'قال الفتى : لبنان' للمتوكل طه
عبد السلام العطاري
2006-10-22
الضبين كتابة رورة والاحتفاء بالمواجهة
صدر حديثاً، الديوان الشعري الثالث عشر للشاعر الفلسطيني المتوكل طه، بعنوان " قال الفتى: لبنان"، وهو ديوان مكرّسٌ للفتيان، ضم ست قصائد توزعت بين الشكل العمودي والتفعيلة والنثر، وجاء الكتاب الذي انشغلَ بتلك الحرب السوداء التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، وتغنّى بالمقاومة، في مئة وعشر صفحات من القطع المتوسط ، وضم الديوان أكثر من خمسين لوحة فنية رسمها الفنان التشكيلي الفلسطيني جواد إبراهيم، أُعتُبِرَت نصاً فنيا مُكملا ومتماهياً لمعاني ومضمون الديوان .
ولعل الحدث كان يستدعي اللغة، أو أن اللغة هي دائما متأهبة لمنازلة لا تقل حالتها وحدَّتها عن رأس رمح كان على حاله، لذلك؛ "قال الفتى: لبنان"، ورأى ما رأى و لم ينزوِ خلف زجاج مثلّج في صيف كان على الجنوب لهيبا، وشَرَع ينادي غزة أو بغداد أو قانا ، ولم يقف النيلُ عائقا وكذلك الربع الخالي الذي يزعق لظاه طلبا للغيث أو قطرة منه ! لذلك كان الفتى المجازي يدرك بواطن شاعر يعرف أن الكلمة كرأس رمحه المتروك منذ أن وطِئَ مجوس القرن بلاد النهرين، أو من حطّوا بوارجهم على ساحل فينيق وكنعان ،وعصفوا ببيوت الطين المنسية خلف الأسوار، وجعلوها كعهن منفوش، ولم يقدروا أن يجعلوا من عمامة بلوشيٍ أكثر من خوذة، سرعان ما تعود إلى رأس فارسها .وكان الفتى الراوي أكثر إدراكا من مثقفين محنّطين، يخشون أن يَزِلّ الحدث ألسنتهم ، ليقعوا تحت طائلة الرِدّة عن مسارٍ خارج تاريخٍ مُعبدٍّ بالتضحيات وبرائحة الشهداء الزكية.وليس غريباً أن يعود المتوكل طه من رحلته ليسأل نفسه وكاتب هذه السطور عن الحدث التموزي الشهير .. ليقول؛ ماذا نقول؟والحدث أكبر من الكلمة! ولعل شاعراً بقامته يُدرك أن الكلمة لا تقل أهمية عن سخونة الحدث، فكان فتاهُ يقول: لبنان! ويستصرخ ضمائرَ تئن تحت سبيكة فولاذية وآذاناً فيها الصمم اليابس الذي يصعب أن يستمع إلى غير لغة "جون بولتن أو رايس" .
من هنا جاء هذا الإصدار النوعي بعد أن ملّ المتوكل طه من مخاطبة أُمّةِ الكبار، ليخاطب الأكثر رجولة، ذلك الجيل الفتيّ، الذي لم تحبطه فوْلَذة قمع الأنظمة أو مثقفوها، حيث كان يتوجب عليهم أن لا ينتظروا مناسبة ربيع أخضر، والصيف يحرق الجنوب، والجنوب الآخر من شطري وطنين يدفعان فاتورة حرية شعبين، ما زال البؤس والبأس والحرمان والضياع سمتهما.
وليس صحيحا ما يذكره بعض الشعراء، بأنهم لا يكتبون لحظة الاحتدام والمواجهة الطاحنة ، بدعوى حاجتهم إلى التأمل والابتعاد عن الحدث !
وليس صحيحا أن هيئة التوجيه المعنوي والوطني هي المخولة بهذا الأمر، بل ان الشعر وبالذات في فلسطين يزدهر في لحظات فورة الدم والمواجهة الصعبة والساخنة، وقد نتفق مع الذين يقولون إن الشعر لحظة الحرب هو أقرب إلى الشعر الميداني، ولكننا بحاجة إلى هذا الشعر الذي يشحذ الهمم في لحظةٍ انفض فيه الشعراء عن الغناء للشباب والمتاريس أو حينما يهتفون وينزفون ويحملون نعوشهم وأحلامهم على أكتافهم،على أن يكون شعراً فنياً صالحاً لإسمه المُقدّس.
وقد عودنا الشاعر المتوكل طه منذ أن التقيناه في السجون والمعتقلات على إجتراح تلك القصائد التي كانت تدفع المعتقلينَ إلى الثبات والمواجهة ، ولا أنسى صورته في معتقل أنصار(3) الصحراوي عندما ارتجل غير نص موسيقي عالي التنغيم والإيقاع، جعل من الآلاف في ذلك السجن يندفعون كتلة واحدة، وسبيكة متماسكة في وجه الجنود ومدافعهم ورصاصهم المجنون.
ولعلي أتذكر تلك المقاطع الشعرية للشاعر المتوكل طه التي كانت تضيء جدران المدن وتزيّن حيطان القرى وأزقة المخيمات الضيقة، التي تتسع لكلماته المحرّضة على التقدم والصمود، والتي حفظها الشباب والفتيان، وكانوا يرددونها في الإعتصامات ولحظات الإلتحام مع جنود الاحتلال .
إن ذلك كله يؤكد حقيقة واحدة وهي ان الشعر المقاوم المباشر، وإن خالطته الخطابة والوضوح ، إلاّ أنه يظل ضرورة واجبة الوجود ، كما يبقى حاجة لقطاعات الفتيان والشباب الذين يجدون أنفسهم على الحواجز وفي السجون محتاجين إلى مثل هذا الشعر الذي يبث عوامل التثوير في أوصالهم، ولعل الكثيرين لا يعرفون معنى ذلك كما نعرفه نحن الذين نعيش كل دقائقنا وأيامنا في أتون ملحمة متواصلة، وفي حمأة زمنٍ لا نجد فيه وقتاً للتأمل أو تنفس الصعداء . وهذا ربما، ما دفع الناشر ليقول على تظهيره لهذا الديوان : لم تنته الحرب السوداء على لبنان، حتى كان صديقنا الشاعر المتوكل طه ينعف قصائده رداً على هذه الاستباحة العمياء، بمباشرة وغضب وانتماء ووضوح، لا يقل صراحة عن انكشاف الموت والدّهم والتهديم.
ونستذكر هنا، تلك الحرب التي أدارتها أشرس الأجهزة الأمنية الكبرى ضد ألإبداع الواقعي الشاحذ والنافذ.. ما يفسر قيام تلك الأجهزة بتقريض ودعم ومساندة الإبداع الغامض والمبهم والذاتي والذاهب نحو الهامشي والمعتم ، الأمر الذي يدفعنا إلى رفع الإبداع الواضح، وإيصاله إلى كل مكان، وتعميمه حتى يؤدي دوره في تأصيل مدارك الفتيان، ومجابهة الغوائل والبشاعة وكل أشكال الموت والخراب .
أذكّر النقّاد بأنَ قصيدة " سجّل أنا عربي" لمحمود درويش، وقصيدة " نعم سنموت ولكننا" لمعين بسيسو، على سبيل المثال قد أصبحت أناشيد يومية في فلسطين، على بساطتها ومباشرتها، ويحفظها الكبير والصغير، وهي قصائد أكثر جدوى من تلك القصائد " المُركّبة والمُبْهمة والتجريبية والمقلِّدة .." التي كتبها أولئك الشعراء، على صعيد الحاجة والمقاومة. كما أذكّر الباحثين بقصائد المتنبي العبقرية في حروب سيف الدولة، وقصائد أبي فراس الحمداني في معاركه وسجنه، وأن هذه القصائد أثبتت قدرتها على الفعل والتأثير والخلود والتأريخ ، وهي بمنتهى الوضوح والمباشرة الفنية والبساطة! على قاعدة أنَّ للشعرِ مهمةً يجب أن يؤديها، وأننا لسنا في زمنِ الفن للفن، أو في وقت الترف واللعب بالكلام، لأنَّ ما يجري على الساحة العربية من رُعبٍ وموتٍ ونهبٍ .. يحتاج معه إلى قولٍ فصل، يساوي ما يجري ويؤدي دوره دون مواربة أو حذلقة .
لهذا، ليس أمامنا إلاّ كتابة الضرورة التي نجعلها شاحذاً وسلاحاً في تصدينا اليومي للاحتلال، وهذا ما يفسر كتابة هذه القصائد خلال أيام العدوان على لبنان وانفعالها بما يجري على أرض الأرز، وصدور هذا الديوان بعد انتهاء العدوان مباشرة.
وللنقّاد الآخرين أن يخرجوا علينا بنظرياتهم المهزومة، فنحن لا نحتاج إليها، بل نحتاج إلى قصيدة تدفعنا للبقاء والرباط والثبات، ولسنا بحاجة إلى كل التنظيرات التي لا تفيد شاباً على أن يحتمل كل الإستراتيجيات الإحتلالية الحاسمة والهادفة إلى كسره وتذويبه وتغريبه واستلابه.
ظل أن أقول إن أية نظرية نقدية لا تصلح إلى أي شعر سوى ذلك الشعر الذي خرجت من روحه ومن ظلاله، بمعنى أن نظريتنا النقدية لا تصلح للآخرين، كما أن نظرية الآخرين لا تصلح لنا بالضرورة.
ولعل الشاعر علي الخليلي في قراءة سالفة لديوان " أحلام ابن النبي " للمتوكل طه، نبّه إلى تراجع مصطلح " أدب المقاومة" ذاته داخل المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي عامة، إلى ما يشبه درجة الاختفاء أو الإخفاء الفعلي . فليس ثمة من يذكر هذا المصطلح الآن، وإذا جرى ذكره، فإنه يرتبط على الفور بنتاج مرحلة سابقة تمتد من بداية سبعينيات القرن إلى أواخر الثمانينيات، إرتباطاً ماضوياً لما كان شعر محمود درويش وسميح القاسم على وجه التحديد .
بمعنى أن المتوكل لم يبرح مكانه أو أنْ أراح حرفه أو زحزحه عن موضعه. وإذا كان صوت الأسير الفلسطيني الخارج من عتمةٍ تشق صدر الحالمين بنوم رخيٍ لذيذ، وقد أنستهم نسائم البحر الدافئة برد الجبل، فإن المتوكل طه عاد لنجد معه في هذا الديوان الذي أثبت فيه بأنه كان حادياً للمقاومة الطاهرة الشريفة، بأنه شاعرٌ قادرٌ على البقاء في ساحة المواجهة وعلى التنويع وامتلاك ناصية القول الشعري، حيث نجد ذلك النفس الشعري الطويل من خلال قصيدته العمودية التي افتتح بها الديوان والتي ربت على مئة بيت، ليغنّي لغزة وبغداد وبيروت :
غَنََيت غَزَّة أو بغداد أو قانا
شواهداً تَزحمُ الدُّنيا وصُلبانا
.....
وكان ما تشهدون اليومَ من هلَعٍ
في أرضِ لبنانَ أو ما كان لبنانا
...
بيروت فينيقُ هذا العصر، إنْ حَرقوا
غُصْناً.. ترى كوكباً بالأرْز مُزْدانا
....
بيروتُ مارسيل إنْ غنى لقلعتهِ
ورَبَّةٌ بعثتْ مَيّا وجُبرانا.
في حين نجد ذلك الشكل المسرحي الذي زاوج بين التفعيلة؛ في قصيدة قال الراوي: أنا لبنان:
أرى خَمْسةً يَجْلِسونَ أمامي؛
الذي عادَ من جبهة النصّرِ
لم يحْلق الذََّقْنَ شهراً
ولم يَغْتَسِل مِن غُبارِ الرَّصاص..
والتي تجلسُ القُرفُصاءَ على تلَّةٍ
بَعْدَما طَوّّحتْها القنابل والبارِجات النٌّحاس
والسّارِحَ الجالسَ، الآن خلفَ الزُّجاج
النظيف.. على شُرفة المَطْعَمِ المُزْدَهي
بالأنيقينَ من شُعراءِ الجِنَاس
والتي في السرير تُفَتِّح حَقْلَيْنِ
في مَوْقِد الريح ..
والكأسُ باردةٌ كالنُعاس
ومُرضِعةً وَضَعتْ حَمْلَها..
ألقَموا ثَدْيَها وَلَداً
غافلاً عن خسارته،
دَفنوا كلَّ أُسرَتِه،
وهو في غُرفة الانتظار،
عسى أن ينام..
على جدول الساقيات
ولم أرَ سادسَهم – كَلْبَهُم – يخطبُ الناسَ
-مُرتبكاً كان، أو شاردَ الذّهنِ، يَهْذي،
ويهرفُ بالزُّورِ –
..هذا هو القائدُ الفذُّ والشيخُ والعقلُ!
مَنْ يَفْتَحُ البيتَ، ثانيةً للغزاة...
...
في حين يختتم ديوانه بقصيدة نثرية، ما يعني أن المتوكل طه يستنجد ويوظّف كل قدراته ليقول كل ما لديه بالشكل الذي يصلح له، دون أن يَضعف في جزالته الخليلية أو يفقد البساطة العميقة في نثريته أو في قصائد التفعيلة.
أما تكريس هذا الديوان للفتيان - رُغم أن القصائد تنفع للكبار أيضاً وبامتياز - فإنني اعتقد أن الشاعر المتوكل قد عوّل على هذا الجيل الطالع الذي انتصر على طوفان العولمة السوداء ونظريات التغريب الإسرائيلية والرجعية ، وكأني به يراهن على الجيل الأكثر قدرة على تحقيق الأمل الوطني والقومي والإنساني في لحظة إنتكس فيه جيل الكبار المجروحين بالخواء والتصالح مع النظام والسقوط في براثن الواقعية المشبوهة.
ولا شك أن الديوان المبتدئ بخُضرة لبنان وشموخ أرزه يؤكد أن الشاعر قد إنحاز كلياً إلى المقاومة التي لا تهادن والى المعاني الأولى التي يريدون لها أن تموت .
وإذا كان قولهم بأنَّ الكتابة عن الحدث تحتاج إلى بُرهة هدوء ولحظة تأمل ، على شمعة في عتمة فارهة ناعمة ناعسة ،وكوب ساخن ومدفئة تطرد برودة الزجاج المعشق بالندى المبلل بقطرات الثلج، فأنا أجزم بأننا سوف نفنى قبل أن نجد الحرب والقتل والتشريد والعدوان قد توقف، بمعنى إننا لن نجدَ في فلسطين لحظة واحدة دون موت أو دهم أو قتل أو مواجهة، فمتى أيها النقّاد سنتأمل، ومن أين سنجد فسحةً لنبتعد عن الحدث ؟! إننا نصرُخ، وصُراخنا نافذٌ ومفيدٌ ومُجدٍ، ويَهُزُّ الأركان، وهو صُراخٌ واعٍ ومنتمٍ ومقاتل وعميق، وأصبح شعاراً في زمن الدمِ..وهذا ما نستطيعُه، على الأقل ! فماذا لدى الآخرين ؟!
شاعر وكاتب / فلسطين