رُعبُ الأمن
2008-08-24
في الأسبوع الأول من وصولي إلى فرنسا منذ حوالي خمس سنوات، أخذتُ القطار من باريس إلى ﭭيرساي. ما أن انطلاق القطار حتى دخل ثلاثة من رجال الشرطة إلى العربة التي كنتُ فيها، نظروا إلي المسافرين وما أن توجَّهت نظرات أحدهم إليَّ حتى تقدّم نحوي، حيَّاني ثم طلب مني أوراقي الثبوتيّة فأبرزتُ له جواز السفر. سألتُه مُرتَعباً أنا الوافِد الجديد: هل هناك مُشكلة؟ أعاد لي جواز السفر بعد أن تحقق من معلوماته شاكراً إياي مرَّة ثانية ثم قال: لا، ولكنك ارتبكتَ لمّا شاهدّتنا فشككنا بك، لماذا خفتَ في الحقيقة يا سيدي؟ سألني الشرطي.
لماذا خفت؟! أهذا سؤالٌ يُسأل؟! لم يكن شكّه بارتباكي أقلّ من شكّي لحظتها بأنّه شرطيّ حقيقيّ. إذ ليس عهدي برجال الأمن والشرطة بمثل هذا التأدُّب والاحترام فهو لم يشتم ولم يضرب ولم يلعن سلسفيل أجدادي، بل على العكس لقد حيّاني مرتين وكان يُخاطبني بصيغة الجمع ويناديني بسيّدي والأهمّ من ذلك كله لم تَنُمَّ ملامحه عن حقدٍ دفين مجهول المصدر كما هو حال رجال الأمن في بلادنا العربيّة. لولا البزّة الرسميّة التي كان يرتديها والتي كُتِبت عليها كلمة police لأقسمتُ أنه شرطيٌ مُزيَّف.
لماذا خفت؟! أيّ سؤالٍ مُضحك هذا!! كيف كان لذلك الشرطي الجاهل بواقع حالنا أن يفهم أنّ لرجل الأمن في بلادنا العربية سلطات مُطلقة لا يمتلكها الرئيس الفرنسيّ نفسه والتي تتفجر على شكل حقدٍ عسكريٍّ أعمى ضدّ كل ما هو مدنيّ ومُتحضّر؟ كيف كان لي أن أشرح له أننا متهمون أمام حكوماتنا إلى أن تثبتُ براءتنا وأننا رضعنا من "ثقافة الخوف" حتى أصبحت مُكوِناً من مكونات زمرنا الدموية وأنسجتنا الحيّة؟ قلتُ في نفسي، بعد أن مضى الشرطيّ دون أن يعرف سبباً وجيهاً لخوفي،: لا شكّ أنّ لهذا الشرطيّ الفرنسيّ ثقافةً مُختلفة عنّا نحن العرب فمن المؤكد أنه تعلَّم كيف يصون القانون، ولكنه لم يقرأ "شرق المتوسط" أو"الآن وهنا" لعبد الرحمن منيف ولا "رائحة الخطو الثقيل" أو "النحنحات" لإبراهيم صموئيل ولا رواية "شرف" لصنع الله إبراهيم ولا "الزيني بركات" لجمال الغيطاني ولا... ولا....ولا.... هل كان سيفهمني يا تُرى لو أعدتُ عليه جواب الشاعر محمد الماغوط: "لأنني منذ الطفولة وحتى الآن، كلّما تَحركَتْ ستارةٌ، سترتُ أوراقي بيدي كبغيٍ ساعة المُداهمة"؟
ما كان اندهاشي بما حصل ليتبدَّد إلا بقضائي مزيداً من السنوات في فرنسا لأُدركَ أنّ رجل الأمن فيها هو مُجرّدُ موظف مهمّته تطبيق القانون وإحلال الأمن وليس اغتصاب العدل ونشر الرعب.
في قواميس السياسة تنقلب المعاني إلى نقائضها فهي تُرفَع ليُمارس ضدّها المباشر، فالكثير من بلداننا ترفع شعار الديمقراطية ولكنها تستبد بأفراد شعبها الذين تعتبرهم رعايا لا مواطنين ليس لهم الحقّ في المشاركة السياسية ولا في تقرير المصير يسوسهم حاكمٌ مُطلق الصلاحية وطغمةٌ مستفيدة جاعلين من حدود الوطن جدراناً لسجنٍ طبيعيّ كبير. المُضحك المُبكي أنّ قواميسنا العربية "العتيقة" تُقدِّم بدورها شرحاً مقلوباً للمفردات فنحن نقرأ في لسان العرب مثلاً أن :"الأمن ضدّ الخوف [...] فأما آمنته فهو ضدّ أخفته." لو كان ذلك صحيحاً لماذا تُخيفنا إذاً عبارة الأمن، ولماذا يُثير رجل الأمن عندنا حالةً من الفزع الغريزي؟ لماذا نشعر بقلق المجرم في حضرة رجال الأمن ولماذا نتحاشاهم ونفرّ منهم كالفئران المذعورة؟ لماذا احتلّ رجل الأمن فينا مكان الضمير ليثير فينا رعباً داخلياً حتى في أحلامنا وتداعيات أفكارنا؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
هل انقلبت آيات القرآن الكريم ليصبح "وآمنهم من خوف" هو "وأخافهم من الأمن" وهل صار "البلد الأمين" دولةً أمنيةً تُطاردِ مواطنيها المجردين أصلاً من أيّ قانونٍ يحميهم؟
حتى على الصعيد الدولي تثير مقولة الأمن حالةً من الفزع الأبله حيث يُرفَع شعار الأمن لُيطبَّقَ نقيضه. لقد تحوَّلت فكرة الأمن إلى عصا في يد شرطيّ العالم: الإدارة الأمريكيّة. ففي كل مرَّة تُعلن فيها هذه الأخيرة عن عزمها إحلال الأمن في منطقة مّا، حتى يشعر العالم بالرعب لما يمكن أن يحُلَّ بأبرياء تلك المناطق. تحت ستار الأمن تنمو مصالح أميركا المُتجبِّرة ويزداد إرهاب العالَم، وتحت ستار تحقيق أمنها، أنشأت إسرائيل ترسانة نووية تنشر الرعب في منطقة الشرق الأوسط.
هل يأتي يومٌ يصبح فيه الأمن في بلادنا باعثاً على السلام والشعور بالطمأنينة بدلاً من إثارة الذُعر في نفوس الأبرياء المهمشين والمغلوبين على أمرهم؟ أم أننا سنظل نردِّد إلى أبد الآبدين تلك العبارة المنسوبة لعليّ بن أبي طالب (هذا إذا لم تخنّي ذاكرتي "المرعوبة") والتي تقول: إذا وجدتَ شرطياً نائماً فلا توقظه، لأنه يقوم يُنَكِّلُ بالناس!؟
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |