رواية اسمها سوزان
2008-09-28
لو كان لأحد الروائيين في مصر أو لبنان أن يجمع ما أُعلن من وقائع حول مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي لتوافرت له مادة تخوّله كتابة رواية بوليسية ذات هوية عربية. فقصة هذه المغنية تشبه المآسي الإغريقية التي يختلط فيها الحب والدم ويقع المقتول فيها ضحية أهواء القاتل الذي قد يكون أيضاً ضحية نزعة داخلية شبه مرضية. لم تقتل المغنية الشابة طعناً فقط بل أعمل القاتل سكينه في جسدها مقطعاً إياه إرباً وأوصالاً وكأنه كان ينتقم لنفسه وليس للعاشق المتيم الذي دفعه الى هذا الجرم، كما ورد في الأخبار.
قصة سوزان والرجل الثريّ قصة تفوق التصوّر مع انها حصلت في الواقع وعُرفت معظم تفاصيلها واقتيد مرتكبها الى السجن وكذلك المحرّض عليها. قصة لا يمكن إلا تخيّلها عبر بناء مشاهدها العنيفة التي لم يعشها في الواقع سوى القاتل، وهو لم يكفه فعل القتل فراح يغرز سكينه في الجسد القتيل بعد سقوطه مشبعاً إياه طعناً. إنها أشبه بشريط لا خيط يفصل فيه بين الواقعية القاسية والتخييل الذي لا يخلو من الهجس الغريزي. شريط كأنه من صنع ما يُسمى تلفزيون الواقع وشاشة المخيلة في آن واحد، لكن الواقع فيه يتخطى فعل المخيلة من شدة واقعيته الصادمة.
هذه مادة جاهزة لرواية بوليسية يلتئم فيه الإجرام والبعد النفسي والنزعات الداخلية الغامضة. رواية بوليسية عربية تنتظر مَن يكتبها ليس كحادثة وقعت فعلاً فقط، بل بأسرارها التي طوي بعضها مع سقوط الجسد القتيل. وهذه الأسرار التي اكتنفت هذه العلاقة العاطفية قد تكون هي المنطلق لبناء هذه الرواية مع الاتكاء على رحابة المخيلة. القاتل قاتلان، قاتل وظله، أما القتيلة فواحدة، قتيلة بظلها الذي سقط فوقها لحظة لفظت أنفاسها. أعمل القاتل يديه ولم يعمل مخيلته تاركاً للروائيين أن يعملوها. كان في مقدوره أن يطلق عليها رصاصة «صامتة» أو أن يرمي بها من الشرفة أو أن يسمّم لها بغية إخفاء جريمته وجعل موتها ضرباً من الانتحار. لكن القاتل شاء أن يترك طيفه في ساحة الجريمة وأثره «الخفي» فاضحاً فعل القتل الذي مارسه «طقوسياً» وكأنه مشهد من مسرح القسوة. لم يكن القتل هنا مجانياً ولا عبثياً على غرار القتل الذي نادى به نيتشه أو الذي تبناه ألبير كامو في روايته «الغريب»، بل بدا قتلاً قدرياً صنعته إرادة المحرّض أو الظل الآخر للقاتل. أما القاتل فعوض أن يكون يد المحرّض في غيابه كان قاتلاً حقيقياً بدوره. أسقط القاتل كل حقده في الجسد القتيل،أسقط كراهيته القاتمة من غير أن يرفّ له جفن، بل تمتع حتماً عندما أكب على تقطيع أوصال ذلك الجسد.
لم أستطع أن أتصوّر هذه الجريمة إلا كمشهد روائي. المغنية الشابة والجميلة لم أستمع الى أي أغنية لها. حتى صورتها قبل القتل لا أتذكرها. أصبحت هذه الشابة نجمة بعد مقتلها، نجمة الصحافة والإعلام المرئي الذي انطلقت منه. ومنذ أن شاع خبرها لم أستطع أن أحمّلها أي تهمة. فسقوطها المريع تحت ضربات السكين كان وحده كافياً لإنقاذها من التهم التي من الممكن أن يلقيها بعضهم عليه، وقد ألقيت فعلاً عليها. لم تكن تلك اللحظة مؤاتية أيضاً لفضح الحال التي آل إليها «الفن» في العالم العربي، وأقصد «الفن» الرديء الذي تروّجه الفضائيات و «الكليبات» والإعلانات... كانت اللحظة أليمة جداً ومأسوية جداً، حتى أنّها أصبحت خارج دائرة النقد والتجريح أو الشماتة. قتل بلا رحمة ويدان تفتكان بجسد ضعيف وعينان تأنسان بما تريان... الغرائز تهبّ من كبتها والقاتل العاجز يقتل انتقاماً لنفسه، انتقاماً من نفسه، من عجزه الداخلي، من العالم الذي حوّله يداً قاتلة.
سقطت سوزان تميم لكنها تركت وراءها قصة، بل رواية تحتاج فقط الى مَن يكتبها، بوقائعها وأسرارها الخفية. ليس من المهم انتظار حكم المحكمة ولا قرار الإدانة، فالجريمة حصلت والشابة الجميلة وقعت في «الشرك» مثلها مثل القاتل نفسه. القاتل ضحية قتيلته مثلما هي ضحيته، والمحرّض ضحية أهواء انتهت به الى الهاوية.
لا أستطيع أن أقرأ أخبار سوزان تميم التي ما زالت الصحف تدأب على نشرها، إلا كأحداث في تلك الرواية التي كتبتها بدمها والتي كتبها القاتل بسكينه. إنها الرواية البوليسية التي يبحث عنها أدبنا العربي الذي طالما اتهم بخلوِّه من هذا اللون. لكنها رواية جارحة من شدة مأسويتها وواقعيتها، الصادمة حتى الخيال.
الحياة - 22/09/08//
08-أيار-2021
19-آب-2017 | |
11-كانون الأول-2012 | |
26-حزيران-2012 | |
07-شباط-2011 | |
02-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |