كتاب طبائع الاستبداد
2006-08-25
ولد عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب لأسرة اشتهرت بالعلم. ودرس في مدارسها حتى أتقن العربية والتركية وعلومهما. وهو لئن أبدى منذ صباه الباكر فضولاً وتوقاً إلى الجديد. فإن اختلاطه بنوادي الاشتراكيين الإيطاليين عبر ناد لهم في حلب نفسها، جعله على احتكاك مباشر بجديد الفكر في العالم، وهو تأثر بأفكارهم إلى درجة أن البعض (العقاد مثلاً) يرى أن كتابه "طبائع الاستبداد" كان محصلة تعاليمهم، واختلاطه بهم.
منذ تفتح وعيه واكتمل في مرحلته الأولية توجه الكواكبي إلى الصحافة والكتابة فحرر جريدة "فرات" ثم أصدر "الاعتدال" و "الشهباء"، وذلك بالتوازي مع تقلبه في العديد من الوظائف الحكومية، غير أن تلك الوظائف، بدلا من أن تدجنه وتجعله مطيعاً للسلطات، فتحت عينيه على ما يكابده الشعب، في عيشه كما في كرامته، فراح ينتقد ويزيد من انتقاداته في الوقت فيه، في صراع مباشر مع الشيخ أبي الهدى الصيادي، رجل السلطان عبد الحميد، ومنافس أسرة الكواكبي، اجتماعياً ودينياً.
وكان اضطهاد للكواكبي ومحاكمة وطرد من العمل وتلفيق اتهامات، ومن ثم غادر أراضي الشام، إلى مصر التي كانت مركز استقطاب رجال الحرية والفكر في العاملين العربي والإسلامي. والملفت هنا أنه سرعان ما انطلق من مصر في جولة بحرية (على متن سفينة إيطالية ما جعل الأفكار المتعلقة بارتباطه بالإيطاليين بشكل أو بآخر تتعزز وتعرف أرضية صالحة للعديد من التأويلات، قادته إلى بلدان أفريقيا الساحلية الشرقية كما إلى مناطق بحرية في جزيرة العرب وصولاً إلى الهند. وكانت غايته من الرحلة "دراسة أحوال المسلمين"، وهو بعد دراسة معمقة لتلك الأحوال وجد أن بؤسها يعود إلى "حرمان الأمة من حرية القول والعمل" و "الجهل المطبق ولا سيما في أمور الدين" و "تشوش الإدارة المركزية" و "التخلف عن ركب الحضارة وعدم مجاراة الزمن" و "الفقر العام" و "عدم الاهتمام بتعليم النساء" و "فساد الأسرة وتفسخ الأخلاق".
بعد انتهائه من رحلته عاد الكواكبي إلى مصر حيث شرع يكتب حول ما شاهده ويحاول الإصلاح. ولقد جلبت له كتاباته شهرة كبيرة، وجعلت المفكرين يتجمعون من حوله ما جعل له مكانة الأستاذ بينهم، خاصة وان المقالات التي راح ينشرها في "المؤيد" كانت تلقى أصداء كثيرة.
وكان عبد الرحمن الكواكبي في قمة مجده ومحاولاته الإصلاحية حين توفي بشكل مباغت، ويرى الكثيرون، محقين، أن رحيله لم يكن بريئا، بل أنه نتيجة لمؤامرة دبرت ضده لإسكات صوته الذي كان بدأ يفعل فعله في مصر ودنيا العرب، والشرق الإسلامي عموماً.
مـقـدمــــــــة
لا خفاء أن السياسة علم واسع جداً يتفرع الى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجدإنسان لا يحتك فيه .
وقد وجد في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطراداً في مدونات الأديان والحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب. ولا تعرف للأقدمين كتب مخصوصة فى السياسة لغير مؤسسي الجمهوريات من الرومان واليونان، وإنما لبعضهم مؤلفات سياسة أخلاقية ككليلة ودمنة، رسائل "غوريغوريوس" ومحررات سياسية دينية كنهج، البلاغة، وكتاب الخراج .
وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مفصلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام، فهم ألفوا فيه ممزوجاً بالأخلاق، كالرازي والطوسي الغزالي والعلائى وهي طريقة الفرس، وممزوجاً بالأدب كالمعري والمتنبي وهي طريقة العرب، وممزوجاً بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة وهى طريقة المغاربة .
وأما المتأخرون من أهل أوروبا ثم أمريكا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيراً، واشبعوه تفصيلا ًحتى إنهم أفردوا بعض مباحثه فى التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، سياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية الخ. وقسموا كلا منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع .
وأما المتأخرين من الشرقيين ، فقد وجد من الترك كثيرون ألفو في أكثر مباحثه تآليف مستقلة، ممزوجة مثل أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلفون من العرب قليلون ومقلون، والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم رفاعة بك، وخير الدين باشا التونسي وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني .
ولكن يظهر لنا الآ ن أن المحررين السياسيين من العرب قد كثروا، بدليل مايظهر من منشوراتهم فى الجرائد والمجلات فى مواضيع كثيرة، ولهذا لاح لهذا العجز أن أذكر محضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهم المباحث السياسية، وقل من طرق بابه منهم الى الآن .
فأدعوهم إلى ميدان المسابقة فى خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبهونهم، لا سيما العرب منهم، لما هم عنه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل ( ما هو داء الشرق وما دواؤه؟).
ولما كان تعريف علم السياسة بأنه هو " إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة " يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها بحث (الاستبداد)أي التصرف فى الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى .
وإنى أرى أن المتكلم فى الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص " ماهو الاستبداد ؟ ماسببه؟ ماسيره؟ ما إنذاره ؟ ما دواؤه؟ و كل موضوع من ذلك يتحمل تفصيلات كثيرة وينطوى على مباحث شتى من أمهاتها : ماهى طبائع الاستبداد ؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولى الجبن على رعية المستبد؟ ما تأثير الاستبداد على الدين ؟على العلم ، على المجد ، على المال ، على الخوف .على الترقي ، على التربية ، على العمران من هم أعوان المستبد ؟ هل يتحمل الاستبداد ؟ كيف يكون التخلص من الاستبداد ؟ بماذا ينبغى استبدال الاستبداد ؟.
قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير الى النتائج التى تستقرعندها أفكار الباحثين فى هذا الموضوع، وهى نتائج متحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين وهي :
يقول المادي : الداء القوة والدواء المقاومة .
ويقول السياسي : الداء استعباد البرية والدواء استرداد الحرية .
ويقول الحكيم : الداء الداء القدرة على الاعتساف والدواء الاقتدار على الاستنصاف .
ويقول الحقوقي : الداء تغلب السلطة على الشريعة والدواء تغلب الشريعة على السلطة .
ويقول الرباني : الداء مشاركة الله فى الجبروت والدواء توحيد الله حقاً.
وهذه أقوال أهل النظر . وأما أهل العزائم :
فيقول الأبيّ : الداء مد الرقاب للسلاسل والدواء الشموخ عن الذل .
ويقول المتين : الداء وجود الرؤساء بلا زمام والدواء ربطهم بالقيود الثقال .
ويقول الحر: الداء التعالى على الناس باطلاً والدواء تذليل المتكبرين .
ويقول المفادى : الداء حب الحياة والدواء حب الموت .
****** *******
الاستبداد والدين
تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين فى التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد، فهما أخوان، أبوهما التغلب، و أمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان، أحدهما : في مملكة الأجسام، والآخر: في عالم القلوب .
والفريقان مصيبان فى حكمهما بالنظر الى مغزى أساطير الأولين، والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الاقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كماهم مخطئون إذا نظروا الى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي، وليس من العذر شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن لخفائها علينا في طي بلاغته، و وراء العلم بأسباب نزول آياته، وانما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين .
يقول هؤلاء المحررون : إن التعاليم الدينية ومنها الكتب السماوية تدعو البشر الى خشية قوة عظيمة هائلة لا تدرك العقول كنهها ، قوة تتهدد الإنسان بكل مصيبة ( في الحياة فقط ) كما عند البوذية واليهودية، ( أو في الحياة وبعد الممات ) كما عند النصـارى والإسلام، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى و تنذهل منه العقول، فتستسلم للخبل والخمول، ثم تفتح هذه التعاليم أبواباً للنجاة من تلك المخاوف، نجاة وراءها نعيم مقيم، ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة أوالقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول مالم يعطوهم مع التذلل والصغار، و يرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران، حتى أن أؤلئك الحجاب فى بعض الاديان يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح ، مالم يأخذوا عنها مكوس المرور إلى القبور ، و فدية الخلاص من مطهر الأعراف.
وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهبون الناس من غضب الله وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم ثم يرشدونهم إلى أن لا خلاص ولا مناص لهم إلا بالالتجاء إلى سكان القبور الذين لهم دالة بل سطوة على الله فيحمونهم من غضبه .
ويقولون إن السياسيين يبنون كذلك استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي ، والتشامخ الحسي ، ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون .
ويرون أن هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين الدينى والسياسي جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس ، مشتركين فى العمل كأنهما يدان متعاونتان، وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنها اللوح والقلم يسجلان الشقاء على الأمم .
ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ، ينجرّ بعوام البشر وهم السواد الأعظم إلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر ، فيختلطان فى مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم، والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذ على الأفعال ، بناءً عليه لايرون لأنفسهم حقاً في مراقبة المستبد لانتقاء النسبة بين عظمته ودناءتهم، وبعبارة أخرى يجدالعوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثيرمن الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلاً بين (الفعّال المطلق)، والحاكم بأمره، بين ( لايسأل عما يفعل ) وغير مسؤول، وبين ( المنعم ) و ولي النعم ، وبين ( جل شأنه ) وجليل الشأن. بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله ، ويزيدون تعظيمهم على التعظيم لله ، لأنه حليم كريم، ولأن عذابه آجل غائب، وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر!. والعوام كما يقال عقولهم فى عيونهم، يكاد لايتجاوز فعلهم المحسوس المشاهد، حتى يصح أن يقال فيهم: لولا رجاؤهم بالله وخوفهم منه فيما يتعلق بحياتهم الدنيا لما صلوا ولا صاموا ، ولولا أملهم العاجل لما رجحوا قراءة الدلائل والأوراد على قراءة القرآن، ولا رجحوا اليمين بالأولياء المقربين كما يعتقدون على اليمين بالله .
وهذه الحال هي التي سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية، حتى يقال إنه ما من مستبد سياسى إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله.
ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله. وأقل ما يعينون به الاستبداد تفرق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية، تقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها، فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ، وهذه سياسة الانكليز في المستعمرات لايؤيدها شيء مثل انقسام الأهالى على أنفسهم، وإفنائهم بأسهم بينهم، بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب .
ويعللون أن قيام المستبدين من أمثال ( أبناء داود ) و( قسطنطين ) في نشر الدين بين رعاياهم، وانتصار مثل ( فيليب الثاني ) الاسباني و( هنري الثامن ) الانكليزي
للدين حتى بتشكيل مجالس ( انكيزيسيون ) وقيام الحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية، وبنائهم لهم التكايا لم يكن إلا بقصد الاستعانة بممسوخ الدين وببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين، وأعظم ما يلائم مصلحة المستبد ويؤيدها أن الناس يتلقون قواعده وأحكامه بإذعان، بدون بحث أوجدال فيودون تأليف الأمة على تلقي أوامرهم بمثل ذلك، ولهذا القصد عينه كثيراً مايحاولون بناء أوامرهم أو تفريعها على شيء من قواعد الدين .
ويحكمون بأن بين الاستبدادين السياسي والدينى مقارنة لاتنفك، متى وجد أحدهما في أمة جر الآخراليه، أومتى زال زال رفيقه، و إن صلح أي ضعف أحدهما صلح أي ضعف الثاني .
