(هجاء ثقافي) انتبهوا.. إنه يكتب عنكم
2007-07-08
خاص ألف
قراءة في رواية خليل صويلح (دع عنك لومي)
لا أدري إلى أي حد شعرت وأنا أقرأ هذه الرواية أنها تخصني كثيراً، وأن ثمة اشتباكات في التفكير معها قادتني مرة إلى الكتابة في الموضوع نفسه، ولكن شعراً في ديواني الأخير (حوذي الجهات) الصادر عام 1995 .
وقتها كانت ، ومازالت ، الحياة الطفيلية للمثقفين الهامشيين تسترعي انتباهي بطريقتها العدمية المُبَدَّدَة بين الخمارات والمقاهي وبكيفيتها المذلة التي تدفع للاحتيال ، ربما لاقتناص صبية تحت ذرائع ثقافية وهمية ، أو ( تدبير ) بعض المال أو بعض العابرين لدفع فاتورة سكرة أو سهرة وما شابه .
هذه الحفر التي سقط فيها الكثيرون هشّمت عظام طاقات إبداعية كان يمكن لها أن تكون ذات شأن لكنها استسهلت هذه الحياة بنمطيتها ويباسها التجريبي وهذا ماقادها إلى شيزوفرينا ثقافية وخواء معرفي وأوهام حول الكتابة الطموحة ، وكانت ( الشلة ) آخر المعاقل التي يطلقون منها النار على الآخرين .. وعليهم ..! . إذاً ليس مفاجئاً ألانقلابات المفاجئة للـ ( ميسرات ) إلى ( اليمين ) كما ليس غريباً أن يصبح أحدهم فجأة جزءاً من مشروع ثقافي خريطته الحداثية امرأة وأفقه التجريبي أكوام من القناني وعظام دجاج؟
التقاطات خليل صويلح لهذه الحالات متوقعة منه بالذات لـ/ بدويته / التي ما زالت المولّد القوي لطاقة الكبرياء التي تنطفئ اليوم ، كما يراها، بين معظم هذه الأوساط في عاصمة هي بالكاد ممسكة بما تبقى لها من ضياء وكبرياء .
هكذا سنفهم، كما فهم خليل ، إن الانقلاب من الضدّ إلى نقيضه هو الاحتمال الأكثر حظوة بين احتمالاتٍ قد تنتهي في زوايا ( معارضة ) مفلوشة أو نكوص شللي.. وإلا فبماذا سنفسر مثلاً السيل الهائل من الشتائم لبعض النصوص وبعض الكتاب ثم الدخول بعد ذلك تحت عباءتهم وتدبيج المدائح لهم ، وكيف نفسر ( على سبيل المثال أيضاً ) أن أكثر الأعداء لاتحاد الكتاب العرب (البارحة) هم اليوم الأكثر سعياً للانتماء إليه.. وكيف و كيف ؟!
وعليه، فإن الرواية ، تزودنا بمشهد وحيد يتحرك طوال صفحاتها ، مثقفون هاربون ( بحالاتهم المختلفة ظاهرياً والتي ستتماثل في مآلها الأخير ) بعيداً عن الحياة العادية وبهذا سنراهم كنماذج نفسية فردية لشخوص لا يملكون ميولاً مؤرقة للعضوية الاجتماعية، أما خصائصهم الأخرى فلا يحتاج القارئ لإجهاد نفسه كي يلتقطها دفعة واحدة خصوصا وأن المؤلف كان ، وكما يبدو ، متواطئا معه بشكل مسبق حيث لم يوفر فرصة لتعرية أبطاله ووضعهم في الشمس وأمام مرأى الجميع ، وهذا مايجعلنا نتوقف عند شخصية الراوي ( وربما المؤلف ) التي وإن جاءت كشكل من أشكال الإضاءة التعبيرية، واقعياً ومعنوياً، إلا أنه لا يمكن لنا إلا وضعها في دائرة الشك، واعتبارها جزءاً من منظومة الشخصيات وإن حاولت التملص من تركة الآخرين ..
بكلام آخر: إن رائحة المؤلف ( الراوي ) تملأ النص حتى وإن كان مختبئاً في مكان ما .
لم يذهب المؤلف بعيداً مع شخوصه ( سيرة وزمنا ً) بيد أنه كان ماهراً في إنتاج سبرٍ دقيق لحياتهم الذهنية وامتلائهم الواقعي، مستخدماً بذلك ، وبشكل متطرف ، ما سمي أكاديمياً بـ( تيار الوعي ) وكانت نتيجته إشكال من التصورات والمونولوج الداخلي وأحلام اليقظة وبهذا كانت الشخصيات ( مفضوحة ) أمامنا في دسائسها وهزائمها وانعزالها وأوهامها ، وتيار الوعي هذا ليس إلا تنويعاً للديالكتيك النفسي الذي يشتغل عليه خليل صويلح منذ روايته السابقة ( وراق الحب ) .
هل كان هذا فضيحة للـ( وعي ) كما قد يراه البعض..؟
يقيني بأنني قد تلمست رائحة أخرى تنبعث من مكان ما يطلقها الجسد المتهالك لمجتمع عاجز عن ضبط تفسخه الداخلي سيما وأن منظومته القيمية والمعرفية والأخلاقية تتهرّأ تحت صدأ كسلها التاريخي ..
بالضبط.. إنها ليست هزيمة لهذه الشلة أو تلك.. إنه خواء المعايير..!.
ثمة من يرى بأن خليل صويلح يحاول أن يفارق، كراوٍ، الشكل النهائي المعروف للقص وهذا صحيح إلى حد ما قياساً إلى الروايات التقليدية العربية المحكمة البناء والصارمة في تنفيذ الوصايا النقدية والأكاديمية، فهو من جهة دؤوب على تمزيق هذه الوصايا، مثلما هو لا يكفّ عن إعلان ارتيابه أو ارتداده أسلوبياً .
في معظم كتاباته الروائية والشعرية يبدو أن الصويلح بات مؤمناً بأن أشكال القص الحداثية قد وصلت إلى طريق مسدود مليء بالزينة اللفظية والزركشة اللغوية ولذا صار مطلوباً العودة إلى الحياة كأسلوب كما يقول فلوبير (الأسلوب هو الحياة.. إنه دم الفكرة..) ، فالأسلوب هو الجوهر الفني الأوضح في كتابات خليل الروائية، وهو يعكس فهماً مفارقاً لمعظم مجايليه يسعى للاستفادة من طاقات وأشكال الكتابة العربية القديمة كألف ليلة وليلة مثلاً حيث الانتقال من فكرة إلى أخرى والاستطراد والعودة إلى الفكرة لا تعني خروجاً من النص أو الحالة على العكس فهي كما في القصور، دخول من غرفة إلى أخرى داخل القصر نفسه ..
هذه الأسلوبية فرضت على خليل التخفّف من عناء البحث عن الزينة والزركشات اللغوية والتخلص من قشور، ربما أضحت في الفترات الأخيرة، أشكالاً وتنويعات متعددة لتفا هات أدبية .
ويبقى الهجاء النتاج الأساسي لـ ( دع عنك لومي ) ، هجاء تدبّجه الحياة لجيل أو مجتمع أو مرحلة ، وهو إشارة تعبيرية أرادها المؤلف أن تبقى كحقيقة مقروءة باستمرار في ( السيفي ) الخاص، بنص مفارق، مؤجل أو يُكتب الآن بأساليب مختلفة وعبر أطراف مختلفين .
إنه هجاء للسكونية التي بلغت حداً صار من الصعب التفكير بكسرها أو الخروج من إطارها في ظل أوضاع أو ظروف قائمة بعينها ، ولهذا فإن (دع عنك لومي) ليست إلا صورة مدروسة لمقطع واسع من المشهد الثقافي المعاصر في سورية، وربما في غيرها، وعليه سيتوفر للدارس فكرة مباشرة عما ينبغي له أن يستنتجه بشكل غير مباشر .
ورغم أن الصويلح كان ( خبيثاً ) في عدم ترك أية فرصة للنيل من شخوصه وخصوصاً في إيقاعهم المتعدد في الاستعراض والزيف الثقافي والاستعراض الفلسفي، إلا أننا لا يمكن اعتباره إلا منخرطاً، كحالنا تماماً، مع أجيال أو مرحلة ، تضرب بعيداً في المجهول ، وربما كانت الكلمات القليلة المكتوبة على ظهرية الغلاف هي الشرح الأوضح للتراجيديا الثقافية: ( رواية شلة من المثقفين شبه مارقين، فقراء، يرتادون المقاهي ويدمنون الخمرة والرغبة في المرأة والجنس ويكشف بعضهم عن لصوصية مادية وثقافية... وتفضح غرق الثقافة السائدة في وحل مابعد الثقافة ) .
أخيراً ، إن ( دع عنك لومي ) وكما خطط لها مؤلفها تبدو غير منتهية حتى وإن وضع لها خاتمة حاول من خلالها ربط الراوي بشخوص الرواية، على العكس فكأنما كان يقودنا من خلال هذا الربط للقول :الآن بـدأتُ.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |