مسرح / مسرحية الأيام المخمورة مرايا تكشف الانهيار الأخلاقي والسياسي للمجتمع
ألف
2006-04-08
كان سعد الله ونوس (توفي عام 1997 ) من الكتاب المسرحيين القلائل المشغولين بتجديد أدواتهم المسرحية في كل نص جدي (إن أية كتابة للمسرح هي، دائما، هذان الشيئان المتلازمان وهما مضمون وموضوع المسرحية من جهة، وإعادة نظر في المسرح ذاته كأداة تعبير أو كجنس أدبي وفني من جهة أخرى). وبنية المسرح تشكل هاجسا دائما لدى ونوس فهو حسب قوله غالبا ما كان يشعر أن هذه البنية التي سبق واستخدمها سابقا، قد استنفذت، و لم يعد قادرا على تكرارها أو استعادتها..
في نص الأيام المخمورة و(الذي كتبه ونوس قبيل وفاته بأشهر) هناك اعتماد كبير على أشكال متنوعة من السرد، بمعنى أن السرد لم يعد مجرد عنصر خارجي عن الحدث عبر راو أو حكواتي، و لعبة السرد المسرحية تمثل الأرضية الصلبة التي اشتغل عليها ونوس بإتقان، مادام يعتبرها وسيلة أساسية لبلورة تصوره عن المسرح والواقع في آن واحد. فالنص عبارة عن تركيبة مسرحية تستثمر الإمكانيات التعبيرية للسرد بما فيها : تعدد الرواة، تراكب الحكايات، الإنتشار السردي واختزالية السرد، والهدف تشييد متخيلها الذي تستوعبه بنية عبر عنها ونوس نفسه بالتناظر أو التعاكس.
ليس في النص فصول أو مشاهد، وليس هناك أي تقطيع تقليدي. هناك مشاهد أو مواقف متسلسلة، تتقطع بالسرد.
والأسلوب السردي المتبع في الأيام المخمورة جعل منها نسيجا متشابكا من الحكايات محكمة الصياغة، متصلة الخيوط وممتدة الأنسجة بشكل يخدم الرؤية التي يعكسها النص إزاء عالم مفكك أسريا واجتماعيا، وفاسد أخلاقيا وسياسيا.
الأيام المخمورة ودمامل المجتمع
تحكي مسرحية الأيام المخمورة (التي تعرض الآن وبدءا من يوم المسرح العالمي على خشبة مسرح راميتا بدمشق) عن حفيد اكتشف بعد نضوجه دلائل (الجدة المنسية التي لا يزورها أحد) تشير بشكل يقيني، أن في عائلته دملا يتستر عليه الجميع، واقتنع أنه لن يستقر في اسمه وهويته إلا إذا اكتشف هذه الدمل وفقأها. وهذه الدمل ليست إلا حقيقة عائلة انفجرت من الداخل بسبب هروب الأم مع عشيقها بشكل نجم عنه تشتت أفراد العائلة وانخراطهم في مسارات مختلفة - بعضها مشبوه - تعكس كلها واقعا يعج بالتناقضات والتشوهات الأخلاقية والسياسية المؤلمة.
لقد فتحت عملية البحث عن حقيقة دمل العائلة للنص آفاقا سردية وتخييلية واسعة، يؤكدها النص نفسه المتكون من ست وعشرين فصلا معنونا، ويزكيها نسيج الحكايات الممتد من البداية حتى النهاية، والذي يتناوب على سرد فصوله رواة متعددون، وتساهم في بنائه دراميا لقاءات وعلاقات ومواجهات بين الشخوص.
إن الحفيد الذي يتراوح وضعه في المسرحية بين السارد أحيانا والمسرود له أحيانا أخرى ينفي إمكانية الخوض في حكاية هذه العائلة عبر منطق تسلسلي، لأنها تتضمن العديد من الأوهام والفجوات. لذا، فالإحاطة بها سوف تتم دون تمحيص كبير ودون تركيز على حسن التتابع والتنسيق. وبالفعل، فبعد عملية البحث التي حولت النص إلى متاهة سردية تتناظر فيها الحكايات وتتوازى فيها مصائر الشخصيات، سرعان ما يقتنع الحفيد بخلاصة أساسية ترجمها الشاب العامل ضمن فرقة الأراجوز وهو يشخص دور الحفيد :
(الشاب : وجدت الدمل دمامل، والطريق إلى الحقيقة متاهات وفجوات. فلم أجد أمامي إلا أن أتخيل، وأركب المشاهد، وبدلا من الحقيقة أعـدت صياغـة العائلة في رواية)
حكايات (بانوراما لمجتمع) متتابعة عبر مشاهد
- حكاية سناء الجدة التي هربت من البيت لتقيم مع عشيقها حبيب، وما تخلل هذه الواقعة من خلفيات الهروب (كتابة رسالة للزوج، إقناع ليلى بالتكتم) وآثاره على العائلة (فقدان ليلى القدرة على الكلام، خروج سرحان وسلمى من البيت وانخراطهما في عوالم اللذة والممنوعات). هذا بالإضافة إلى الوضع النفسي الذي عاشته سناء في بيت حبيب لاسيما بعدما وجدها ابنها عدنان وحاول قتلها، وهو الوضع الذي أدى إلى إصابتها بالاكتئاب والتفكير في الموت.
- حكايتا سرحان وعدنان. هذان الأخوان اللذان انحدرا من نفس البيت، لكن الأول الذي كان طالبا جامعيا سرعان ما تحول بمساعدة البوري إلى مهرب كبير استطاع تحقيق ثروة هائلة. أما الثاني الذي كان دركيا فقد انتهى إلى اليأس بعدما ظل طيلة حياته يدافع عن قيم ثابتة انهارت بسبب هروب أمه.
- حكايتا الأختين ليلى وسلمى. الأولى أم الحفيد الباحث عن حقيقة العائلة والتي تزوجت من شامل السيروان المناضل وعاشت حياتها معه إلى حين موته في معركة ضد الفرنسيين، والتي أصيبت بإحباط شديد من جراء هروب أمها. أما الثانية فقد اختارت الخروج من البيت ونحتت لنفسها مسارا مشبوها سرعان ما جعلها تصادف أخاها سرحان لتصبح شريكته في تجارة اللذة.
- حكاية عبد القادر الطحاوي الأب الذي طعن في شرفه وكرامته بسبب هروب زوجته سناء، وهي حكاية تستعاد فيها سلوكاته في الفراش الزوجي وعلاقته المنهارة مع زوجته، كما تستعاد أيضا حالات الإحباط التي تصل حد البكاء والتي كانت تفجرها في دواخله تساؤلات عن سر هروب زوجته، وكذا تفكيره في الزواج ونسيان ماضي سناء التي كان هروبها سببا في نشوء خلاف تجاري مع أخيها بهجت....
الإخراج والمرايا المتعاكسة
المخرج باسم قهار قدم حلولا إخراجية تناسب الشكل السردي وتناسل الحكايا في النص فاستخدم أسلوب الراوي الذي يقدم لنا حكايا العائلة (وهو الحفيد) فهو يتحدث عن حكايته- حكايتنا وعن دمامله التي يحاول فقأها بروايتها لنا.
اعتمد المخرج على لعبة الستائر الشفافة والمتعددة والتي تنفتح بأمر الحفيد الراوي لنرى حكاية مجسدة من حكايا العائلة تغلق الستارة لتنفتح من جديد في حركة سريعة ليبرز دور الرواي مجددا
لعبة الستائر كحل إخراجي لنص متعدد وعميق كالأيام المخمورة هي لعبة المرايا وانعكاساتها التي نرى أنفسنا فيها ونرى أغوار الشخصيات ومساراتها ومتاهاتها وهذا الحل يناسب تعدد وجهات النظر السردية، لأن الغاية هي الإحاطة بالحقيقة من وجوهها المختلفة. فالواقع ليس متناسقا حتى يخضع تشخيصه لمنطق التسلسل بل هو مركب من فجوات وأوهام ومتاهات تحتاج إلى الملء عن طريق الخيال، كما تحتاج إلى حفر متعدد المستويات بهدف كشف حقيقته الضائعة وهذا ما حاول تحقيقه باسم القهار على الخشبة مستندا إلى مواهب تمثيلية ملفتة تتعدد أجيالها ومهندس ديكور مبدع (نعمان جود) الذي يثبت في كل عرض أنه أولا في تجسيد ديكور العروض المسرحية
رغم ذلك كان هناك تفاوتا في إيقاع العرض ففي بعض المشاهد كان متوترا ومشدودا يمسك المشاهد بياقته ليتابع وفي أحيان أخرى تراخى وترك المشاهد لشروده وتشتته والنظر إلى ساعته فعرض مسرحي يستغرق أكثر من مائة دقيقة هي مدة فيلم سينمائي يحتاج لتكثيف وسرعة إيقاع كبيرة لكي تجعل المشاهد لا يتململ في كرسيه، لكن وفاء المخرج للنص جعله أمينا له ولكل ما جاء فيه فكان لا بد من التطويل.
فرقة الأمس المسرحية تحاول بعرض الأيام المخمورة جعل المسرح فنا راهنا ومستقبلا والأداة الفنية الأكثر قربا للمجتمع والأكثر ريبة للسياسي .
بطاقة العرض
الأيام المقهورة: نص سعدالله ونوس – إخراج باسم قهار-الإنتاج المجموعة المتحدة للنشر والتسويق والإعلان
الإشراف العام: فايزة الشاويش- ديكور: نعمان جود- الإضاءة نصر سفر وبسام حميدي-الموسيقى: حسان طه- الأزياء: سهى حيدر- مساعد مخرج: إياس عويشق- مدير الإنتاج: بسام الطويل....
الممثلون: محمد خير الجراح- عامر علي- سليم شريقي- نجاح سفكوني- رغداء شعراني- رباب مرهج – عايدة يوسف – مروان أبو شاهين- مازن عباس-سيف أبو أسعد- كفاح الخوص- محمد مصطفى- صبا مبارك – حنان شقير-زينة ظروف..