ويقولون إن شواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان، ويبرهنون على أن الدين أقوى تأثيراً من السياسة إصلاحا و إفسادا، ويمثلون بالسكسون أي الانكليز والهولنديين والاميركان والألمان الذين قبلوا البروتستنتية، فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي والأخلاقي أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللاتين أي الفرنسيين والطليان والاسبانيول والبرتغال. وقد أجمع الكتاب السياسيون المدققون، بالاستناد على التاريخ والاستقرار، من أن ما من أمة عائلة أو شخص تنطع فى الدين أي تشدد فيه إلا واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه .
والحاصل أن كل المدققين السياسيين ويرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين ، ويعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى و أقرب طريق للاصلاح السياسي.
وربما كان أول من سلك هذا المسلك - أي استخدام الدين في الإصلاح السياسي - هم حكماء اليونان، حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين فى حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية، أخذوها عن الآشوريين، و مزجوها بأساطير المصريين، بصورة تخصيص العدالة بإله، والحروب بإله، والأمطار بإله ، إلى غير ذلك من التوزيع، وجعلوا لإله الآلهة حق النظارة عليهم ، وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم.
ثم بعد تمكن هذه العقيدة فى الأذهان بما ألبست من جلالة المظاهر وسحر البيان، سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد، وبأن تكون إدارة الأرض كإدارة السماء ، فانصاع ملوكهم الى ذلك مكرهين. وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان أخيراً من إقامة جمهوريات أثينا واسبارطة. وكذلك فعل الرومان. وهذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارة في الحكومات الملكية والجمهوريات على أنواعها إلى هذا العهد .
إنما هذه الوسيلة أي التشريك، فضلاً عن كونها باطلة في ذاتها، نتج عنها أخيراً رد فعل أضر كثيراً، وذلك أنها فتحت لمشعوذين من سائر طبقات الناس باباً واسعاً لدعوى شىء من خصائص الألوهية كالصفات القدسية والتصرفات الروحية، وكان قبل ذلك لايتهجم على مثلها غير أفراد من الجبابرة كنمرود ابراهيم وفرعون موسى ثم صار يدعيها البرهمي والبادري والصوفي. ولملاءمة هذه المفسدة لطباع البشر من وجوه كثيرة، ليس بحثنا هذا محلها، انتشرت وعمت وجندت جيشاً عرمرماً يخدم المستبدين.
وقد جاءت التوراة بالنشاط، فخلصتهم من خمول الاتكال بعد أن بلغ فيهم أن يكلفوا الله ونبيه يقاتلان عنهم، وجاءتهم بالنظام بعد فوضى الأحلام، ورفعت عقيدة التشريك مستبدلة مثلاً أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة ولكن لم يرض ملوك آل كوهين بالتوحيد فأفسدوه .ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة والحلم فصادف افئدة محرقة بنار القساوة والاستبداد، وكان أيضاً مؤيداً لناموس التوحيد ،ولكن لم يقو دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة، الذين بادرو لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية، أن الأبوة والبنوة صفتان مجازيتان يعبر بهما عن معنى لايقبله العقل إلا تسليماً، كمسألة القدر التى ورثت الإسلامية التفلسف فيها عن أديان الهنود وأوهام اليونان. ولهذا تلقت الأمم الأبوة والبنوة، بمعنى توالد حقيقى لأنه أقرب إلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق المحسوسات، ولأنهم كانوا قد ألفو الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأولين أنهم أبناء الله، فكبر عليهم أن يعتقدوا في عيسى عليه السلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثم لما انتشرت النصرنية ودخلها قوم مختلفون، تلبست ثوباً غير ثوبها، كما هو شأن سائر الاديان التى سلفتها، فتوسعت برسائل بولس ونحوها فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرومان والمصريين مضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها ، وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النصرانية تعظم رجال الكهنوت الى درجة اعتقاد النيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوة التشريع، ونحو ذلك مما رفضه أخيراً البروتستانت، أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل .
ثم جاء الإسلام مهذباً لليهودية والنصرانية، مؤسساً على الحكمة والعزم ، هادماً للتشريك بالكلية، ومحكماً لقواعد الحرية السياسة المتوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فأسس التوحيد، و نزع كل سلطة دينية أو تغلبيَّـة تتحكم في النفوس أو في الأجسام، و وضع شريعة حكمه إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان، وأوجد مدنية فطرية سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التى لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشرحتى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدى العباسى ونور الدين الشهيد. فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه اماماً، فأنشؤوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها ، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة و روابط هيئة اجتماعية اشتراكية لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة، لكل منهم وظيفة شخصية، ووظيفة عائلية، و وظيفة قومية .
على أن هذا الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمدى لم يخلفه فيه حقاً غير أبى بكر وعمر ثم أخذ بالتناقص، وصارت الأمة تطلبه وتبكيه، من عهد عثمان إلى الآن، وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدين اذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسي شوري ، ذلك الطراز الذى اهتدت إليه بعض أمم الغرب، تلك الأمم التي، لربما يصح أن نقول، قد استفادت من الاسلام أكثر مما استفاده المسلمون .
وهذا القرآن الكريم مشحون بتعليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل، والتساوي حتى في القصص منه ، ومن جملتها قول بالقيس ملكة سبأ من عرب تـُبـَّـع تخاطب أشراف قومها ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون 0 قالوا نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد ، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين 0 قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) .
فهذه القصة تعلم كيف ينبغى أن يستشير الملوك الملأ أي أشراف الرعية، وأن لايقطعوا أمراً إلا برأيهم، وتشي إلى لزوم أن تحفظ القوة والبأس فى يد الرعية، وأن يخصص الملوك بالتنفيذ فقط، وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيراً ، و تقبح شأن الملوك المستبدين .
ومن هذا الباب أيضاً ما ورد فى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى : ( وقال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) أي قال الأشراف بعضهم لبعض : ماذا رأيكم ؟ ( قالوا) خطابا لفرعون وهو قرارهم أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ) ثم وصف مذاكراتهم بقوله تعالى : (فتنارعوا أمرهم ) أي رأيهم ( بينهم وأسروا النجوى ) أي أفضت مذاكرتهم العلنية إلى النزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجرى إلى الآن فى مجالس الشورى العمومية .
بناء على ما تقدم لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات التي منها قوله تعالى (وشاورهم في الأمر ) أي فى الشأن ، ومن قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) أي أصحاب الرأي والشأن منكم، و هم العلماء والرؤساء على مااتفق عليه أكثر المفسرين، وهم الإشراف في اصطلاح السياسيين. ومما يؤيد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: (وما أمر فرعون ) أى ما شأنه، وحديث " أميري من الملائكة جبريل " أي مشاوري .
وليس بالأمر الغريب ضياع معنى ( أولي الأمر) على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وقد أغفلو معنى قيد ( منكم ) أي المؤمنين، منعاً لتطرق أفكار المسلمين الى التفكير بأن الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله ، ثم التدرج الى معنى آية ( ان الله يأمر بالعدل ) أي التساوي، ( واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) أي التساوي ؛ ثم ينتقل الى معنى آية ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين ، وأن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً . والأغرب من هذا جسارتهم على تضليل الأفهام في معنى (أمر) . فى آية : ( وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) ، فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا الى الله الأمر بالفسق . . .تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . . .
والحقيقة فى معنى ( أمرنا هنا أنه بمعنى أمرنا – بكسر الميم أوتشديدها – أي جعلنا أمراءها مترفيها ففسقوا فيها ( أي ظلموا أهلها ) فحق عليهم العذاب أي ( نزل بهم العذاب ) .
والأغرب من هذا وذاك أنهم جعلوا للفظة " العدل " معنى عرفيا وهو الحكم بمقتضى ماقاله الفقهاء حتى أصبحت لفظة العدل لاتدل على غير هذا المعنى ، مع أن العدل لغة التسوية ؛ فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم ، وهذا هو المراد فى آية : ( ان الله يأمر بالعدل ) ، وكذلك القصاص في آية : ( أن لكم فى القصاص حياة ) المتواردة مطلقاً ، لا المعاقبة بالمثل فقط على مايتبادر إلى أذهان الإسراء الذين لا يعرفون للتساوي موقعاً في الدين غير الوقوف بين يدي القضاة .
وقد عدد الفقهاء من لتقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتى من يأكل ماشياً فى الأسواق ؛ ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسقوا الأمراء الظالمين فيردوا شهادتهم . ولعل الفقهاء يعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين فى مواقع أخرى ؛ ولكن ما عذرهم فى تحويل معنى الآية : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) إلى أن هذاالفرض هوفرض كفاية لا فرض عين ؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض ؛لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير فخصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية : السياسية والمالية والتشريعية ، فتخلصوا بذلك من شآمة الاستبداد . أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد ؟ ومن يدرى من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا الحمد أذا عدلوا ، وأوجبوا الصبر عليهم أذا ظلمو ، وعدوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين ؟!
اللهم ان المستبدين وشركاءهم قد جعلو دينك غير الدين الذى أنزلت فلا حول ولا قوة إلا بك !
كذلك ما عذر أولئك الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياهم أن يقولو : لايكون الأمير الأعظم إلا وليا من أولياء الله ، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله ، وانه يتصرف فى الأمور ظاهراً، ويتصرف فيها قطب الغوث باطناً ! ألا سبحان الله ما أحلمه !
نعم ، لولا حلم الله لخسف الارض بالعرب ؛ حيث أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسس لهم أفضل حكومة أسست فى الناس ، جعل قاعدتها قوله: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" أي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الأمة . وهذه الجملة التي هي أسمى وابلغ ماقاله مشرع سياسى من الأولين والآخرين ، فجاء من المنافقين من حرف المعنى عن ظاهره وعموميته الى أن المسلم راع على عائلته ومسؤول عنها فقط . كما حرفوا معنى الآية : ( المؤمنون بعضهم أولياء بعض ) إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة .
وهكذا غيروا مفهوم اللغة ، وبدلوا الدين ، وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال ، وعزة الحرية ، بل جعلوهم لايعقلون كيف تحكم أمة نفسها دون سلطان قاهر.
و كأن المسلمين لم يسمعوا بقول النبي علية السلام : " الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى " . وهذا الحديث من أصح الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسراً الآية ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فإن الله جل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله : ( وكرمنا بني آدم ) ثم جعل الأفضلية في الكرامة للمتقين فقط .
ومعنى التقوى لغة ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير ( عند الله ) أي في الآخرة دون الدنيا ؛ بل التقوى لغة : هي الاتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احتزازاً من عقوبة الله . فقوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم كقوله ان أفضل الناس أكثرهم ابتعاداً عن الآثام وسوء عواقبها .
وقد ظهر مما تقدم أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكم بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء ، بحضها على الإحسان والتحابب . وقد جعلت أصول حكومتها : الشورى الايروستوقراطية ، أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم . وجعل أصول إدارة الأمة : التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد .
وقد مضى عهد النبي علية السلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها . ومن المعلوم أنه لايوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم ، كلها من أجلّ وأحسن مااهتدى إليه المشرعون من قبل ومن بعد . ولكن واأسفاه على هذا الدين الحر ، الحكيم ، السهل ، السمح ، الظاهرة فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه ، الدين الذي رفع الإصر والأغلال ، وأباد الميزة والاستبداد ، الدين الذي ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان ، الدين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد ، واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً ، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضيعوا مزاياه و حيروا أهله بالتفريع والتوسيع ، والتشديد والتشويش،وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة ، حتى جعلوه ديناً حرَجاً يتوهم الناس فيه أن كل ما دونه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين ، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته ، إلا من لا علاقة له بالحياة الدنيا ؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر ، العاطل عن كل عمل ، لا تفي تعلم ماهي الإسلامية عجزاً عن تمييزا الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة ؛ وما افترقوا؛ إلا وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجة وأسكته البرهان ؛ والحقيقة أن كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة .
وبهذا التشديد الذي أدخله على الدين منافسو المجوس، انفتح على الأمة باب التلوم على النفس، واعتقاد التقصير المطلق، وأن لا نجاة ولا مخرج ولا إمكان لمحاسبة النفس فضلا ً عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام. وهذا الإهمال للمراقبة ، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الاسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود. وبهذا وذاك ظهر حكم حديث: " لتأمرن بالمعروف لتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومرنكم سوء العذاب". وإذا تتبعنا سيرة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما مع الأمة، نجد أنهما مع كونهما فطورين خير فطرة ونائلين التربية النبوية لم تترك الأمة معهما المراقبة والمحاسبة ولم تطعهما طاعة عمياء .
وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم وليس هو من دينهم بالنظر إلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال: ( اقتبسوا ) من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية و ( ضاهوا ) في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة ، والكردينالية والشهداء وأساقفة، و(حاكوا) مظاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها، وحالةالأديرة وبادريتها. والرهبنات ورسومها والحمية وتوقيتها، ( وقلدوا ) رجال الكهنوت والبراهمة في مراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم، ولبس المسابح في الرقاب، ( وقلدوا ) الوثنيين الرومانيين في الرقص على أنغام الناي والتغالي في تطييب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها وتكليلها وتكليل القبور بالزهور. ( وشاركوا ) مراسم الكنائس وزينتها، والبيع واحتفالاتها، والترنحات ووزنها، والترنمات وأصولها ، وإقامة الكنائس على القبور ، وشد الرحال لزيارتها ، والإسراج عليها، والخضوع لديها ، وتعليق الآمال بسكانها. و( اخذوا) التبرك بالآثار: كالقدح والحربة والد ستار، من احترام الذخيرة وقدسية العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين ، من إمرارها على الصدر لإشارة التصليب. ( وانتزعوا ) الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من الحلول ، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد ورفع الإعلام من حمل الصلبان، وتعليق الواح الأسماء المصدرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيل ، والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناءً امام الأصنام. و ( منعوا ) الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة كحظر الكاثوليك التفهم من الإنجيل وامتناع أحبار اليهود عن أقامة الدليل من التوراة في الإحكام . و( جاءوا ) من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك وبخشية أوضاع الكواكب وباتخاذ إشكالها شعاراً للملك ، وباحترام النار ومواقدها .
و( قلدوا ) البوذيين حرفاً بحرف في الطريق والرياضة وتعذيب الجسم بالنار والسلاح ، واللعب بالحيات والعقارب وشرب السموم ، ودق الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب ، واعتقاد تأثيرالعزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم إلى غير ذلك مما هو مشاهد فى بوذيي الهند ومجوس فارس والسند إلى يومنا هذا . وقد قيل انه نقله إلى الإسلامية أمثال جون وست وسلطان على منلا والبغدادي وحشية فلان الشيخ وفلان الفارسي ، على أن اسناد ذلك إلى أشخاص معينين يحتاج إلى تثبيت .
( ولفقوا ) من الأساطير والإسرائيليات أنواعا من القربات ، وعلوما سموها لدنيات .
وكذلك يقال عن مبتدعى النصارى من أن أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية حتى مشكلة التثليث لا أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام ؛ إنما هو مزايدات وترتيبات قليلها مبتدع ، وكثيرها متبع . وقد اكتشف العلماء الآثار يون من الصفائح الحفرية الهندية والأشورية ومن الصحف التي وجدت فى نوا ميس المصريين الأقدمين على مآخذا كثرها . وكذلك وجدو لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولاً في الأساطير والأثار والالواح الاشورية ، وترقوا في التطبيق والتديق إلى أن وجدو معظم الخرافات المضافة إلى أصول عامة الأديان فى الشرق الاردنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنحل الشرق الأقصى ، وقد كشفت الآثار ان الاستبداد أخفى تاريخ االأديان وجعل أخبار منشأها فى ظلام مطبق ، حتى إن أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساساً وجود موسى وعيسى عليهما السلام ، كما شوش الاستبداد فى المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان ؛ الأمر الذي تولد عنه ظهور الفرق التي تشيعت لهم كالامامية والاسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم .
والخلاصة أن البدع التي شوشت الايمان وشوهت الأديان تكاد كلها تسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد ، الا وهو الاستعباد .
والناظر المدقق فى تاريخ الاسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الاولين بعض العلماء الأعاجم وبعض مقلديهم من العرب المتأخرين أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة عن سبيل الحكمة يريدون بها إطفاء نور العلم واطفاء نور الله ، ولكن ابى الله الا أن يتم نوره ؛ فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحكم من أن تمسه يد التحريف وهي احدى معجزاته لانه قال فيه ( إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون ) فما مسه المنافقون الا بالتأويل وهذا أيضاً من معجزاته ؛ لانه أخبر عن ذلك فى قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) .
واني أمثل للمطالعين ما فعله الاستبداد فى الاسلام بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسروا قسمي الآلاء والاخلاق من القرآن تفسيراً مدققا ً لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغفل السالفين أو بعض المنافقين المقربين المعاصرين ، فيكفـرون فيقتلون . وهذه مسألة إعجاز القرآن وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث ، واقتصروا على مقاله فيها بعض السلف قولاً مجملاً من أنها قصور الطاقة
عن الاتيان بمثله في فصاحته وبلاغته ، وانه أخبر عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون مع انه لو فتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحكم لأظهروا فى ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الاعجاز ، لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله ( ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين ) ، ولجعلوا الأمة تؤمن باعجازه عن برهان وعيان لامجرد تسليم واذعان .
ومثال ذلك أن العلم كشف فى هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وامريكا ؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أو التلميح فى القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا ؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخلفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام رب لايعلم الغيب سواه ؛ ومن ذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال ( ثم استوى إلى السماء وهى دخان ) . وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) إلى أن يقول: ( وكل في فلك يسبحون ) .
وحققوا ن الأرض منفتقة في النظام الشمسي والقرآن يقول : ( أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ) .
وحققوا أن القمر منشق من الأرض والقرآن يقول : ( أفلام يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) . ويقول : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول : ( خلق سبع سموات طباقاً ومن الأرض مثلهن ) .
وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض أي ترتج في دورتها والقرآن يقول : ( وألقى فى الأرض رواسي أن تمتد بكم ) .
وكشفوا أن سر التركيب الكيماوي بل والمعنى هو تخالف نسبة المقادير وضبطها والقرآن يقول : ( كل شيء عنده بمقدار ).
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور والقرآن يقول : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) .
وحققوا أن العالم العضوي ومنه الإنسان ترقى من الجماد والقرآن يقول : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) .
وكشفوا ناموس اللقاح العام فى النبات والقرآن يقول : ( خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ) ويقول : ( فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى ) ويقول : ( اهتزت وربت وانبت وانبتت من كل زوج بهيج ) ويقول : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين ) .
وكشفوا طريقة إمساك الظل أي التصوير الشمسي والقرآن يقول : ( الم تر الى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ًثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ).
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء والقرآن يقول ، بعد ذكره الدواب والجواري بالريح : ( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) .
وكشفوا وجود المكروب وتأثيره الجدري وغيره من الأمراض ، والقرآن يقول وأرسل عليهم طيراً أبابيل ) أي متتابعة مجتمعة ( ترميهم بحجارة من سجيل ) أي من طين المستنقعات اليابس . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية . وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضى أن كثيراً من آياته سينكشف سرها في المستقبل فى وقتها المرهون تجديداً لإعجازه باخباره عما فى الغيب مادام الزمان وماكر الجديدان ، فلابد أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أن الجمادات أيضاً تنمو باللقاح كما تشير إلى ذلك آية ( ومن كل شيء زوجين ) .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |