Alef Logo
ابداعات
              

مسرح / حمام بغدادي

جواد الأسدي

2006-04-07

الفصل الأول
حمام شعبي بغدادي، له فتحات ضوئية وأحواض صغيرة وكبيرة (بانيو) دكة كبيرة للتدليك ودكات صغيرة، مناخ مضبب، قشور برتقال مرمية، قـطع قـماش مبللة (وزرات)، خـردوات، بقايا الزبائن مرمية هنا وهناك!
حميد : (بعنف) حيوان ابن حيوان !!
مجيد : تشتم من ؟
حميد : تعال، انظر بنفسك إلى الأوساخ في أسفل الحوض!.
مجيد : أنسيت بأن زبائن هذا الحمّام هم من أحط الناس!
حميد : ماذا تفسر مثلاً وجود مثل هذا السكين هنا؟ هاه!
مجيد : أمر عادي!


حميد : رائحة الحوض تفوح بدم فاسد وتقول لي أمر
عادي!!
مجيد : نظّف الحوض واسكت
حميد : وهذا السن من الذهب في قعر الحوض‍
مجيد : صحيح؟‍‍!!
حميد : يبدو أنه ذهب حقيقي ! هل يناسب أحد أسنانك؟!
(بتهكم)
مجيد : (يضرب حميد بالقماش) حيوان .. بهيم .. أهبل ..
حميد : (يمازح أخوه) ضعه في فمك ..
مجيد : دعني أفحصه إن كان فعلاً من ذهب أم لا ..
حميد : سأسلمه إلى صاحب الحمّام ..
مجيد : أعطني إياه ..
حميد : ماذا ستفعل به؟
مجيد : في كل الأحوال سأبيعه ..
حميد : وإذا تبين بأنه مزيف ؟
مجيد : سأهديه لزوجتي أَو عشيقتي
(يجرب سن الذهب في فمه)
حميد : وسخ .. خشب .. تنك ..
مجيد وحميد يتمازحان
مجيد : كم يذكرني هذا الحمّام بأيام طفولتي ! كنت صغيراً
عندما كان يجرني أبي مثل الجرو إلى هذا الحمّام نفسه
عند هذا الحوض بالذات .. كان يفرك لي أبي جسدي
بالحجر الأسود ..
على هذه الدكة كان يدلكني .. ويصوبن لي رأسي
وجسمي ..
أنظر .. أتيت بنفس الليفة والحجر الذي كان يستخدمه
أبي ..
شممْ رائحة أبوك يا أهبل !
شمْ !
تعال .. سأجلف جسمك مثلما كان يفعل بي أبي
حتى يسقط وسخك كله في البالوعة ..
مجيد يفرك جسم أخيه حميد وهو في
نشوة وراحة بال ..
متى ما احتجت .. سأقشر لك البرتقال بيدي هاتين !
هاه .. شمْ رائحة الليفة ..
حميد : لماذا الحمّام فارغ ؟
مجيد : الخوف .. الناس يخافون من المفاجآت ..
لهذا يعودون إلى بيوتهم قبل الغروب !!
حميد : ولماذا لا نعود نحن أيضاً إلى بيوتنا !
مجيد : لأننا لا تخاف ..
حميد : لا .. أنا خائف ..
يظل يفرك جسمه ويسكب عليه الماء ..
مجيد : ما دُمِتْ معكْ لا تخف أبداً! جاء دورك .. اسكب
الماء الحار على ظهري ( بفرح غامر )
حميد : حاضر ..
فعلاً يفرك جسمه ويسكب عليه الماء
مجيد : صوبن لي رأسي ..
حميد : خادمك المطيع أنا!
يصوبن له رأسه (بعد فترة)
حميد يفعل كل ما يأمره به أخوه ..
مجيد : (براحة وسكينة)
حميد .. غني لي .. أحب أن أسمع صوتك .. خصوصاً في الحمّام ..
فعلياً يبدأ حميد بالغناء .. يغني طيور الطايرة .. بوصفها أغنّية شعبية عراقية مشهورة يستمر حميد في الغناء ..
مجيد ينضم إلى حميد ويشاركه ..
عندما كنتُ طالباً في الإعدادية رشحني
أستاذ الموسيقى أن أكون مغنياً ..
حميد : صوتك ممتاز .. ديلوكس ..
لو أخذت بنصيحة أستاذي لصرتُ الآن مغنياً
معروفاً مثل سعدي الحلي وسعدون الجابر وناظم
الغزالي
مازال حميد يغني ..
مجيد: لكن سوء حظي قادني إلى قيادة الباصات ..صرت
أكره هذه المهنة الوسخة ..
لم أكسب منها سوى الكلمات البذيئة وشرب الخمر
والحشيش ..
عندما أنظر إلى وجهي في المرآة أستغرب من ملامحي
وسحنة وجهي الغريب ‍!
دائماً أصرخ .. صباح الخير يـا مجيد .. تـفووووو
على حظك العاثر .. حظك الوسخ !!
تغيّرت طباعي .. صِرتُ أكثر وحشية مع الذين يسافرون
في سيارتي .. أدخن الحشيشة .. علناً .. واصطاد القحاب
اجلسهن بجانبي في رحلاتي الخارجية .. أَظل أقبلهّن مهما
كانت رائحة فمهّن مقززة .. تعودت بمرور السنين على
عدم البقاء مع أي واحدة منهنّ .. أرميهن كما أرمي
نعالي إلى باب الغرفة .. أمارس الجنس معهّن كالبهيّمة ..
دون أية متعة .. وقدرة على التمييز بين الواحدة والأخرى ..
حميد : ( يضحك )

مجيد : خلال ممارسة الجنس معهّن .. تختلط أَسمائهن في رأسي .. أقول
لأمينة لحظة الذروة فهيمة .. ولفضيلة سليّمة ..
حميد : ( يضحك أكثر )
مجيد : لهذا عاقبني الرب بالزواج من إمرأتين .. إحداهن فقدت أنوثتها .. إِخشوشن صوتها وكير شاربها ..
حميد : والثانية !
مجيد : تحولت الثانية بقدرة قادر .. إلى بقرة .. (هايشة) .. قبل الخروج من البيت صباحاً تظهر لي خلف الباب (يقلد صوت البقرة) ..
حميد : (ضحك هستيري)
مجيد : لهذا تعودت الهرب من المنزل
ليلاً .. أَتسلل لا قرب ماخور .. أَظل اسكر واحشش ..
حتى أَتحول إلى خرقة بالية .. ثم أَستسلم لأول إمرأة شبقة
وأرقص الدانَسْ وأرطن معها بالإنكليزية التي لا أفهم منها
سوى WOW.. NO .. YES ..
يرقصان .. يضحكان .. يعيشان جواً بهيجاً ثم يعم بعد ذلك صمت طويل ..
حميد : متى ستبدأ الانتخابات ؟
مجيد : ذكرتني بالانتخابات ..
حميد : ستنتخب مَنْ ؟
مجيد : سِر .. عندما يحين الوقت سأكلمك عنه بالتفصيل ..
سأغرز إصبعي هذا في حبر الانتخابات وسأغتنم الفرصة
لأعانق حلفائي الأمريكان ..
حميد : تعانق الأمريكان .. لماذا ؟
مجيد : يا بهيم لولاهم لما حل الخير ببلادنا ‍!
حميد : كلما رأيت واحداً منهم في الطريق أحس بالتقزز
والرغبة بالتقيؤ ..
مجيد : طبعاً لأنك دابة ولا تميز مدى فائدتهم لحياتنا ..
حميد : تمدحهم لأنهم يستأجرون باصاتك لنقل المؤن ..
والأسلحة وأشياء أخرى ..
اعترفُ بأن الدولارات تملأ جيبك منذ بدأت
بالتعامل معهم ..
مجيد : لو طلبوا مني حياتي لقدمتها لهم ..
عندما يظهر رئيسهم على شاشة ..
التلفزيون يرتعش جسمه كله .. إنه الرئيس الأكثر ..
تأثيراً على أَحاسيس .. أنظر .. كل جسمي .. صار يرتجف عند
الحديث عنه ..
حميد : (يضع في فم مجيد برتقاله كبيرة ليسدله فمه ويُسكته)
ابلع واسكت .. ذلك احسن لك !
مجيد .. يمضغ البرتقالة .. خلال مضغه تتغير سحنته فيصير شبيهاً بالحيوان حميد يسخر منه ويضحك عليه ..
انظر إلى وجهك .. صرت تشبيه الجاموس ..
جاموس .. أَخي تحول إلى جاموس !
مجيد يصرخ بوجه حميد .. صرخة مدوية
تدُخل الرعب إلى قلبه .. فيصرخ ! ثم يكسر خوفه بضحكات فيها بلادة وخوف
كنت تصرخ بوجهي أيام الدراسة ..
وتخيفني كما تفعل الآن .. أتذكر ..
عندما خوفتني وجعلتني أَتبول في سروالي ! هاه ..
على ذكر أيام الدراسة .. لم تسألني أبداً عن أولادي
ولا عن حاجتهم للوازم المدرسية .. وضعي المادي تحت
الصفر .. الجوع ينهك عائلتي .. وأنت في وادي آخر !
يَحدِث انفجاراً قـوياً يخرج على أَثره مجيد إلى خارج صالون الحمام .. بينما يخاف حميد ويغطي رأسه .. يعود مجيد مُسرعاً وخائفاً !
مجيد : علينا أن نعود إلى البيت فوراً لأن صاحب
الحمام يقول بأن الشرطة وجدوا أربع جثث
مقطوعة الرأس أمام الحمام النسائي المجاور ..
حميد : لن أَخرج من هنا .. قد يذبحوننا .. دعنا ..
ننتظر !
مجيد : لا ترفع صوتك ! إِش
انفجار ثاني بعيد..صمت طويل..
حميد : مابِك !
مجيد : تحقق المنام !
حميد : كيف ؟!
مجيد : رأيت رأس أبي مقطوعاً ومرمياً في الحوض ..
حميد : حلمت به .. لأنك دائم الشعور بالذنب !
مجيد : ولماذا أشعر بالذنب !
حميد : لأنك لم تزره في مقبرته منذُ موتِه !
لم تترحم على روحه !
افعل شيئاً من أجله !
اذبح خروفاً ووزعه على الفقراء !
رش الماء على قبره وأقرأ صورة الفاتحة !
يحس مجيد بالضيق من كلام حميد..
مجيد : ما يحز في نفسي إن أبي عاش معدماً
ومات غريباً !
لم يمشي في جنازته أحد !
حميد : لماذا تعتب على الآخرين إذا كنت أنت
نفسك .. لم تمشي في جنازته أتعرف كم رجلاً
مشى في جنازة أبيك .. أنا وأولادي فقط ‍!
مجيد : أين كنتُ وقتها !
حميد : اسأل نفسك .. على الأرجح كنتَ سكراناً في بيت
إحدى عشيقاتك !
مجيد : ساقط .. ساقط !
حميد : لا .. لستُ ساقط ! هذه هي الحقيقة!
مجيد : إن طوَّلتْ لسانك سأقصه بهذا القبقاب فاهم !
حميد : لماذا أتيت معك إلى الحمام ! من يدري .. ربما
يهجم علينا السلابة والمجرمين و بذبحوننا ! أو يقتحم الحمام
جنود الاحتلال .. ليغسلوا كلابهم البوليسية في هذه
الأحواض .. ثم نغسل أجسامنا بعد ذلك ببولهم !
مجيد : أنا سعيد بهم .. وبكلابهم وبمؤخرات كلابهم وببول كلابهم ‍
حميد : حين تتحدث عنهم بهذه الطريقة أحس بالقرف
والاشمئزاز منِك ‍!
مجيد : ماذا قلت يا ساقط ! تتواقح عليَّ !
حميد : صرتُ أَقرف مِنك فعلاً !
مجيد : انظر إليَّ !
حميد ينظر إليه فعلاً فيفاجئه مجيد بسيل من البصاق !
حميد : إهانتك مقبولة !
مجيد : طبعاً .. لأنك مدمن إهانات !
حميد : لن أرد عليك .. لأنك أخي الكبير !
مجيد : ترد عليَّ .. تريد إهانتي ..
لأني عبرت عن حبي لهم ! افهم جيداً .. بأنهم جعلوني
امشي في الشارع مرفوع الرأس وأَتحدث عن أي شيء
بدون خوف !
حميد : أين ضميرك !؟
مجيد : رميت ضميري في المرحاض ! ( إننا جبت) ؟!
حميد : أعرف !
مجيد : أنت أحط من أن تعرف !
حميد : على كل حال .. خمسة عشر عاماً من العمل معك ..
تكفيني لكشفك وتعريتك !
مجيد : ساقط أتتحدث عن التعرية يا ساقط ..
يا منحط .. يا معتوه!
يهجم مجيد على أخيه بعنف حيواني.
لكن حميد يتصدى له ويحاول مواجهته!
حميد : لاتصرخ بوجهي ، دعني أتكلم!
مجيد : تفضل سأسمعك ! لكن إذا تماديت سأكسر رأسك!
حميد: أمك..أمك!
مجيد: ما بها أمي؟
حميد: أمك التي حملتك في رحمها تسعة أشهر ، وخمسين سنة على رأسها ،هل حملتها يوماً؟!
مجيد يضطر على السكوت..
مجيد .. يضطر على السكوت وهو يتمتم ويشتم ولكن بـصوت خافت !
حميد : أمك عندما انتابها المرض ووقعتْ .. هل سألتها مابك ؟
وعندما تعود من عمان أو دمشق حاملاً معك أطناناً
من أكياس الطحين والمؤن .. هل أطعمتها!! تـرمي
بكل شيء إلى أولادك وزوجاتك بينما أمك الممددة
على فراش المرض تنام جائعة ..
تُغدق على أولادك بلا حساب .. بينما أخوك الذي
يعمل معك منذ ستة عشر عاماً تتآمر عليه لكي تبتلع
جهده! الحاجة لأن أربي أولادي وأُطعمهم حولتني إلى
خادمك الذليل الذي لا يقوى على الاعتراض .. خوفاً
من أن أفقد لقمة عيشي !
اعترف أمامي بأنك الأخ الأكثر وحشية وقسوة ..وبأنك
اللص المحبب الذي يسرق من قوتي بـأخوّة ومحبة .. ألم
تسأل نفسك يوماً عن أسباب تشوشي النفسي والعصبي؟
هاه؟
وعن بكائي المفاجئ ونوبات الهستيريا التي تنتابني ! اعذرني
أريد في هذا اليوم أن أفضي إليك عن كل الذي بداخلي!
ربما سأرتاح نفسياً لو قلت لك بأنك إنسان بلا ضمير ، بلا رحمة.
وبأنك استعملتني ستة عشر عاماً استعمالاً دنيئاً وقذراً!
خصوصاً عندما كنت تملأ الباص بالبضاعة المهربة وتطلب
مني أن أقوده إلى دمشق وأسلم الأمانة التي لاأعرف
ما هي إلى تاجر في الشام؟ ماذا كان سيقول لك ضميرك
لو اعتقلوني على الحدود السورية العراقية وقادوني إلى السجن.
ألم يوخزك قلبك لو أعدمت مثلاً بتهمة التهريب؟
من كان سيحمي أولادي المرميون في بيت ضيق
بلا مدارس ولا ضمانات وبلا الحد الأدنى من الطعام؟هاه؟
أهذه هي عدالة أخوتك؟!!
وقعت في حب المحتلين
وحولت كل باصاتك إلى خدمتهم، وطردتني
واستأجرت سائقاً آخر دون أن ترد لي حقي وتعبي!
مجيد: لأنك رفضت العمل معهم!
حميد: عارٍ علي أن أعمل معهم.
مجيد: أما أنا فسأتعامل مع الشيطان من أجل حصولي على رزقي.
حميد: لكنك صرت كلباً لهم.
مجيد: أنا كلب مهنتي!
حميد: يحتلون بلدك بيما تعتبرهم أشرف خلق الله!
مجيد: طمرت الفقر بسببهم.
حميد: بينما الفقر طمرني وأولادي.
مجيد: لأنك أرعن.(يكررها)
حميد: لماذا سرقت حقوقي؟
مجيد: وحقوقي؟ أين حقوقي؟
طيب قل لي أين كان ضميرك وعدالتك وأخوتك
سنة 1998 عندما وضعت الباص كله في خدمتك؟
وطلبت منه أن تكون أميناً معي وواضحاً في الحسابات؟
حميد: لن تجد إنساناً بنـزاهتي أبداً.
مجيد: لا. لم تكن نزيهاً..كنت تتلاعب بالمردود المالي.
حميد: أتتهمني بالسرقة؟
مجيد: نعم أتهمك0
حميد: (يصرخ بجنون) أنا أسرق أخي وابن أمي!!!
ينفجر حميد ويتحول مثل وحش كاسر.د
مجيد: (بعنف) إذاً أين ذهبت محاصيل سنة كاملة؟
حميد: أهذه هي حصيلة تعبي وإخلاصي لك؟!!
مجيد: طيب، الآن أطلب منك أن تكشف لي الحقيقة.
حميد: وقتها عنفتني وضربتني ولم تصدق الذي قلته لك.
مجيد: أتخاف من البوح بسرقاتك الآن؟
حميد: اعتذر مني بسرعة.
مجيد: أنت لص محترف . وساقط.
حميد: اعتذر مني وإلا سأشنق نفسي!
مجيد: اشنق نفسك!
مع ذلك عليك أن تعترف وتقول لي الحقيقة !
( ويحاول شنق نفسه ، لكن مجيد يهرع نحوه
ويمنعه من ذلك ويقوم بتهدئته)
حميد: سأعترف ! تذكر الشهر الأول من سنة 98؟
مجيد: أذكر ..
حميد: عندما أتيت إلى بيتك وطلبت منك أن تسلمني الباص الكبير؟
مجيد: أذكر!
حميد : أعطيتني الباص ..
مجيد : أذكر ..
حميد : وقتها حدثتك عن صفقة عقدها معي رجل أمن بمرتبة
كبيرة لتشغيل الباص ..
حميد : كانت بنود العقد تتضمن نقل جنود محكومين من سجن
إلى آخر ..
على الصعيد المادي اتفقنا على أن يدفع لي مليوني
دينار بعد نهاية المأمورية كما سماها لي!
في نفس الوقت جعلتني أَوقّع على ورقة مستقلة وبخطي الشخصي
على كتمان ما أرى وما اسمع وبخلافه أتعرض إلى الإعدام.
مجيد: وافقت؟!!
حميد: وافقت طبعاً.
لكن بعدما وقَّعت خفت ، وأحسست باني ارتكبت خطأً
شنيعاً .. حدد لي ذلك الرجل موعد نقل المحكومين فجراً.
ذهبت في اليوم التالي، أمام سجن الرضوانية .. في تمام
الساعة الخامسة والنصف جرجر الشرطة عدداَ من المحكومين
الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين بعنف
ومهانة ..جروُّهم ورموهم في الباص معصوبي الأعين ..
شبه عراة.أعطوا الإيعاز بالحركة. سيارة عسكرية
أمام الباص وأخرى وراءه..عدداً كبيراً من الجنود
وجهوا رشاشاتهم في مكان أجهله بعد ساعة من السير
في دروب وشوارع لا أعرفها. وأوقفوهم بشكل عشوائي
وفجأة أمطروهم وابلاً من الرصاص الكثيف ..
سقطوا دون أن يتفوهوا بأية كلمة!! عمّ سكوت مريع ..
انتابني رعب حقيقي..انتابني شعور بالقذارة .. راودني
إحساس وكأني مشارك في جريمتهم .إظلَّمْ العالم أمامي ..
لم يفضلوا دفن الشبان الموتى في نفس المكان الذي ُأعدموا فيه..
بل رغبة منهم في التنكيل بهم وإهانتهم حملوهم مرة أخرى
والدم ينـزف من أجسادهم إلى الباص. أمروني أن أقود الباص
إلى مكان آخر لا أعرفه أبداً.
رائحة الدم الذي ملأ السيارة ترك عندي رغبة بالتقيؤ..
أنزلوهم مرة أخرى باحتفالية ومتعة متوجهين بهم إلى الحفرة
التي وقفت على أطرافها أكثر من عشرة حفاري قبور
حيث رموهم بلا عطف ولا رحمة .. بعد عشر دقائق
إختفت الجثث تماماً..تقدم المأمور المسؤول عن الذين
نفذوا حكم الإعدام وطلب مني أن أغسل السيارة بنفسي
وأن أمسح آثار الدماء!!
جلسوا على بعد أمتار مني، أحد الجنود سحب قنينة عرق
من سترته وشربها بجرعة كبيرة. الآخرون صاروا يدخنون
وينكتون ويضحكون بأصوات عالية !!كانت تلك اللحظات
هي أبشع ما مرَّ بي في حياتي.
عادوا إلى الباص وكأنهم لم يقترفوا جريمة! بل بالعكس ..
أظهروا المزيد من المرح ولعب الورق والغناء!!
طلب المسؤول عنهم أن لا استغرب مما حدث ..
وأن أتفهم نضالهم ضد خونة الوطن .. وترجاني أن أكون قريباً
منهم وأن أساعدهم دائماً في مهماتهم الوطنية .. ثم أضاف
قائلاً بأنهم سيحتجزونني لعدة أيام في غرفة بالسجن ..
إلى حين انتهاء المأمورية ..هذا يعني بأني سأكون رهينة في زنزانة
انفرادية في فجر اليوم الثاني امتلأ الباص بأربعين شاباً ممن
حكموا بالإعدام ..أعادوا العملية ذاتها ..
لكن في اليوم الثالث حيث وصل عدد المحكومين إلى سبعين شاباً ..
تمادوا معي أكثر حيث أمروني أن أشارك في وضع الجثث التي تمَّ
إعدامها في الأكياس .. وأن أحملها على كتفي إلى الباص ..
وأن أدخن معهم وألعب الورق وألقي نكات بذيئة ودنيئة !!
أجبروني على بلع كمية كبيرة من الكحول .. أَرادوا أن
يسخروا مني ..وضعوا الرشاش في يدي وصرخوا بأعلى
أصواتهم ..أطلق النار يا ابن ----- ..أطلق النار بقوة ..
أطلق النار إلى الأعلى!
صرت ممسحة لجرائمهم .. مرضت .. تقيأت ونزفت
الدم .. انقطعت شهيتي عن الطعام ..اصفر وجهي ..
صغر جسمي !! أكثر من مرة ضربت رأسي بحائط الزنزانة..
وقعت على الأرض .. بكيت ..حملوني إلى المستشفى ..
بعد شهر من المعالجة في مشفى عسكري .. أتاني
رئيسهم مرة أخرى .. هددني ببتر لساني إن تفوهت
بكلمة عن الذي رأيت .. وقال لي بالحرف الواحد ..
لن نعطيك فلساً واحداً من أجرتك ..
معتبرين أن خدمتك معنا كانت أّثمن هدية للوطن ..
يضع رأسه في السطل ويتقيأ .. يصرخ ..
..يحس وكأن جسده قد تحول إلى كومة جمر، لهذا يهرع ويغتسل تحت دوش الماء بجنون وألم.
مجيد يعانق حميد ويحاول أَن يخفف الوطأة عليه ..
مجيد : حميد .. أنسى الماضي .. علينا أَّن
نستثمر الظروف الحالية لتعويض خسارتنا ..
سنفتح صفحة جديدة على الأقل من أَجل عائلتي وعائلتك!
لا تيأس .. هذه المرّة سوف أوفر لك ظروف (ديلوكس)
تنسيك كل أَخطائي القديمة .. اختبرني .. لا ترفض العمل
معي هذه المرّة ..إن رفضت ستكون خسارتنا كبيرة!
لأن الصيد ثمين .. علينا أن نغادر بغداد فجراً ..
فالشخص الذي سيعود معنا من عمان إلى بغداد ..
هو أحد أهم المرشحين للمرحلة القادمة !
حميد : (بجدية) لم تكلمني عن أجرتي !
مجيد : اترك الموضوع الآن .. سيكون كريماً جداً .. معنا!
حميد : لن تخدعني هذه المرّة .. هاه !
حميد ينظر إلى وجه مجيد بشك كبير..
أصوات زمامير السيارات تتعالى..
أيضاً الانفجارات والرعود والريح تضرب
الناس على الحدود !
أحد سواق السيارات الملثمين يجر تابوتاً على الأرض بصعوبة بالغة..
يدور فيه بأرجاء المسرح !
حميد : مات الرجل .. فجأة انفجر رأسه
أمامي ومات .. أين أخبئ التابوت
من كلاب الحدود الجائعة! أين؟!
مجيد .. أين أنت؟!
لماذا تتركني وحدي مع التابوت!
هل ختمت الجوازات !
علينا أن نسلم الجثة إلى أهلها ..
لماذا لا ترد عليَّ!
انفجارات مرة أخرى وريح قوية..
نباح كلاب قوي جداً وأصوات زمامير
السيارات .. وأصوات الناس تتعالى !
مجيد : أين كنت .. لماذا اختفيت!
هل جننت؟ إياك أن تتحرك
خطوة واحدة دون علمي !
حميد : ذهبت للبحث عن المرحاض ..
فوجدت امرأة شابة مذبوحة ..
مرّمية على الرصيف! ذهبت للبحث
عنك في أماكن ختم الجوازات فلم أجدك!
هل ختمت الجوازات! هل ختمتها!
انفجار عنيف .. وريح قوية عاتية!
مجيد : لا تبتعد عني! (بخوف) ..
حميد : الشاحنات و الباصات تزدحم عند الحدود!
بردان وخائف .. لم أعد أطيق البقاء هنا!
مجيد : اصبر .. حتى يأذنوا لنا بالمرور !
حميد : نفذ صبري .. زهقت منك ومن الشاحنات
ومن الحدود ومن الأمريكان !
ضربات عنيفة مازال المناخ عاصفاً
( مهم صوت انفجار) وممطراً .. انفجار قوي يؤدي إلى
سقوط جزء من السقف !
مجيد : أدعو من الله أن يستجيب إلى دعائي ..
كي نصل بغداد سالمين! فشلت كل مخططاتي ..
ضاعت كل أحلامي كان يمكن أن يكون وسيلة
لسعادتنا .. فتحول إلى جثة تهدد حياتنا !
حميد : دائماً تصل بي إلى طريق مسدود! انظر ..
الجنود يوقفون سواق السيارات إلى الحائط ويفتشونهم
بطريقة مهينة ! انظر!
مجيد : إن تعفنت الجثة ماذا سنفعل !
حميد : وعدتني وقلت لي بأن هذه الرحلة ستنقذني من فقري!
مجيد : حظنا العاثر جعله يموت على الحدود العراقية!
حميد : عند حدود عمّان ..كان وضعُه ممتازاً .. وضع السيجار
في فمه .. دهن شعره .. رش العطر على رقبته .. وكان
يحلم أن يفوز في الانتخابات .. قبل عشيقته .. أخذها إلى
حضنه .. فجأة صرخت .. انفجر رأسه في نفس لحظة
العناق ومات ! وقع أمامها مثل كومة تراب .. ارتعبت ..
تركته وعادت إلى عمّان!
مجيد : لو مات عند الحدود الأردنية لعُدنا إلى عمان فوراً!
حميد : انظر .. الجنود يتقدمون نحونا !
كلمهم .. قل لهم شيئاً ! إنني خائف !
مجيد : هالو .. هالو .. أرجوكم ساعدونا .. اسمحوا
لنا بالمرور .. معنا أمانة وعلينا أن نوصلها إلى أهلها بسرعة‍‍!
فيفا .. فيفا !!
حميد : تقول لهم فيفا وهم الذين يقطعون الطرق علينا ..
مجيد : يقطعون الطريق لاعتقال الذين يصنعون الانفجارات
والعبوات الناسفة !
حميد : هم الذين يصنعونها !
مجيد : كّلم المجندة التي تقف هناك .. اكذب عليها .. قل لها
بأننا نحبهم .. ونصلي لبقائهم!
حميد : لا .. اذهب وكلّمها بنفسك! ألست أخي الكبير!
مجيد : يا حمار .. لغتك الإنكليزية أحسن من لغتي .. اذهب!
حميد : خائف .. محصور (بولة) !
مجيد : كل نصف ساعة تحصِركْ ( البولة )
حميد : يعني ما أبول .. أبول بسروالي ..
مجيد : انتبه من رصاصة (طائشة) ..
حميد : يعني الرصاصة الطائشة لا تأتي إلا وقت (بولتي) ..
يتبول ويغني فجأة يهتز التابوت المعلق..
فيرتعب حميد ويصرخ ضربات وعواصف ...بينما مجيد يفك عقدة الحل الذي بحوزته..
حميد: مجيد، التابوت يتحرك .
مجيد: لا تخف، الريح هي التي تحرك التابوت!
حميد: وإذا شمت الكلاب رائحة الجثة ، جثة المرشح!
مجيد: لهذا يجب أن نقنع المجندة بضرورة إيصال الجثة إلى أهلها!
وإن لم ننجح في عبور الحدود والوصول إلى بغداد في
الوقت المطلوب.. لن يعطونا الأجرة التي وعدونا بها!
حميد: صحيح، لم تحدثني عن أجرتي!
مجيد: أهذا هو الوقت المناسب للحديث عن الأجور!
يرن تلفون مجيد...
حميد: عندما أسألك عن أجرتي ، تظل تلف وتدور!
مجيد: ها، غزلان ، حبيبتي غزلان .. مشتاق لك ..
اشتريت لك هدية رائعة.. الكحل الأصلي ..
والثوب الأحمر الناري!على الحدود!اسمعي!حضري الجاجيك ..
اللبن والخيار والثوم، (دكي الثوم زين).(أموت عليج)
يبوسها عبر تقبيل التلفون..
لم يعد لدينا وقت، أذهب وكلم المجندة!
حميد: قررت العودة إلى عمان!
مجيد: ماذا قلت؟
حميد: غيرت رأي ، لا أريد الذهاب إلى بغداد!
مجيد: لماذا يا أرعن لماذا؟
حميد: لأنك مازلت تضحك عليَّ! تلف وتدور لكي تسرق حقي ..
وإن اعتقد بأنني لم اكتشف ألاعيبك فأنت مخطىْ!
مجيد: ألاعيبي!
حميد: لديَّ علم بكل العقود التي أبرمتها مع المستثمرين والسماسرة
لتشغيل الباص في نقل المؤن من وإلى السُجون!
مجيد: أعرف بأنك لا تفضل العمل على هذا الخط!
حميد: طبعاً .. أفضل نقل المسافرين من عّمان إلى بغداد وليس نقل
المؤن إلى السجون!
مجيد: طبعاً، لأنك لست طموحاً وتريد البقاء في مستنقعك!
حميد: ذلك أفضل لي من العمل معك! إعطني جواز سفري ..
أريد أن أعود إلى عمان!
مجيد: وتتركني وحدي على الحدود، بين اللصوص والقتلة ..
وعواء الكلاب والجثة المتعفنة!
حميد: لقد قررت وانتهى الأمر!
مجيد يمسك حميد من عنقه ..
ويلوح له بعدم إعطاءه جواز السفر.
مجيد: لن أعطيك جواز سفرك إلاّ إذا اقنعت المجندة!
إكذب عليها .. قل لها بإن الجثة التي بحوزتنا ..
فريدة من نوعها .. جثة مرموقة .. كانت مرشحة بقوة لمنصب
كبير ..حملها مسؤولية إي تردد أو تلكؤ..
يحاول إقناعه بالعنف، حميد يرضخ للأمر الواقع فيحاول محاولته الأخيرة رغم سخطه على أخيه ..
حميد: صباح الانفجارات ..صباح العبوات الناسفة ..
صباح القتلة وسيارات الإسعاف ..
والجثث الطافية على نهر دجلة ! هناك على الباص مليادير ..
شغل الدنيا بمشاريعه .. ورشح نفسه للانتخابات ..
لكنه قبل الوصول إلى بغداد انفجر دماغه على الحدود!
أهله في بغداد ينتظرون دفن الجثة .. وابنتي فاطمة تنتظرني
لأن عيد ميلادها يصادف في هذا اليوم .. أرجوك .. ساعدينا ..
اسمحي لنا بالمرور!نعم ماذا قلت .. تفتشين الجثة .. لا..
تنبشين ثقوب الميت .. هذا شيء مرعب .. لكنه ميت ..
كيف تنتهكين حرمة رجل ميت!لا ..
لن أشارك في هذه الجريمة .. لا..........
حركة باصات وزمامير سيارات مرة أخرى وصوت أهالي!
انفجار مدوي وزحمة زمامير عنيفة تجعلهم يهربون ..
حركة باصات عنيفة وصوت زمامير ..
يعود كل من حميد ومجيد بملابسهم كسائقي سيارة ..
حميد: أرمي الجثة..
مجيد: أجننت!!
حميد: تقول المجندة بأنها ستفتش الجثة تفتيشاً دقيقاً..
مجيد: لتفتشها..
حميد: ارمي الجثة..
مجيد: أبدأ ..
حميد: ليتحول إلى طعام للكلاب ..
مجيد: وماذا سأقول للذين ينتظرونه؟
حميد: لا أعرف ..
مجيد: لا تعرف ..
حميد: حولتني إلى حيوان يلهث طول عمره خلفك ..
مجيد: اهدأ ..
حميد: لن أحمل الجثة على ظهري كما طلبت مني ..
مجيد: لا تستفزني!
حميد: استأجر أحد سائقي الباصات واطلب منه أن
ينـزل الجثة ويجرها نحو المجندة ..
مجيد: انظر .. اغلب الباصات مرت ..
حميد: أظنهم سيمنعون مررورنا..
مجيد: الوضع على الحدود سيكون خطراً بعد ساعات ..
حميد: لن أسمعك .. لا أريد أن أسمعك .. اتركني ..
تريد أن تنبش ثقوب الميت .. هل توافق على ذلك؟!
مجيد: لتفعل ما تريد ..لا يوجد أمامنا سوى هذا الحل ..
مجيد: وإن لم نصل إلى بغداد حاملين الجثة ..سنخسر .. المبلغ ..
حميد: عليك أن تتحمل مسؤولية الجثة بنفسك.. أنا أتنازل عن أجرتي..
مجيد: وتتركني وحدي؟!!!
رهينة الكلاب!!
حميد: لو قطعت رأسي..لن أنفذ أوامرك ..
سأعود إلى عمان .. لا أريد أن أموت من أجل لاشيء ..
مجيد: وإن أقنعتها بالمرور لن آخذك معي إلى بغداد..
حميد: لن أعود معك إلى بغداد !
مجيد: ساقط
حميد: أنت ساقط!
مجيد : دوني!
حميد: أنت دوني!
مجيد: غدرتني!
حميد: أنت قتلتني! مجرم .. حقير .. أكلت حقي وحق أولادي!
حطَّمت حياتي .. وسخ .. منحط .. مجرم .. مجرم ..
يجلس مجيد أمام التابوت..
لن أتخلى عن هذه الجثة!
حتى لو انفجرت الأرض تحت قدمي، وقصفت الرعود فوق رأسي!
المهم أن أوصل هذا التابوت إلى بغداد!
سأذهب إلى المجندة وأقنعها بالموافقة على عبور الحدود!
لن أرفض لها طلباً
حتى لو كان تعرية البيت
من كل ملابسه وانتهاك حرمة جسده، نعم، لتعرّيه وتنبشه
بالشكل الذي تراه مناسباً!
ما يهمني الآن هو الوصول إلى بغداد وتسليم الميت إلى ذويه
وأخذ المبلغ الذي وعدوني به..!
يتغير الضوء فيصير مجيد أمام المجندة
على مقربة من التابوت
مجيد يكلم المجندة: أعرف بأن المناخ بارد وقارس ،
يمكن أن يقتل حتى البهائم
لذلك أهنئك على صمودك
ودفاعك عن الأمن في بلدي (بسخرية)
أنا أيضاً أدافع عن بلدي بطريقتي الخاصة. لهذا حملت جنازة أكثر المرشحين للانتخابات خطوة عند الناس.
أمرٌ مؤلم أن تكوني بعيدة عن أهلك ، ووطنك وأولادك ، وأنا لا أشك بأنك تحبين العودة إلى وطنك، ولا أشك بأنك محرومة من الألفة وممارسة الجنس، والعودة إلى بيتك الدافئ والذهاب إلى المسرح والسينما والبقاء ساعات في البانيو، والتنـزه مع كلبك في شوارع نيويورك ، والسفر بالقطارات إلى تكساس ، ذهبت إلى عمان وأنا أحلم بمرشح قوي للانتخابات ، لكني وصلت إلى هذه الحدود مع جثة مرعبة ، أرجوك ، ساعديني بالعبور مع هذه الجثة إلى بغداد ، أقبل يديك، حذاءك العسكر، فوهة رشاشك ! وإذا أردت أن تفتشي الميت، فتشيه بالطريقة التي تحلو لك.جرديه من ملابسه، من حرمته.
ينفجر التابوت بوجه مجيد وتتطاير
الشظايا لتصيب عينيه.
بعد فترة من الزمن يدخل مجيد الذي فقد بصره وحميد إلى
ذات الحمام في بغداد.
حميد: مات ميتة غريبة ما أن دست المجندة أصبعها في، حتى انفجرت الدنيا، اشتعلت الباص والحدود والناس!
مجيد: اختفى الجميع ولم يبق أحد سوى أنا!
حميد: لو بدلنا مهنة السواقة بحفاري قبور ، كان ذلك سيكون أفضل لنا!
مجيد: لو كنت حفار قبور لصرت دودة، دودة تُحِس بالشبق!
حميد ومجيد يضحكان بشكل هيستيري.
حميد: دودة مكبوتة!!
يضحكان أكثر.
مهنة الحفارون مهنة ديلوكس لأنهم يتاجرون بأجساد ليست لهم ويدفنوا الناس بأرض ليست ملكهم!
مجيد: أين نحن؟
في نفس الحمام ، نفس الأحواض، حميد، أين أنت، تعال دلك لي ظهري، صوبن لي جسدي!
هل أنت سعيد بفقدي نظري!
حميد: لست سعيداً ولا حزيناً، لم أعد أعرفك ..لم أعرفك ، أشعر كأنك صرت رجلاً آخر!
المنولوج النهائي / مجيد
مجيد: فعلاً أشعر أنني رجل آخر..
الآن انهارت كل أحلامي ومشاريعي ..ربما اندفعت وراء رغباتي أكثر مما يجب، توهمت لفترة من الزمن أن العمل مع المقاولين والسماسرة وتجارة الحرب سيحسن من وضعي المعاشي ، لهذا وافقت على وضع سياراتي في خدمة مخططاتهم وأهدافهم دون قيد أو شرط، وقمت بنقل الأسلحة والمؤن وقطع الغيار من وإلى الأماكن التي كانوا يقترحونها علي.
قبل عدة اشهر كلفوني بنقل كميات كبيرة من الخبز والماء الصافي والحليب إلى عدد من السجون في بغداد ..وافقت وصرت اشتغل ليلاً نهاراً ليلاً نهاراً نهاراً ليلاً، اعتقدت أني وفقت وأن الفرج بات قريباً، مع ذلك كنت أحس بالخوف والرعب في كل مرة اقترب فيها من بوابات السجون ..
فعلاً صدق احساسي يوماً عندما فاجأتني مروحية وعدد من الدبابات والجنود على بعد أمتار من البوابة الرئيسية للسجن، طوقوا سيارتي .. واقترب أحد الجنود مني شدَّ عيني .. وربط يدي وقادوني إلى داخل السجن دون فهم السبب.
في ذلك السجن لم يسمحوا لي بالدفاع عن نفسي، أو أن أتفوه بكلمة واحدة اصبت بالذعر .. انتظرت منهم أن يحققوا معي، أن يذكروا أسباب اعتقالي ، أجبروني على خلع ملابسي، كامل ملابسي، رموني إلى منتصف قاعة كبيرة فارغة، لم يكن في ذلك المكان سوى ألواحاً زجاجية ضخمة، ومرايا أحاطت بي من كل صوب، لم يفتح أحد منهم الباب، بقيت هناك أكثر من ثلاثة أيام بلا طعام ولم اشرب قطرة ماء واحدة..
تسلل رعب خفي إلى روحي، انهارت قدرتي، تصدع رأسي ، وفي الليل كنت أسمع أصوات رجال ونساء يتهامسون ، وبكاء مرير ، أبواب تفتح وأخرى تغلق، أغان فاجرة ملأت المكان بصخب لم أسمعه في حياتي، وجهوا ضوءاً قوياً نحوي، وقعت على الأرض من شدة الألم والخوف، تحطم الزجاج اقتحم المكان حيوان ضخم لم أميز شكله ركض نحوي والسلاسل تتدلى من رقبته ، دار حولي دون أن يمسني أحسست بأني عارٍ تماماً، خبأت رأسي بين يدي خجلاً وخوفاً، توالت اقتحامات حيوانات شبيهة، ربطت بسلاسل مخيفة، ازدادت الموسيقى صخباً وحدة، أضيء المكان وأظلم عدة مرات ، أحسست وكأنني وسط سيرك لحيوانات تريد أن تحتفل ، ماء ساخن هطل علي من الأعلى ، تكورت وبقيت ملتصقاً بالأرض من شدة الرعب.
جاءني أمر بالنهوض عبر مكبرات الصوت، ركضت، أسرعت، ركضت أكثر، بسرعة أكبر درت في المكان درت بسرعة، وقعت عدة مرات ، هرب مني لهاثي، تنفسي، فقدت الإحساس بقدمي.. لم تكن أمامي من ملاذ إلا أن أصلي صلاتي الداخلية .. ربي .. ربي .. اسندني .. قدني.. هذه لحظتك قف معي..
يقوم ويتجه نحو عمق المسرح..يقف ليقول كلمته الأخيرة.
سأذهب إلى أمي ، سأعترف أمامها
بكل ذنوبي وخطاياي، من يدري، ربما تغفر لي!!
يخرج من الحمام ، نسمع صوت انفجار مدوي ، حميد يخرج ليعود حاملاً أخيه،حميد يضع أخيه في البانيو، يرمم له جروحه ويجلسان في منتصف البانيو ، كأنهم مبحرون إلى عالم آخر.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow