لتبدأ عملية نقل الدم
2006-04-07
حول السرير تلاقينا كعدوين قديمين، زوج أمي، وأنا، كانت أمي في حالة غيبوبة، تتمدد كشجرة حور أتعبها الوقوف ووجهها يحاكي في صفرته قمراً في ليلة صيف، وخلف أجفانها المطبقة يرقد بؤبؤان بزرقة البحر، في حين التوت شفتاها إلى الأسفل بشكل يومي بأنها بكت طويلاً، وأنها استمتعت بالبكاء:
- ما أقسى أن يرى المرء أمه تتحول أمام عينيه إلى جثة!
طافت في رأسي صورتها أيام زمان، عندما كان والدي لا يزال حياً، كنت أعجب كيف تملك أمي كل هذا الدم في وجهها، كانت تنضح حيوية ونضارة، ولم أذكر أني رأيتها فاقدة وعيها ذات يوم:
- لماذا يموت الآباء؟!
تساءلت وأنا أنظر إلى زوج أمي نظرة احتقار، كانت قد صفعتني لأجله مرة، عندما سمعتني أناديه كما علمني الجيران وشيخ الحارة، ويومها قالت محذرة:
- إياك أن تنادي (من يأخذ أمك بعمك)!
حاول الهرب بعينيه من عيني الشكاكتين، لكن نظرتي الحاقدة سمرته إلى الحد الذي أدرك فيه مقدار كرهي له، واتهامه بقتل أمي، فأدار وجهه ناحية الجدار، يسأل ربه بصوت مخنوق أن لا يميتها، كان يدعو بلهفة من يرى بقرته على وشك الموت، وقد أخافه أن ينتهي الخصب الذي بين يديه إلى غير رجعة، لكنني كنت وحدي الذي يعرف من يزرع بيوض الموت في جراحها، ومن يريدها أن تبقى حية، ميتة، كما يظل ضرعها يعطي الحليب، وقرنها لا يقوى على النطاح
- كيف لا تستعصي الأم على الموت؟!
لم اصدق أنها ستموت رغم وجود الموت إلى جوارها، كانت تبدو في عز شبابها، وكأنها صخرة جبلية لا يدركها الهرم ولولا بعض الخطوط حفرتها الرياح في جبينها لأقسمت أنها ما تزل في العشرين، أدهشتني قدرتها على الصبر واجتراع الألم، كان زوجها يحيل توهجها إلى رماد، فتنوس حتى يقال انطفأت ثم تهب الريح فتعود إلى التأجج من حديد.
- أمي....
ناديتها كأني أوقظها من سبات، كنت دمها المنتظر وريحها الآتية، انحنيت برأسي فوقها، دخلت أنفي رائحة لا تمت للفناء بشيء، شممت شذا الورود والزعتر البري والنعناع فلم أجد غير قبلة أطبعها على جبينها البارد كالثلج:
- أخ .....
أنت كعصفور جريح دون أن تفتح عينيها، وصدرها ينخفض بوهن تحت الأغطية كبذرة يجثم فوقها ترابها الصقيع ابتهجت لكونها تئن. شعرت بأنها تحس بوجودي قربها، وأن آهتها جاءت استغاثة نجدة اخترقت قلبي كالنص، ودون أن أمتلك نفسي تلمست معصمها، في حين أمسك زوج أمي بمعصمها الأخر وراح كل منا يصغي، سمعت شفتيها تتمتمان واحد، اثنان، وثلاثة. ثم لم أعد أسمع سوى نبضها بدأ نبض أمي يتسرب إلي، يسري في داخلي إلى حيث لا أدري، أحسست في نبضها حرارة الجمر وقوة الريح الحبيسة، شعرت بأمواج دمها تتلاطم بين السبابة والإبهام، تتحرك كجنين في شهره التاسع، فأدركت أن أمي لن تموت وأنها ستلد نفسها من يدها:
- الدم وحده ينقذها!!
قال زوج أمي بفرح خفي وكأنه قرب نجاتها، ارتجفت مفاصلي لسماع صوته المسموم، كان يعرف نقطة الضعف لدي، ويعلم مقدار حبي لها، فأنا الوحيد الذي يتوافق دمه مع دمها، لذلك كان يبحث عني كلما داهمها الخطر، حتى إذا تمكنت من منعها عن الموت، طردني ثانياً من البيت:
- هل تعد المرأة المظلومة وسيلة للتخلص من زوجها؟!
تذكرة كؤوس السم، والخناجر، وأوراق الطلاق، تساءلت مكرهاً:
- لعلها استمرأت ذلها؟!
كنت حششت العواصف بين رجل يعمل على قهر أمي كل يوم، وبين أمي التي أحبها ولم تتعلم بعد كيف تصون دمي في جسدها، لكنني حين أمعنت النظر إلى وجهها الشاحب الجميل، ورأيت صدرها يعلو ويهبط كصدر بحر نائم لم أتردد في الكشف عن ساعدي لتبدأ عملية نقل الدم.
المصدر: ملحق الثورة الثقافي - العدد 29 - 1976
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |