النوم
2006-04-08
أخيراً وقع الشيء الذي كان عواد أبو سعود يخشى وقوعه دائماً. لقد ترك العمل قدم استقالته وترك العمل. فعل ذلك لأنه لم يكن أمامه من سبيل آخر. قال: سوف أمضي إلى بلد لا يقف فيه الناس طويلاً أمام الأفران. ولا يريقون ماء وجوههم من أجل الحصول على الخبز. ولا تحصل مشادات، لا بد أن يوجد مثل هذا البلد في مكان ما.
حمل قلمه ومنفضة سجائره من فوق طاولته واتجه إلى سلم الخروج وقلبه لا يزال يغلي بالغضب حتى أنه لم يحاول أن يمسك لسانه عندما انطلق يقول: وظيفة ملعونة وحياة لم تعد تطاق. لأمت جوعاً لكني لن أعود إلى العبودية.
وبدأ يهبط الدرج مسرعاً. شيء لا يصدق. هو نفسه يكاد لا يصدق أن يترك العمل بعد خدمة ثلاثين عاماً أثر مشادة جرت بينه وبين رئيسه لتأخره عن الدوام من أجل الخبز. ولكن الخبز ليس هو كل شيء. فكر عواد. وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وإن كان هو مفتاح الحروب والسلام. وهو عواد. هو أيضاً بدأ حربه المعلنة من أجل الخبز.
وقال بصوت عال: سوف أعلنها صرخة مدوية من أجل الخبز. واشتعل قلبه بالحماسة وازدحمت في رأسه الصور. وفجأة وبلا أية مقدمات وجد نفسه يقف على رأس مظاهرة أمام السراي يقدم للمسؤولين مطالب الشعب. وأضاف بعد أن قدم ورقة المطالب. أضاف قائلاً: باسم الشعب أطالب الحكومة أن تكف عن لعبة القط والفأر، وتضع حداً للجشع. وتلقي القبض على اللصوص ومصاصي دماء الشعب الحقيقيين".
وعلت من كل مكان الهتافات وصرخات الاستحسان. وحين خفتت الأصوات وهدأت همهمة الناس تذكر الأرض والاحتلال واستغرب كيف لم يذكرهما على رأس قائمة المطالب. وهيأ نفسه ليعكس رأي الشعب بهما حتى أنه حشد في ذهنه الكلمات النارية والعبارات المنتقاة التي سيقولها بهذا المعنى. لكنه رأى من المستحسن أن يذكي حماسة الجماهير التي فترت قليلاً بأغنية وطنية قبل أن يلقي قبلته. وبدأ الغناء:
والله زمان يا سلاحي
لم يسمع إلا صدى صوته. ولم يردد معه الآخرون الغناء. التفت حواليه فلم يجد أحداً. تذكر أنه لا يزال يهبط السلم. لكنه كان واثقاً أن الجماهير تنتظره في الخارج.
عندما صار في الشارع لم يجد أحداً كما كان يتوقع. أصيب بالخيبة في بادئ الأمر. لكنه لم ييأس قال "غير معقول، لا شك أن الجماهير تنتظر في مكان ما".
كان الشارع نظيفاً جداً، مقفراً إلا من بعض المارة بالرغم من أن المخازن والحوانيت لم تكن مقفلة. وكانت إمارات الحياة باهتة، شاحبة حزينة. فالشمس مقلة صفراء باردة معلقة في كبد السماء، وريح واهنة تولول في الطريق مع أن اليوم من أيام الصيف. وحتى الأشخاص القلائل الذي كانوا يعبرون الطريق كانوا يمرون بسرعة لا مبالين.
استوقف عواد عابراً، وحاول أن يستدرجه إلى الكلام. لم يبد على الرجل أنه فهم شيئاً من كلام عواد، جرب أن يخاطبه بالإشارات، لكن العابر هز رأسه بالنفي ثم انطلق في سبيله.
قطع عواد مسافة أخرى استمهل فيها ماراً ترافقه صبية. أبدى الرجل استعداداً لسماع عواد بعد أن ألحت الصبية على رفيقها بالإصغاء إليه. فشرح له أنه موظف وأنه ترك وظيفته لصعوبة الحصول على الخبز. رد عليه الرجل بالإشارات أنه لا يعتبر أن الوقوف على أبواب الأفران مشكلة. وإذا كانت هناك مشكلة حقاً فهو لا يحس بها، لأنه لا يأكل الخبز أصلاً. وحين سأله عواد: وماذا تأكل إذن؟ ابتسم الرجل ابتسامة ساخرة. أما الفتاة نظرت إليه وانطلقت في ضحكة مجلجلة. ضحكتها ذكرته بماري انطوانيت ولويس السادس عشر.
أحس عواد بالحزن بعد انصراف العابرين، لكنه علل نفسه قائلاً: لم أثق بهذا الشارع يوماً، فأصحابه نظيفون جداً وغامضون جداً. ثيابهم أنيقة، كلماتهم أنيقة، وأنفاسهم أنيقة. يتكلمون لغة غير لغتي فكيف يفهمون مشكلتي مع رئيسي ومع الخبز؟
وقال عواد وهو ينظر إلى الشارع المتأنق، واجهاته البلورية، معروضاته وأزياءه الملونة "ليس أصحابه من جماهيري، ولم يكونوا معي في المظاهرة أمام السراي قطعاً". ثم ترك الشارع البلوري الملون وانحرف في طريق جانبية إلى اليمين لم تلبث أن قادته إلى حي شعبي. قال: "لعلي واجد هنا جماهيري التي هتفت لي أمام السراي".
مر بحانوت في صدره رجل جلس خلف ميزان إحدى كفتيه أعلى من الأخرى. كان الرجل ينظر من مكانه إلى شيء ما على الجدار المقابل. سأل عواد الرجل الذي كان لا يزال ينظر إلى ذلك الشيء على الجدار:
-هل مرت من هنا مظاهرة من أجل مشكلة الخبز؟
لم يلتفت إليه الرجل. فكر عواد أن الحانوتي لم يسمعه فأعاد سؤاله:
-هل مرت من هنا مظاهرة من أجل مشكلة الخبز؟
بذل الرجل جهداً كي ينتزع نفسه من الشيء الذي كان ينظر إليه على الجدار. نظر إليه الرجل نظرة متأنية، هادئة غائمة، ثم حول نظره عنه واستغرق في تأمل ذلك الشيء الذي كان على الجدار.
التفت عواد إلى حيث كان ينظر الرجل، رأى صورة، كانت الصورة تمثل عنترة وقد ضرب بسيفه فارساً ففلق رأسه نصفين.
تطلع عواد إلى الرجل الذي كان يجلس خلف ميزانه فرآه ينظر إلى الصورة ويهز رأسه، يهز رأسه ويبتسم ابتسامة عريضة.
قال عواد بعد أن ترك الحانوت:
-ماذا كان يرى الرجل في الصورة حتى سلبت لبه؟
وشك عواد بسلامة عقل الرجل، وفكر أنه ربما كان واحداً من مجانين عنترة المعجبين. أستأنف عواد سيره، ومن حين لحين كان يمر به أناس بسطاء في أيديهم أو متأبطين أشياء حملوها معهم من السوق، وجوههم صامتة حزينة، عيونهم فيها استسلام ونظراتهم منكسرة. كانوا يعبرون الطريق بأقصى ما يستطيعون من سرعة. قال في نفسه: "هؤلاء هم جماهيري ولا شك أنهم ماضون إلى مكان ما من البلد. ومن هناك سوف ينطلق الجميع إلى السراي". شيء واحد راح يشغله ويثير قلقه في هيأتهم. هبوط الروح المعنوية التي رآهم فيها. غير أنه لم يلبث أن قال "بسيطة، سوف أوقظهم، إذ ليس من الصعب رفع الروح المعوية لأشخاص احتشدوا أمام السراي".
عبره رجل يتأبط شيئاً ومن خلفه يدرج طفل. قال له عواد:
-ماذا تحمل تحت أبطك؟
قال له:
-خبز.
قال عواد في نفسه "هذا واحد من أطفالي". قال له عواد:
-ألن تذهب إلى السراي؟
سأل الرجل بريبة:
-لماذا؟
قال عواد:
لتحرير رغيف الخبز من تسلط أصحاب الأفران.
قال الرجل:
لا وقت لدي لأفعل ذلك. فنصف نهاري أقضيه في الجري وراء العمل ونصفه الآخر في تدبير أمور العيش لأسرتي.
ثم تركه الرجل ومضى في سبيله، وكان لا يني يلتفت خلفه لينظر إلى عواد بريبة وخوف. قال عواد في نفسه وقد تابع سيره "هاأنذا قد خسرت واحداً من جمهوري كان ينبغي أن يضم صوته إلى صوتي أمام السراي. ولكن لا بأس فلا يزال هناك الكثيرون ممن يمكن الاعتماد عليهم".
وصل إلى ساحة في جانب منها خروف يجتر طعامه بصمت. وعلى مقربة وقف حمار وقد أحنى رأسه وأغمض عينيه. وفي صدر الساحة كان مقهى صغير انتثر رواده في فسحة أمامه يقرقرون بالنراجيل، أو يدخنون اللفائف ويحتسون القهوة والشاي بتراخ وكسل وعيون وسنانة.
قال عواد في نفسه "هؤلاء هم جماهيري، فأحوالهم مشابهة لأحوالي، وبؤسهم مشابه لبؤسي، وما علي سوى أن أوقظهم من سباتهم".
ومن مكان ما من المقهى راح مذيع يتحدث عن الاضطرابات في لبنان، وأبدى الخشية من تطور الأحداث هناك إلى حرب أهلية، وذكر أن البيانات الأولية تظهر أن مئة وخمسين قتيلاً قد سقطوا حتى الآن عدا مئات الجرحى.
قال عواد في نفسه "هي ذي قبرص أخرى تحولت إلى مسلخ أيضاً" وأضاف وهو ينظر إلى الناس من حوله "الطائفية قنبلة موقوتة، بل تنين غريب نبت له ذات يوم رأس في لبنان ومن قبل في قبرص، وقبلها في أمكنة أخرى من العالم، ولا يعلم إلا الله المدينة التالية التي سينبت له فيها رأس جديد في يوم آخر".
كان الناس لا يزالون يقرقرون بالنراجيل، ويدخنون اللفائف ويحتسون الشاي، بتراخ وفتور وعيون وسنانة دبقة فآلمه ذلك، وحز في نفسه أن يقتل الأخ أخاه دون أن يحرك ذلك شيئاً في عواطف الناس.
ومن جديد تناهى إلى أذن عواد صوت المذيع الذي قال أن إسرائيل تعتبر فتح قناة السويس خطوة طيبة على طريق السلام وأنها تتطلع إلى اليوم الذي تمر فيه سفنها في القناة ليس تحت أعلام دول أخرى.
انتفض شيء في أعماق عواد. شعر بالغضب. نظر حواليه. النراجيل تقرقر. اللفائف تنس محترقة، والشفاه تمتص الشاي والقهوة بكسل وفتور. أراد أن ينقل غضبه إلى الآخرين، صرخ: أيها الناس.
التفتوا إليه بإعياء مشوب بالدهشة. قال: أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم إلا الصبر والقتال.
استمر الناس في النظر إليه بعيون متعبة، نصف مغلقة، ومن بعيد لمح عواد رجلين يتشاوران فيما بينهما ويشيرا نحوه، عيونهما تقدح شرراً وتنذر بالشر. أحس عواد بالخوف، شعر أنه وحيد وأن جمهوره تخلى عنه. عاودته فكرة الرحيل إلى بلد يحصل فيه المرء على الخبز دون عناء كبير.
ومن بعيد واصل الرجلان النظر إليه ومشاورتهما بشأنه، اتجها نحوه، شعر بالخوف، أحس بالخطر، قال: يجب أن أنجو بنفسي. تسلل بهدوء. أحس بالخطر يقترب منه. قال: يجب أن أركض. وركض وركض. ولكن عجباً. فجأة ركضت معه في نفس الشارع ماري انطوانيت ولويس السادس عشر. قرقعة وصخب في طرف الشارع. نظر خلفه. عنترة يمتطي جواده. يلكزه بمهمازيه. يسابق الريح ويلوح بسيفه. ماري انطوانيت تولول. تصرخ. ماذا جنيت؟ ماذا يريد الشعب؟ أعطوه الخبز. كل الخبز. ماري انطوانيت تختفي ويختفي معها لويسها. عواد وحده في الطريق يجري. ومن خلفه يجري عنترة. أين المفر؟ عواد يلتفت إلى الخلف. عنترة يعدو وراءه وقد استبدل قلنسوته بخوذة من الفولاذ. وسيفه برمح من نار. التنين. سأقضي على التنين الهارب. صاح عنترة. عواد صرخ: أين المفر؟ وفجأة. فجأة شعر عواد بعطش شديد وبجفاف في حلقه. ودفعة واحدة اختفى عنترة واختفت معه خوذته ورمحه وحصانه والطريق الطويل الذي لا ينتهي.
رفع عواد رأسه متثاقلاً ونظر حواليه. كان أولاده الستة مستغرقين في نوم عميق. وكانت زوجته ترقد إلى جانبه. وكما تسقط، دون أي ضجيج أو صخب، قطرة الندى. سقطت مدينة ما، بغتة، في خيال عواد. يرفرف عليها سلام شامل عميق. نظر إلى أولاده مرة أخرى. ابتسم وقال:
-أين المفر؟ أيها الناس.
ثم وضع رأسه باستسلام فوق الوسادة. وعزم، في هذه اللحظة، عزما أكيداً أن يستيقظ في الصباح. في الخامسة أو دون ذلك قليلاً، ليكون بكامل ثيابه على باب الفرن. حيث أمل أن يكون الزحام هناك أقل ما يمكن عليه في مثل هذا الوقت.
آب 1975
المصدر: ملحق الثورة الثقافي - العدد التاسع - 1976
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |