الينبوع
2006-04-05
الجمود يرين على المكان. جمود هادئ صلب قاس كجدار. ما من حركة أو همسة أو إشارة. الهواء نفسه ساكن. النوافذ مغلقة والجدران كتيمة. الأرض المفروشة بالرخام الأبيض قاسية باردة.
اخترق هذا الجمود من باب زجاجي كبير ساكن، فألج صمت القاعة الكبرى. ينغلق الباب ورائي بهدوء تام من تلقاء نفسه، ولا يسمع له صوت أو أزيز، كأنه ما انفتح ولا تحرك قط.
أسير متمهلاً في فسحة القاعة فأراها تمتد أمامي بعيداً وتفضي إلى قاعات أخرى كثيرة مشابهة لها. الصمت في كل مكان. تضيء القاعة نوافذ في أعالي الجدران، مستطيلة واسعة تتصل بالسقف منها.
القاعة الكبرى ملأى بالواجهات الزجاجية المرصوفة أمام الجدران، تحفل بمختلف المعروضات. تحف وآثار كثيرة ترجع إلى عهود غابرة كانت مدفونة في الأرض كرمم بالية. وها هي ذي تعرض ههنا في أناقة وذوق. يحيط ناظري بأرجاء القاعة كلها، وبكل ما فيها. أصوات ضعيفة تنبعث من بعض القاعات المتصلة بهذه القاعة: ثمة أناس واقفون من بعيد، يتوسطهم رجل يرتدي ثوباً رسمياً ذا شكل خاص، يتحدث إليهم بكلمات لا تلتقطها أذناي، لعله يشرح لهم تاريخ هذه التحف، لا أبالي به وبما يقول. ثم أراه يبتعد مع مجموعته، فأبقى ههنا في الصمت.
أسير بضع خطوات متمهلاً مستأنياً. فأحاذي، في لامبالاة، تمثالاً أبيض ناصعاً، لم يكن قد استرعى انتباهي أول الأمر، وأتسمر في مكاني. تنسل منه خيوط من النور وتنسكب علي، أية يد ماهرة صنعت هذا الجمال؟ وأرى الفتاة بضفائرها الطويلة وثوبها السابغ تنظر إلي، وقد حملت في يديها أناء يفيض منه الخير والعطاء. اختلج في مكاني وأشعر بالاضطراب. منذا الذي جاء بك إلى هنا؟ وكيف قطعت هذه المسافة كلها؟ وأراها ما تزال تنظر إلي، وطيف ابتسامة خفرة تلوح على ثغرها العذب.
أشعر أني غدوت عاجزاً عن الوقوف. تلتصق بالجدران خلفي مقاعد جلدية وثيرة، فأقتعد واحداً منها. يزداد الضوء سطوعاً في القاعة الكبيرة الخالية. ويبتعد جموع الزائرين وينأون، ويختفي كل صوت إلا صوت السكون المخيم فوقنا. أذهل عن كل ما تضم القاعة، وأظل أنظر إلى هذه الفتاة في وقفتها الرشيقة هذه. ينبعث منها عطر عذب كالبخور. أحب هذا العطر الإلهي، وأشعر أنه يبعث في النشوة والخدر معاً.
أقول: هذه هي المرة الأولى التي أراك فيها.
وأضيف وأنا أسترد أنفاسي: عنك كنت أبحث وإياك أنشد.
تقول في صمتها: وهل كنت تعرفني؟
يغيم المشهد، أشعر أن عيني ترتجفان. ترتسم أمامي دوائر سود. تحاصرني غشاوة كثيفة. وأعود إلى نفسي. أنحدر إلى الداخل إلى الأعماق. إلى يم الأعماق، حيث الظلمة المطبقة والهدوء الشامل.
الجمود القاسي يتقطع. المزق المتناثرة تتآلف. تتركب. يلتم بعضها إلى بعض. تسمع نأمات وهمسات، وأصوات ضعيفة. تتجمع. تتداخل. تتحول إلى حروف فكلمات فمقاطع. تقول، تكرر:
- هل كنت تعرفني؟
لا، لم أرك قبل اليوم. أقول: هذه هي المرة الأولى التي أراك فيها.
- كيف تبحث عني إن لم تكن تعرفني؟
أبهت فأغدو عاجزاً عن الكلام. أقول في نفسي، في حيرة، كيف أبحث عنها، كيف كنت أبحث عنها، وأنا لم أرها قط؟ في ذلك ما يثير قلقي واضطرابي. أسري عن نفسي: افترض.. أقول: لعلها كانت ثاوية في أعماقي، في أعماق وجودي. وسرعان ما أتساءل: ولكن.. منذ متى؟ يختفي العالم من حولي اختفاء تاماً وأغوص في ظلام دامس: مزيج من الصمت والعتمة حيث لا سمع ولا بصر ولا لمس ولا تنشق. وأرك آنذاك أنني عرفتها في الزمن العتيق، في الزمن الأول، قبل أن يكون الزمن. يوم لم يكن العالم. يوم كان العالم سديماً. ترهف سمعها فتعي ما أقول. ثم تبتسم وإذ تبتسم تشرق ملء السماء أقمار لا حصر لها وتتوهج بالنور. وتضيء آلاف النجوم زرقة السماء دفعة واحدة.
أقول: في فترات البحث الطويل عنك، في فترات الترقب والانتظار، والتطلع والشوق يجف حلقي واشعر بالظمأ، وما من شيء يروي ظمئي.
يتصاعد البخور، من أردانها يعبق ويفوح. يلامس يغطي ضفيرتها السابغة، يتكاثف هالة من النور حول وجهها القمري الأبيض. ثم تتألق عيناها. هذا التألق في عينيها أحبه، يسحرني ويشدني. أنظر إليه أحاول اختراقه:
- إن كنت ظمآن فأدن مني وأشرب من هذا الإناء.
أقول في وجل وألم:
- مياه الأرض تضاعف من ظمئي، تزيد النار في نفسي اضطراماً. ولطالما استسقيت فما رويت.
تهمس في خفر وثقة:
- أدن مني، أنك إن تشرب من هذا الإناء ترو إلى الأبد، ولن تشعر بالظمأ من بعد.
أدنو منها في خشوع وتهيب، كمن يمارس شعيرة مقدسة. ثم أجثو على قدمي أمامها. يبتل لساني بقطرات عذبة لا يشبه طعمها طعم أي أكسير، وتختفي السنون المواضي العجاف حيث لا حزن ولا فرح ولا ألم ولا سعادة. وأشعر أنني قادر على أن أطير، كالطير وأن لي قوادم قادرة أن تحلق حيث تشاء. وأنطلق أحوم وأضرب في فيافي نجد كالمجنون لجنونها، أخط صورتها على رمال الصحراء، أرسم صورتها بطرف غصن يابس، فتذر الرياح ما أخط.
أمد يدي ضارعاً، أدعوها إلى الجلوس بجانبي، أدعو الجمال، جمالها العذب، فيستجيب. تتوسع حدقتا عيني وأحملق مدهوشاً. القدمان الصغيرتان الرشيقتان تخطوان من فوق القاعدة الخشبية. تضع القدم الأولى على الأرض في رشاقة ولطف فلا تمسها إلا مساً رقيقاً، ثم تضع القدم الثانية. تقترب مني وهي تحمل إناءها المقدس، وتجلس إلى جانبي في حنو وخفر.
ألمس يدها فتنبعث الأشواق ويهفو الحنين. حنين السنوات الماضية. أطراف أناملي تخاطبها تكلمها، فتفهم خطابها وترتجف ثم ترتعد. صامتاً أقول: الحب عبادة، وصلتي بك مقدسة. في شريان يدها أحس أن الدم ينبض غزيراً قوياً متدفقاً سريعاً. في شريان يدها يتدفق الوجود ويسري، فيقهر العدم والألم. ما الحياة من قبل ذلك؟ أوراق يابسة ومياه آسنة، وساعة رتيبة الإيقاع وأوهام وأحلام. أقول: تبددي أيتها الأوهام وأختفي أيتها الأحلام، فقد أنار سنا الحب صفحة الوجود. ذراعك متكأ للسعادة. وابتسامتك فرح الحياة. يتصبب العرق من جبهتي، تتلألأ قطرات من العرق كبيرة فوقه. تخرجين منديلك وتمسحين هذه الحبات. في حركة يدك كثير من الحنو، أود لو أشكرك، لو أعبر لك عن امتناني لحنوك هذا، فلا أجد الكلام الملائم، فأكتفي بالنظر إلى عينيك المتألقتين، وأشدك إلي لأشعر بأنفاسك اللاهبة. بينما تزول المسافات، تمحى، فنغدو كائناً واحداً ينظر إلى هناك: الإناء، إناء الخير والعطاء، لم يعد إناء هو كتلة من اللحم الأحمر البض يحرك ذراعيه وقدميه. وله تبسمين، هو قطعة منك، قطعة منا كلينا. وقبل ذلك شعرت أنك تمسكين بي من خوف ومن ألم، وقد برح بك العذاب، ورأيتهم يضجعونك فأجلس إلى جانبك، أمسك يدك مشجعاً، كنت تتلوين ألماً. ورأيت عروق عنقك تبرز، تزرق، تكاد تتمزق، وكنت تصيحين وتستغيثين، يبعدونك عني، يحملونك إلى غرفة أخرى. أجلس وحدي أنتظر. الثانية ساعة، والساعة دهر طويل.
في هذا الظلام الدامس يتحرك شخوص، يذهبون ويجيئون، ينحنون وينهضون: إنهم يمارسون طقوساً مقدسة. أسمع من بعيد حفيف حركاتهم وتنقلاتهم. أصغي إلى صوت اضطرابهم. ما يني صوتك المتقطع المنبعث من أحشائك يستهدف أذني. ويسود الصمت لحظة قصيرة جداً. من قلب الظلام، من قلب الصمت ينطلق صوت ناعم حاد مرهف كنصل سكين، ويخترق كياني كله فأهتز. فيه تتجمع موسيقا البشر كلها.
صوت هذه الكتلة الحمراء من اللحم البض، وأراه يحرك عينيه ويديه ورجليه. لسانه الصغير الأحمر يلوب في فمه، أقول: تبارك رحم الحياة، يخرج النور من النور الوجود من الوجود، به ومنه تتصل الحياة وتتواصل على ذراعي أحملك وأنت حاملة إناء الخير والعطاء. أقول: حاذري أن يعلق بالإناء غبار أو يمسه الهواء. وتضمين الإناء بين يديك، في حذر، وتشدينه إلى صدرك. من هذا الصدر المكتنز يمتلئ الإناء وتروى الحياة.
جموع الزائرين الذين نأوا، يبدو أنهم يعودون. ألمح خيالاتهم من بعيد، ويتناهى إلى مسمعي وأنا جالس على المقعد الجلدي صوت همساتهم ووقع أقدامهم. وسرعان من يبلغون القاعة الكبيرة الغارقة في السكون. تضمحل الرؤى وتلاشى، تغيم ثم تغيب. أنظر أمامي فأرى الإناء فارغاً إلا من ذرات من التراب عالقة بقعره، وأرى الفتاة تمثالاً جامداً منتصباً كما كان قبل آلاف السنين فوق قاعدته.
المصدر: ملحق الثورة الثقافي – العدد السادس 1976
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |