ثم، في لحظة واحدةْ،
ذهبَ الحبُّ فانسدّتْ الأرضُ دوني
وهبَّ الجنونُ عليّْ..
فتفقّدتُ نفسي: ضميريَ، عينيّ، قلبي، أهواءَ روحي
العفيفةْ..
كلها أكلتْها رياحُ الجنونِ
ولم يبق لي من أحابيلها غير أسلحتي ويَدَيّْ!
قلتُ لي: ذهبَ الحبُّ!!..
ماذا إذنْ سوف تعبد يا كالِغولا الشقيّْ؟؟..
قوّةَ العرشِ؟... أم قوّةَ الذهبِ المرّ؟... أم قوّةَ الموتِ؟!..
: بل قوّتي – قوةّ الله فيّْ...
فجأة نهضَ الخوف ما بيننا: (الخوفُ مِصْيدةُ الموتِ... )
أبصرتكم خائفين، فقلتُ لكم:
لا تخافوا، أنا بشرٌ مثلكم.
ثم أبصرتكم خائفينَ.. فحذّرتكم:
لا تخافوا، أنا لستُ ربّاً لكي ترهبونْ..
ثم أبصرتكم خائفينَ.. فخفتُ عليّْ! ..
قلتُ: يا كالِغولا، لقد بدأتْ محنة الناس.. فليشهدِ
الناسُ!..
قلتُ: إذنْ، بدأتْ.
لا، احترس كالِغولا، احترسْ –قلتُ لي- ونظرتُ إلى فوقُ
اسألُ عمّا أعدّتْ سمائي لي تحت برجِ الجنون
فلم أرَ إلاّيَ فيها...
وصوتي يرنُّ على صخر أبراجها دامياً..
ويؤنبني من أعالي الفَلَكْ...
قال لي: الويلُ لكْ..
قلتُ لي: الويل لكْ..
قال لي: كالِغولا احترسْ..
إن من صار يخشاك يمكنُ أن يقتلكْ...
... ... ...
هكذا نتساوى إذن!..
هكذا نتساوى فنغدو شريكين في محنة الظلماتِ:
تخافونني فأخافُ!
إذن نحن، في محنة الظلمات سواسيةٌ:
عابدٌ... وإلهٌ!..
سواسيةٌ:
هكذا، الآن، ما عاد يمكنني أن أردَّ لكم من عطايا
السماوات شيئاً،
ولكن.. أردُّ لنفسي ألوهية الرجلِ المستطيع
لكي أتسلّى بحريتي.. فأرى الموتَ!..
حريتي سوف تقتلكم أيها الناسُ..
حريتي قبركم.. فاذهبوا.
اذهبوا سالمينْ!...
... ... ...
أيها الناس.. فلتغفروا لي، أنا كالِغولا الحزينْ
كالِغولا الذي عشق الله والناس،
حيْرَتُكم ضلّلتْني
قد غفرتُ لكم ضعفكم.. فاغفروا قوّتي.
ضعفكم قتل الله فيَّ
ولكن..
أنا..
قوّتي قتلّتْني.
قد غفرتُ لكمْ.. فاغفروا لي إذنْ
هكذا نتساوى..
ولكنْ..
أنا الآن غيري!..
... ... ...
أنا الآن غيري..
أدبُّ على أرضكم بيدينِ وساقينِ..
لا قلب لي غير أسلحتي وجنوني
وما عاد يمكنني أن أحبَّ وأصفح..
لا قلب لي، فأنا الآن غيري
وأنتم شهودٌ على ما أُعدُّ من الموت لي ولكم!..
ما الذي كان يمكنني أن أدبّرهُ للحياة سوى أن أقول لها:
حاذري، ذهب الحبُّ، لم يبق لي منه غير ظلالٍ معفّرةٍ
تتسرب من خلل الذكريات، ويأسٍ عظيمٍ يهبُّ على
القلبِ:
يأسٌ. أراهُ وألمسهُ وأصلي له حين أتعبُ..
يأسٌ – إلهٌ ... أهدْهِدْهُ في ظلامي وأرعاهُ
أتبعهُ حيث يمشي.. وأجثو على قدميهِ
: أنا عبدُ يأسي!..
قويٌّ.. ولا ربَّ لي كي أتوبَ إليهِ..
:أنا ربُّ نفسي
ربُّ نفسي اليتيمُ.. وجلاّدُها!!..
ذهب الحبُّ!..
يا أيها الناسُ، ما إذن سوف يفعل من دونه كالِغولا؟!..
ينامُ ويأكلُ؟!..
أم يتسلى بمضغ غبار عناكبه في الظلام..
ويبصقه في الظلام..
ويبكي على نفسه في ظلام الظلامْ؟..
أم يظلّ يدبّ على أربع في رواق ظلماته
مثلما يفعلُ الأعجمُ – الحيوانْ:
يستديرُ.. فيدفن حيرته تحت عشبِ الحياةِ
ويعلك أحزانه فوق جثمانها؟!..
أم يصيرُ إلهاً؟!
!!..
ذهب الحبُّ. ما إذن سوف أفعل لي ولكم؟!..
كنت أبصرتهُ – الموتَ- يرقصُ فوق غطاء السرير
ويلسعني في بياضة روحي!..
صغيرٌ وأبيضُ،
حطّتْ فراشته فوق لحمة قلبي.. وعضَّتْهُ
: موتٌ جبانْ
ضربَ القلب!..
لم أنتبهْ. لم أحرّكْ يداً. لم أقلْ: لا، تمهّلْ..
فقط، كان موتاً صغيراً وأبيضَ!..
أبصرتُهُ لحظةً.. ثم لا شيء.
موتٌ فقطْ..
وظلامٌ يرفُّ على صخرة الأبديَّةِ:
موتْ..
موتُ موتْ!!...
هكذا صرت غيري!..
صار يلزمني أن أهزّ السماء، وأن أجعل الشمس تشرق
من حيث أخطو على صخرة الأرض.
تلزمني معجزات لكي تسكن الروح...
تلزمني قوّة الله!...
يلزمني بشرٌ يسجدونْ..
بشرٌ يصرخونَ، ينوحونَ، يبتهلونَ، يموتونَ...
يلزمني مذنبونْ
كي أرى شهوةَ الله في قوةِ الله!..
يلزمني دمكم كلّه كي أعيش
وآلامكم كلها كي أطمئن خوفي
وخوفكم كله.. كي أنام بلا ندمٍ أو ألمْ
ولكي يهدأ القلب..
يلزمني أن أرى نهر روما العظيم
يصير إلى نهرِ دمْ.
فاذهبوا الآن،
أو.. فاذهبوا.
إنكم تضجرون ضميري وعقلي
تضجرون ذراعي وسيفي وحريتي وعذابي – عذاب الشياطين
لا. انتظروا بعد. لا تتركوني وحيداً مع اليأس..
هيا، ارقصوا، أسعلوا، عانقوا، ارتجفوا، ضاجعوا،
قوقئوا كالدجاج، انبحوا، زقزقوا،
إفعلوا أي شيء لكي أتسلى. ضجرتُ.. ضجرتُ
وأضجرُ أكثرَ...
تضجرني قوتي وجنوني وقلبي وعينايَ
يضجرني أنكم واقفون، ويضجرني أنكن راكعون
وتضجرني نزواتي
ويضجرني ضجري.. وعنادي.. ويأسي،
ويضجرني الحبُّ...
تضجرني قوة الله.
... ... ...
قلتم: مريضٌ
وقلتم: سيشفى
وقلتم: غداً تستعيدُ الحياةُ جنينَ الحياةِ الذي يُفتَقَدْ.
غير أنْ...
كنتُ أبصرُ في خوفكم خوف نفسي الذي يتصاعدُ
أبيض أسود ناراً دخانا جنوناً زبدْ
ورأيتُ الذي لا يراه أحدْ:
قوتي – قوة الموتِ...
موتي وموت الجميع!!...
... ... ...
إذن، ذهب الحبُّ!!..
صرتُ، وقد ذهب الحبُّ، أكره ما يفعلُ الحبُّ
أكره محظيتي وحصاني ونفسي.. وأكرهكمْ.
ذهب الحبُّ؟ .. فليذهب الحبُّ.
قلتُ: إذن، كالِغولا انتقمْ
انتقمْ... من براءتهم من الله.
راهنت أن سوف أجعل منّي إلهي.
وراهنت أن سوف أجعل منكم غباراً
أُشعِّثُه بيدي وأحشو به رحم الأرض.
راهنت أن سوف أجعل من صوف أرواحكم شرشفاً
لسريري..
وسجادة لصلاتي..
وقبعة لحصاني المهانْ
.. وراهنتُ، راهنتُ
لكنْ...
خسرت الرهانْ
... ... ...
كنت أعرفكم: جبناءُ ولكن قساةْ
جبناء.. ولكنكم قادرون على قتل ربّ الحياة
إذا لمست مدية الموت لحم الحياة.
كنت أعرفكم جبناء... فراهنت
راهنت أن سوف أجعلكم حفنةً من دخانْ
تتفتت في أبدية هذا الزمان الدخانْ.
كنت أعرفكم جبناء.. فراهنتُ
راهنتُ .... لكن
مثلما كنتُ أعرف شهوة قلبي
كنت أعرف أني أدوس على مخلب الموت!...
من أجل ذلك راهنتُ
راهنتُ حتى ... خسرتُ الرهانْ.
***
أبداً... لم تكن هبّةً من جنون
بل هو الخوفُ، فانتبهوا..
وحده الخوف مَنْ شَحَذَ المدية – الموت
انتبهوا أيها الأخوة السامعونْ
إنه الخوفُ.. مقبرةُ الأرضِ، مقبرةُ الحبِّ،
مقبرة الأقوياء ومقبرة الخائفين.
أبداً... لم يكن كالِغولا إلهاً لكي تعبدونْ
لم يكن غيرَ ربٍّ صغيرٍ أطاحته قوته – خوفُهُ...
بعض ربّ صغير.. مضى
بعد أن جعل الأرض تبكي على أمها الأرض.
ربّ صغير
تعبت منه جدّتُهُ الأرض
ثم أعادته "حياً" إلى أبديته الأمِّ في ظلمات الفلك
ربّ يأسٍ صغير
جعل الحلم المنتهك
حلماً قاتلاً!...
كالِغولا الذي كان يقتلُ أحلامكم
كان – في قلبه- يقتل الله...
اسمع إذن كالِغولا
كالِغولا، أخي وأبي وشبيهي ومالك نفسي،
أما قلت لكْ
إنْ من كان يخشاك
يمكن أن يقتلكْ!!..
*
كالِغولا إذن.. لا أحدْ.
محضُ صوتْ
هبّ من عتمة الأبدية
ثم اختفى ذائباً في دخان الدخان!..
كالِغولا إذن.. لا أحدْ
محض صوتْ
صوت ربّ صغيرْ
أسود، طالع من عماء الجنون ومن ظلمات الجسدْ
لا أحدْ ..
محض صوتْ
كان يحلم بالأبديّةِ ..
والله...
والقمر الصعبِ..
لكنْ...
أبديّتُهُ قتلت نفسها!!..
محضُ صوتْ
هبَّ من أبديةِ موتْ.
محضُ صوتْ
ذابَ في ... أبديةِ موتْ!!..
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |