طقوس الخصب الروحي في وادي الرافدين
خاص ألف
2006-11-15
( في الشبق الالهي المقدس و لازورد اللغة)
لم يقتصر النضج الفكري وبناء وازدهار حضارة السومرين ( تطورت الثقافة السومرية مابين 2000- 3500 قبل الميلاد ) عليهم فحسب وانما كان تأثيرها مستقبليا ، وهذا يؤكد القدرة الديناميكية الشمولية للعقل السومري الذي أُعتبر عقلا مشاكسا لانه يعتمد السؤال كمنهج لتفسير غموض الظواهر الطبيعية والحياتية ، فالسؤال بدء المعرفة ،مما يؤدي هذا الى تراكمات حضارية . وينطبق مبدأ المشاكسة على الروح السومرية ايضا ، لانها روح تتمثل قساوة وتناقضات الطبيعة وهارمونيتها بكل امكانيات البصيرة وتحولها الى أجمل القصائد العاطفية والفلسفية والوجودية ، فتتميز كلغة شعرية للطقوس والاساطير التي تثير الخوف والرهبة في الانسان السومري ، لكنها مازالت تؤثر فينا بامكانياتها التعبيرية وعبورها اقيانوس الزمن ، لذلك مازلنا مذهولين امام الكثير من رموز تلك الاحلام العجائبية المدهشة التي وصلتنا .
وقد كان لآلهة الخصب والحب السومرية (أنانا ـ دموزي ) وبعد ذلك ( عشتار ـ تموز في بابل ) أثر ومكانة خاصة في اساطير وملاحم وطقوس السومريين والبابليين والاشوريين والحضارات الاخرى ، نتيجة للتاثير المتبادل بين الحضارات التي تكاملت في المنطقة حتى ذروتها الحضارية ومن ثم انهيارها حتى عدمها . ( يتوسع عالم الاثاريات صموئيل نوح كريمر بإسهاب عن العلم الكوني ـ الكوسمولوجي ، السومري في كتابه " طقوس الجنس المقدس عند السومرين " ).
من هذا المنطلق علينا ان نفهم الا همية القصوى لمشاركة انسان مابين النهرين في هذه الطقوس والمناحات الدينية الخاصة بآلهة الخصب في المعبد لدرجة التطهير من كل ادران الآثام كما هو الحال بالنسبة الى اهمية التعزية الحسينية عند الشيعة والمسلمين في وقتنا الحاضر ) .
وأزاء مانملكه من معلومات آثارية اكثر وضوحا ودقة عن الحضارة البابلية كما يؤكد معظم الباحثين الأركولوجين حتمه اكتشافهم تطورا في ديانة بابل وجوهره ينص على ان اسطورة الاله القتيل ـ تموز ـ وقيامته من جديد كانت تعاد سنويا في احتفال ديني طقوسي ضمن مهرجان السنة البابلية الجديدة ويساهم به مجموع الشعب وهو مايشبه الاحتفال بالربيع والخصب والحياة الجديدة .
وقد لاحظ البروفسور فرانكفورت ( في كتاب ماقبل الفلسفة ، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا ) بان السومرين والبابلين لم يروون اساطيرهم وطقوسهم شفاها فحسب بل كانوا يعيدونها اما م الجمهور المتدين من خلال الطقوس الكهنوتية ، وهذا التأكيد الافتراضي أيضا لا يفترض وجود مسرح بالمعنى الواضح للكلمة ، وانما من الضروري ان نتذكر دائما ان الامر مشابه الى المناحة او او الرثاء او المنقبة الدينية التي يتكفل كهنة المعبد القيام بها ( وسنعود لهذا الامر ) .
لقد وصلتنا بعض الطقوس الرئيسية المرتبطة بالثقافتين السومرية والبابلية وهذا التداخل بينهما يحتمه طبيعة كون الحضارة الجديدة تأخذ الكثير من اسس ديانتها وطقوسها وثقافتها وآلهتها ـ مع تغير أسمائها ، من سابقتها . لذلك فان أهم هذه الطقوس هي :
طقوس الزواج المقدس ـ أي زواج الالهة السومرية (إنانا ودموزي ) والبابلية ( عشتار ـتموز ).
طقوس بدء الخليقة .
طقوس تاريخية ، او مايسمى برثاء المدن ، واهمها ( رثاء أور ) وهي طقوس كانت تقدم من قبل الكهنة والملوك أنفسهم ( لأسباب سياسية واجتماعية حتى يستطيعون تثبيت سلطتهم باسم سلطة الالهة الذي يحتفلون به ) ، وتعتبر جزءا من التصورات الروحية والثقافية للمجتمع القديم ، وما تراجيديتها فهي نتيجة لتراجيدية الأحداث ومصائر ابطالها من الالهة التي أقيمت من اجلها هذه الطقوس والتي تخيلها الانسان على شاكلته .انها طقوس التكرار السنوي لخلق العالم وتجدد الولادة بالعودة الى الزمان الاصلي، الى البدء . ولهذا يمكن اعتبارها طقوسا دينية وتاريخية واجتماعية فيها تاكيد الرهبة من الالهة والكثير من الدرامية والموعظة الفلسفية وهذين الجانبين هما الاكثر وضوحا في هذه الاساطير والطقوس مما يساعد على ادائها كل عام اضافة الى ان القصيدة السومرية والبابلية متعددة الاصوات والايقاع ( مما يقربها من الحوار الدرامي ) وهذا هو الجوهر الذي يجب ان يثار الان والذي من الضروري الأخذ به كحد فاصل بين تراجيدية وشاعرية القصيدة الرافدينية و تعدد ايقاعها واصواتها ، والادعاء غير المبرهن عليه من قبل البعض بوجود مسرح او دراما مسرحية في هذه الحضارات القديمة .
ان اهم الطقوس الرافدينية والتي كانت تقام سنويا هي طقوس رأس السنة البابلية وتتكون من :
طقوس الزواج المقدس
طقوس الحزن الجماعي لموت وقيامة الاله دموزي السومري ( تموز البابلي ).
وعادة فان هذه الطقوس كانت تؤدى كطقس متكامل على مدى أيام حيث يحل الكهنة والملوك فيها كبدائل للإله .
وهي طقوس حزن وابتهاج في آن واحد لماساة الهة الخصب وحجز الاله تموز في العالم الاسفل ، ومواساة شعب وادي الرافدين لالهة الانوثة المقدسة انانا ـ عشتار لحزنها على حبيبها من اجل انقاذه من الموت .
ولهذا فان تقديم طقس زواج الآلهة (إنانا) من الإله دموزي سنويا يدلل على مدى تعلق إنسان وادي الرافدين بآلهة الخصب ،لانه بدون سيدة الانوثة والشبق ـ والتي تعد ارهب الالهات جميعا ـ لا يتم اخصاب في الحياة ، ولانها هي التي تنزل بذرة الخصب ( ماء قلب الرجل ) في رحم المرأة :
( انا المعدن الحنون
انا من يدفع الرجل الى المرأة ،
ويدفع المرأة الى الرجل .
بدوني .....سيضطجع الرجل وحيدا في غرفته ،
وتنام المراة على جنبها وحيدة . )
فتقرر إلهة الموت ارشيجال :
( اما تموز زوجها الشاب
فخذوه واغسلوه بماء طهور وضمخوه بالعطور الطيبة .
ألبسوه عباءة ودعوه يعزف نايه اللازوردي
ولتحط به كاهنات عشتار يهدئن من خاطره )
مما بحتم هذا الى ان يبدا الشعب الابتهاج بقيامة الاله من جديد حتى يعم الخصب والربيع في عيد سنوي مقدس تبنته جميع الحضارات الاخرى التي سكنت المنطقة .
وتشكل عيد راس السنة البابلية من اندماج عيدين قديمين وكان يستمر لمدة ثلاثة ايام في شهر نيسان .وكما يؤكد فراس سواح في كتابه القيم لغز عشتار ( يتم في اليوم الاول بكاء تموز الميت وتمثيل عذاباته وآلامه ، بشكل يدفع جمهرة المحتفلين الى هستيريا جماعية ، يتخللها الى جانب النحيب والعويل ، لطم الخدود وتمزيق الثياب وما الى ذلك ، وفي اليوم الثالث عندما يعلن الكهنة قيام السيد ( الاله ) من بين الاموات ، ينقلب الماتم الى عرس وتبدا احتفالات العيد الحقيقية ، التي يتخللها السكر والمجون والرقص والموسيقى والممارسات الجنسية ( الاباحية ) ، و تلك هي عدةالغيبوبة العشتارية التي تعبر بالمريد من جفاف الشمس الى نداوة القمر ) .
ومن خلال تتبع حيثيات طقوس الزواج المقدس ، نلمس قدسية اللغة المليئة بالرمز الجنسي الإباحي والالغاز التي تدلل على قدسية الخصب وكل هذا يجر ي على لسان الهة الخصب ممثلة بالكاهنة والملك والكهنة منظمي العيد ، وتدلل مثل هذه اللغة على قدسية ودور المواقعة الجنسية المقدسة وعلاقتها بالخصب في الحياة ، لانه زواج بين اله مقدس دموزي ـ تموز ، يقوم به الاله ( الملك نيابة عنه ) وآلهة أكثر قدسية هي إنانا او عشتار تقوم الكاهنة نيابة عنها (التي ستصبح بعد ان يفض الملك بكارتها ، من المومسات المقدسات لتعيش حياتها في معبد الالهة وتنقطع نهائيا لعبادتها ويحرم عليها ممارسة الجنس ، لكن يمكنها ان تختار من يضاجعها من الكهنة متى تشاء ، لذا فان المومسات في المجتمع السومري والبابلي ليست مهانات اجتماعيا بل انهن محترمات و مقدسات ، يمتهن حرفة ترعاها الالهة انانا ـ عشتار باعتبارها الهة الخصب و الحب والجنس والشبق الالهي ايضا .
لذا فعيد راس السنة البابلية هو عيد مقدس تجلس فيه نساء المدينة بغض النظر عن كونهن متزوجات ام لا ، في معبد عشتار ويمر الرجال للاختيار مقابل ان يلقي كل منهم قطعة نقد صغيرة ليختار المراة التي يشاء فتتبعه الى البيت لتصبح زوجته المباركة من قبل الهة الحب ، اما اطفالها اذاكانت متزوجة فحسب رغبتها ورغبة الزوج السابق يمكن ان يعيشوا معها ويرعاهم كابناؤه بدون ان يتخلوا عن اسم الاب الحقيقي ، ويمكن للمراة ان تعود الى الزوج السابق بموافقة الاطراف المعنية ) .
وعودة لطقس الزواج المقدس فمن المعروف ان كهنة المعبد يتدخلون في قوانين السماء لصالح الواقع وبالذات لسلطة وخدمة الملك ظل الرب على الارض بل هو الرب في بعض الحضارات . وكما يؤكد صموئيل كريمر (في المصدر السابق :طقوس الجنس المقدس ) ان الكهنة اعتنقوا فكرة تدخل الاطمئنلن والبهجة على قلوب الناس ومضمونها هو ان مليكهم قد اصبح عاشقا وزوجا للالهة انانا ـ عشتار وبذلك يشاركها قوتها وقدرتها على الاخصاب التي لاتقدر بثمن ويشاركها خلودها ايضا .
فمن خلال لغة متفجرة فيها الكثير من روح المعاصرة يعبر لنا الشاعر القديم عن جو هذا الاتحاد المقدس بكثير من القدسية ومشاعر الشبق المتدفقة كشلال من اللازورد ، وتلك البركة التي يحصل عليها الرجل والمراة من ممارسة لذة الاخصاب ، وهو اخصاب يتبارك فيه ويتجدد من خلاله كل كائن وكل نوع في الطبيعة والحياة .
( في يوم راس السنة الجديدة ، يوم المراسم
اقاموا مخدعا من اجل مليكتي
يطهرونه بجرار مليئة بالأسـَل والأرز
وعليه يمدون الشراشف ،
شراشف تبهج القلب ، تجعل الفراش عذبا .)
ويورد لنا كريمر وصف الشاعر السومري للالهة انانا في يوم الزواج المقدس:
( استحمت انانا بالماء ودلكت جسمها بالصابون وارتدت طيلسان السلطة( وكانها تستعد للحرب ) وحملت دموزي على الاستجابة لدعوتها فانشدت اغنية تغنت فيها بفرجها المقد س الذي شبهته كاثمن مكونات السماء( ما عدا الالهة) والارض لانها تعرف بان ديمومة الحياة تموت بدون ماءه المقدس ، ربة الحب شبهة فرجها بقارب السماء وبالهلال ، والارض المـُراحة والحقل العالي والرابية الجميلة :
( اما من اجلي ، من اجل فرجي
من اجلي ، الرابية المكومة عاليا ،
لي ، انا العذراء ، فمن يحرثه لي ؟
فرجي الارض المروية ـ من اجلي
لي انا الملكة ، من يضع الثور هناك )
فياتيها الجواب :
ايتها السيدة الجليلة ، الملك سوف يحرثه لك ، دموزي الملك ، سوف يحرثه لك .
( الملكة الجليلة انتظرت على توقع ،
دموزي اقتحم الباب ،
طلع في البيت مثل نور القمر ،
وحدق فيها يغمره الفرح
ضمها الى صدره وقبلها )
ويكمل شاعر اخر من السلف الصالح الطقس الجنسي المقدس :
( الملك يذهب رافع الراس الى الحضن القدسي ،
يذهب وراسه مرفوع الى حضن إينانا .
أما شوم جال أنا ينام معها
يلاطف حبا حضنها القدسي .
وبعد ان استراحت الملكة طويلا على الحضن القدسي ،
تمتمت......
ياادين داجان ، انت يا... يا ... ياه)
وبعد هذا اللهاث المقدس ، يتمنى شاعر اخر ان تبارك الالهة الملك وتثبت حكمه :
( الشمس ذهبت لتنام ، النهار انقضى ،
فيما انت في السرير تحدقين فيه ،
فيما انت تمسدين الرب ، فيما انت تمنحينه الحياة ،
امنحي الرب الصولجان والمحجن .)
( امنحيه تاجا لا يبلى ، واكليل نور على راسه .
من حيث تطلع الشمس الى حيث تغرب الشمس
من الجنوب الى الشمال ... )
وفي نهاية المضاجعة المقدسة تشيع الخضرة في كل مكان :
( في حضن الملك وقف الازر الطالع
الزرع طلع عاليا بجانبه ،
الحبوب طلعت عالية بجانبه ،
والبساتين ازهرت خصبا بجانبه .)
وبعد ان شعرت (الالهة ـ الكاهنة ) بالسعادة نطقت حكمة مقدسة من اجل ان تحافظ على النو ع ووفرتها من الماشية والحبوب والخير الكثير لاهل البلد :
( يازوجي ، المخزن الكبير ، الاصطبل المبارك ،
انا انانا ، سوف احافظ عليه من اجلك
سوف احرس بيت الحياة الذي لك
مكان العجائب المشع في البلاد
ذالك البيت حيث قـَدَرُ جميع البلاد يكتب ، حيث الناس والاشياء الحية يعملون بهـدّ يه
انا اينانا سوف احافظ عليه من اجلك )
وبعد ليلة الزواج المقدس تعلن الكاهنة (الالهة ) بركتها امام المدينة وتقرر مصير الملك والبلاد وتتنبأ بما ستكون عليه السنة الجديدة . وعادة فان قرار الالهة يكون بجانب الملك وسلطته والدعوة لتجديد حكمه للبلاد في المستقبل .
( ايها الثور البري ،
ياعين البلاد ،
سوف آتي بالحياة الى اهلها .
سوف ألبي جميع حاجاتها .
واحمل اهلها على تنفيذ العدالة ،
في البيت الفخم
واجعل كلمات العدل في البلاط تنطق )
او كما جاء به شاعر آخر :
( القصر في الاهازيج ، الملك في الحبور ،
قـُرْبَ الناس الذين اشبعتهم الوفرة ،
اما وشوم جال انا يقف في حبور دائم ،
لتدم ايامه على العرش المثمر . )
وابتهاجا بما قررت به الالهة على لسان الكاهنة فان الملوك والكهنة في مختلف حضارات وادي الرافدين يقيمون احتفالات فيها الكثير من العبث لدرجة انها تتحول الى كرنفالات اباحية ن وبالتاكيد فان هذا يمنح الاغاني والقصائد امكانية ان تكون متعددة الاصوات وذلك لتعدد الاحداث ومكونات الاحتفال ، وبالتالي لتنوع الاشخاص الذين يساهمون بتمجيد الالهة .
وردت الكثير من القصائد المتعددة الاصوات والايقاع وقد يشترك فيها اكثر من صوت مما توحي وكانها حوارات لشخصيات تتحدث . لكن الامر لا يعدو كما قلنا اكثر من ان طبيعة الشعر في الحضارات الرافدينية القديمة هو شعر ومناحات حواريةلالأسباب التي ذكرناها . ففي القصائد التي كتبت عن قلق اينانا عشتار في اختيار حبيبها وقلقها في تفضيل الفلاح ام الراعي دموزي فانها لم تقتصر على صوت انانا والفلاح والراعي فحسب ، واضافة الى صوت الشاعر تعدته الى اصوات اخرى مثلا للأم الالهة او شقيقها الاله أوتو وغيرها .
لذلك فان المهم لنا والاجدى هو تشخيص درامية وتراجيدية النصوص والقصائد السومرية والبابلية كشعر ومناحات ومناجات حوارية مع الالهة ، والتأكيد على ان الملاحم والاساطير التي وصلتنا متداخلة مع طقوس وفعاليات فيها الكثير من الملامح الدرامية اضافة الى تشخيص السرد الاسطوري والتعدد الصوتي والايقاعي في القصيدة الواحدة مما يسهل إلقائها وأدائها امام جمهور المعبد المتدين ، و يثير هذا بالتاكيد الرغبة في المشاهدة والمشاركة مما يؤثر على روح وذاكرة الانسان الذي يستجدي بركة الالهة وعطفها خوفا من غضب و انفلات الظواهر الطبيعية . ويعتبر هذا من اهم أهداف الشعر الديني و درامية القصيدة الطقوسية واسباب تراجيديتها في بلاد الرافدين اصحاب الرؤس السوداء .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |