مصادر التشريع الإسلامي في زمن محمد ج 3 ـ مؤلف مجهول
2008-05-14
بحث في الموروث التشريعي للجزيرة العربية قبل الإسلام
وعلاقته بتشكيل الثقافة التشريعيةالعربية
القسمالثاني:
1 - التراث التشريعيقبل الإسلام.
1 - حكام العرب:
لا شك في القارئ للتاريخ الجاهلي أن يعتمد بشكل أو بآخر على المصادرالإسلامية? فكما نعلم - للأسف - أن الجاهليين لم يتركوا لنا من آثارهم المكتوبة شيئاً يذكر. وإننا إذا أردنا أن نعرف شيئاً عن الموروث التشريعي عند العرب قبل الإسلام يجب علينا أن نستنطق التاريخ الإسلامي
والشعر الجاهلي - وحري بنا أن نفعل - حول تلك الإرهاصات الأولى للقانون? والتي وضعها بعضٌ ممن يُسَمّون بحكام العرب مثل: عامر بن الظرب العدواني ? وأكثم بن صيفي ? وقصي بن كلاب ? وكعب بن لؤى ? وغيرهم.
قصي بن كلاب:
لم يحدث اتفاق بين الباحثين حول أي شخصية وأثرها في التاريخ العربي القديم مثل ماحدث حول قُصي بن كلاب. ولعل ما جعلهم يتفقون حوله هو وضوح دوره في وضع بذور الإمبراطورية العربية التي بدأت بعد 130 سنة على يد - حفيد قُصي - النبي صلعم .
فقُصي هو الذي حول سكان مكة من سكان خيام يعيشون في بيوت متنقلة حول مكة إلى سكان مدينة صارت محج العرب وقبلتهم (المفصل 4:22). وقد بلغ الأمر بالعرب أنهم لم يكونوا يعقدون حِلفاً ولا تجارة إلا في بيت قُصي دار الندوة . ولعل قُصي في سيرته هذه قد استلهم سيرة جده كعب بن لؤي? الذي كان أول من جمع العرب في يوم الجمعة ليتدبروا أمورهم ? وهذه القصة تملأ كتب السيرة? ولكن أعرضنا عنها لما تحويه من أمور لا يشك باحث في وضعها? مثل قصيدة كعب التي يقول فيها:
على غفلةٍ يأتي النبي محمدٌ -- فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
(بلوغ الأرب? 1:273),
و المعروف أن كعباً هو الجد السابع للنبي ولم يقل أحد من المؤرخين - مهما بلغ به الخيال - بنبوة كعب حتى يمكن القول بصحة نسب هذه القصيدة له. ولكن ما يعنينا من أمر كعب هو أنه واضع اللبنة الأولى لقريش ? تللك اللبنة التي أكمل عليها حفيده قُصي الأساسات? ثم أتم الحفيد البعيد محمد باقي البناء لتخرج من قلب قريش تلك النخبة التي حكمت معظم المسكونة لقرون عديدة. (أورد الأستاذ خليل عبد الكريم في بحثه القيم قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية فصلاً عن قُصي ابن كلاب جمع فيه كل الأراء حول قصي ونشأته.. فليراجعه من يرغب في المزيد).
أكثم بن صيفي:
هو أكثم بن صيفي بن رباح? قيل في كنيته وكينونته الكثير ? فهو من الأوائل في أمور كثيرة ? ولعل أفضل ما نقدمه به هو ما جاء في كتاب يحمل اسمه ويبحث في أقواله? فقد جاء فيه: وقد أجمعت مصادر التراث على تقديمه في عصره على غيره من المشاهير ? حيث جعله الجاحظ رأس الخطباء والمقدم فيهم (البيان والتبيين 1:365) ? ولقبه بن عبد ربه وغيره بحكيم العرب (العِقد 2:87) ووصفه ابن كثير بأنه طبيب العرب? ولعله مجاز أو تصحيف ? ووصفه غيرهم بأ نه قاضي العرب في الجاهلية( دائرة المعارف الإسلامية 4:150).
وهو أول من حكم بأن الولد للفراش (الأوائل 73) ? وهذا من الأمور التي أقرها الإسلام. ويضاف إلى ذلك أن النبي ردد بعضاً من حكمه? وعُدَّت من الحديث النبوي. وكذلك تداخلت جمل من كلامه مع أساليب القرآن الكريم ... (أكثم بن صيفي ومأثوراته? كاظم الظواهري? دار الصابوني1991 م? ص 30). ولعل آراء أكثم وغيره ممن لُقِبوا بحكام العرب قد تعطي فكرة أوضح عن التراث التشريعي قبل الإسلام? فالكثير من الأحكام التي وضعوها صارت شرعاً متبعاً بعد الإسلام? أو كما يقول المفسرون وأهل السيرة: إنهم وفِقّوا لحكم الإسلام في تلك الأمور ? مثل حُكم ذو المجاسد عامر بن جُشم في الميراث ? فالعرب لم تكن تورث البنات فقرر ذو المجاسد توريثهن ? على أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ? ومثل حُكم عامر بن الظرب العدواني ? وذرب بن حوط في الخنثى (المفصل 5:480) ? ومثل حكم أكثم الذي رويناه قبلاً. وهناك أيضاً بعض الشرائع التي اتبعها العرب قبل الإسلام لم يعرف واضعها مثل صلب قاطع الطريق ? أو ما يُسمى في الإسلام بحد الحرابة ? وقد صلب النعمان رجلاً من بني عبد مناف كان يقطع الطريق (المفصل 5:585 ? 608? المحبر 479) ? ومثل حكمهم في الديات فقد كانت عشر من الإبل حتى جعلها عبد المطلب جد النبي مائة من الإبل ? فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل ? وأقرها الإسلام على ما كانت عليه (طبقات ابن سعد 2:89). وحكمهم في أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفراً على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلاً بين قوم ولم يُعرف قاتله ? فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يميناً ? ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد ? أو يُقسم المتهمون على نفي القتل عنهم. فإن حلف المدعون استحقوا الدية ? وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية (المفصل 5:602) ? وقد أقر الإسلام هذا الحكم? فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول اأقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (صحيح مسلم? شرح النووي? 4:231).
أما بالنسبة لحد السرقة فيذكر جواد علي أن قريشاً كانت تقطع يد السارق - قبل الإسلام - واختلف في أول من أقر هذا الحكم فقيل إنه عبد المطلب أو الوليد بن المغيرة (المفصل 5:605). ومن جملة الأحكام التي كان يتبعها العرب قبل الإسلام: حكمهم في الزواج? والديون? واللقطة? والهبة? وبعض هذه الأحكام لايزال موجوداً في الفقه الإسلامي? وبعضها الآخر رفضه الإسلام جملة وتفصيلاً. وسنأخذ نبذة عن أشهر هذه الأحكام في الفقه الجاهلي? وهي تلك الأحكام التي أقرها الإسلام - إما تحت نفس المسمى أو تحت مسمى آخر - مثل:
الزواج:
حارب التشريع الإسلامي معظم أنواع الزواج التي اتبعها العرب قبله? ولم يُقّر غير نوعين فقط: أولهما الزواج المعروف? وهو أن تتزوج المرأة رجلاً واحداً بعقد دائم وغير محدد المدة في وجود شهود. وثانيهما هو زواج المتعة ? وهو أن تتزوج المرأة رجلاً واحداً بعقد مؤقت محدد المدة في مقابل مهر - أجر - يُتفق عليه? وينتهي الزواج بانتهاء الأجل بدون طلاق? وهذا النوع من الزواج لايعترف به الآن سوى بعض طوائف الشيعة (زواج المتعة? د فرج فودة? الدار العربية? ص 21 وما بعدها). هذان النوعان من الزواج كانا موجودين قبل الإسلام? وبقيا بعده بنفس الكيفية والشروط. أما بقية أنواع الزواج فقد اعتبرها الإسلام زنا? ومن ثم حاربها حتى قضى عليها تماماً.
تعدد الزوجات:
أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات? والجمع بين أي عدد يشاء منهن? كما أباحوا أيضاً امتلاك الجواري دون التقيد بعدد. وتذكر كتب الفقه أن بعض الصحابة قد تزوجوا عشر نسوة? فلما حدد الإسلام عدد الزوجات بأربع طلقوا ستاً منهن (نيل الأوطار? للشوكاني? دار الحديث بيروت 7:160). وقد وافق الإسلام على فكرة تعدد الزوجات? غير أنه أتى لها بقيود كثيرة جعلت التعدد إستثناء? بعد أن كان قاعدة عند العرب قبل الإسلام
العقوبات:
من المعروف أن كل المجتمعات على اختلاف درجاتها من الرقي والتخلف لها قانونها الخاص الذي يُطبق على المخالفين والخارجين عليه. ويكون هذا القانون غالباً ضد أي خروج على عُرف المجتمع وديانته? هذا إذا لم يكن لهذا المجتمع قانون مكتوب دستور يسير عليه. والعرب كغيرهم لهم أعرافهم التي يعتبر الخروج عليها جرماً يستحق العقاب ? فكانوا يعاقبون على القتل والسرقة وغيرها من الأمور التي يعتبرونها جرائم تستحق العقاب. وبالرغم من عدم تطبيق هذه العقوبات - غالباً - حيث كان أهل القاتل يعتبرون تسليمه إلى أهل القتيل للقصاص منه مثلبة ونقيصة? وكذلك في باقي الجرائم. ولكن ما يعنينا في هذا المقام ليس تطبيق القانون بقدر ما يعنينا وجود إرهاصات لتلك المجموعة من القوانين التي وجدت قبل الإسلام واستمر وجودها بعده. ويُعدد الدكتور جواد علي بعض هذه القوانين فيقول: ومن العقوبات التي جاءت بها شريعة الجاهلية عقوبة إقامة الحدود على الجناة? وذلك بالتعزير? وهو الجلد? جلد المخالف الذي لاتكون مخالفته جناية? بل مخالفة بسيطة في مثل أوامر الوالدين أو الولي الشرعي? وفي الاعتداء على الغير بالشتم والسباب والتحرش بالناس وما شاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر وعقوبة السجن على الجنايات المهمة ? وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص? والحبس في البيت ? وعقوبات القصاص (المفصل? د.جواد علي? 5:280)
2 - الفرس والروم:
ليس من الحكمة في شيء أن نُغمِض أعيننا عن تلك الأخبار التي تتحدث عن علاقة العرب بالفرس والروم ? وتلك الزيارات التي كان يقوم بها بعض ذوي الشأن من العرب لقيصر روما? أو لكسرى الفرس? فهذه الأخبار تحدد صورة العلاقات الدولية كما كان ينظر لها العرب? وإن كان هناك الكثير من المبالغة في حقيقة من يطلق عليهم العرب لفظة قيصر أو كسرى? وهل هم فعلاً هكذا أم هم مجرد بعض الحكام الموالين لفارس وروما. فإن هناك أمراً هاماً في كل هذه الأخبار? وهو نظرة العرب لهؤلاء الحكام على أنهم فرس ورومان? وهذا جعل العرب يتطلعون لكل شيء في بلاط هؤلاء الولاة ويحاولون محاكاته.
ومن المرجح أن يحاول بعض سادة القبائل محاكاة تلك النظم القانونية التي عرفوها في زيارتهم المتعددة للشام واليمن. وقد روت كتب التاريخ العربي الشيء الكثير عن تلك الزيارات بدئاً من أمرئ القيس وانتهاء بعثمان بن الحويرث (المعروف بالبطريق) الذي حاول أن يكون والياً على مكة من قبل قيصر? ولكن رفضه المكيون? فيذكر جواد علي أن عثمان طمع في ملك مكة? فلما عجز عن ذلك? خرج إلى قيصر? فسأله أن يملكه على قريش وقال: احملهم على دينك ? فيدخلون في طاعتك ? ففعل وكتب له عهداً وختمه بالذهب? فهابت قريش قيصر وهمّوا أن يدينوا له? ثم قام الأسود بن عبد المطلب? فصاح: إن قريشاً لُقاح! لاتُملك ولا تُمَّلك وصاح الأسود بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لُقاح لاتدين لملك فاجتمعت قريش على كلامه? ومنعوا عثمان بن الحويرث مما جاء له? ولم يتم له مراده (المفصل 4:92). وهناك موقفان حدثا بعد الإسلام قد يوضحان لنا مدى اهتمام العرب بأمور الفرس والروم? أولهما هو ما يرويه صاحب السيرة الحلبية من أن النبي استشار أصحابه بعد الهجرة في كيفية جمع الناس للصلاة? فقال بعضهم بالقرن? وقال بعضهم بالناقوس? وقال بعضهم بالنيران. (السيرة الحلبية 2:297). أما الموقف الثاني فيرويه السيوطي قال: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه فقال بعضهم: سموه إنجيلاً? فكرهوه? وقال بعضهم: سموه سفراً فكرهوه من يهود? فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف? فسموه به (الإتقان للسيوطي 1:148). فهذان الموقفان يوضحان وقوف العرب على كثير من أمور الفرس والروم والأحباش? مما جعلهم يلمون بكيفية جمعهم للناس للصلاة? وأسماء كتبهم المقدسة. بل أننا لانبالغ إذا قلنا إن العرب تأثروا بهؤلاء إلى حد كبير? أو على الأقل حاولوا الاقتداء بهم. فهذان الموقفان يتناولان أكثر المقدسات الإسلامية? الصلاة والمصحف? ومجرد تفكير الصحابة في هذه الأسماء والطرق لدليل كاف على أن العرب لم يروا غضاضة في الاقتداء بالفرس والروم في أي شيء. فالصحابة هم أولاً وأخيراً عرب ? وقد تكونت ثقافتهم ومعرفتهم قبل الإسلام? مثلهم مثل باقي عرب الجزيرة في هذا الأمر. وهم أيضاً من قطاعات مختلفة فكرياً واجتماعياً? واقتراحهم لتلك المسميات إنما يدل على نظرة العرب تجاه الفرس والروم? بل وعلى إلمامهم بكثير من أمورهم. وأحد هذه الأمور هي القوانين المتبعة في تلك البلاد? ولذا نجد تشابهاً بين بعض الأحكام العربية ومدونة جستنيان في القانون الروماني. وخلاصة القول إن العرب كغيرهم من الشعوب تأثروا بما يحيط بهم من دول وحضارات مختلفة? وعملوا على محاكاة مارأوا أنه صالح لواقع وظروف الجزيرة العربية? وكانت هناك عدة عوامل ساعدت على هذا التأثر مثل: رحلتي الشتاء والصيف? ووجود عدد غير قليل من العبيد الرومان في الجزيرة وهم من يسمون بالأحابيش.
3 - الأحابيش:
اختلف المؤرخون - كحالهم دائماً - حول الأحابيش فقد ذكر بعضهم أنهم حلفاء قريش من بني المصطلق ? والحياء بن سعد ? والهون بن خزيمة? وكانوا قد اجتمعوا بذنب حبشي - جبل بمكة - فتحالفوا باللع إنا ليَدٌ على غيرنا ما سجى ليل وأوضح نهار? وما أرسى حبشي مكانه (المفصل 4:30). وسُموا بهذا الأسم نظراً لتحابشهم? والأحابيش لغة هم جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة (المنجد? حبش). وقيل سموا بذلك لاسودادهم. وقد بحث لامانس في موضوع الأحابيش ? وقرر أنهم قوة عسكرية مكونة من مرتزقة الحبشة ? ولكن عارضه في ذلك كثير من المستشرقين ولم يوافقوا على رأيه (دائرة المعارف الإسلامية? حبش). ولعل أكثر الآراء موضوعية هو ما يراه جواد علي من أن الأحابيش هم عرب وحبش ومرتزقة? وانهم من ساحل تهامة وهي المنطقة التي خضعت لحكم الحبشة مدة من الزمن? فاندمج من استقر بها من الحبش في العرب? وصار من المستعربة الذين ضاعت أنسابهم واتخذوا أنساباً عربية (المفصل 4:33). إذاً لم يكن الأحابيش مجرد مجموعة من العبيد والسبايا? أو حتى جماعة من العرب من قبائل مختلفة? بل كان لهذه الجماعة ثقافتها وقوانينها التي تحكمها? والتي تأثر بها أهل مكة كثيراً? خاصة إذا كانت هذه الجماعة تجيد القتال ومن الممكن الأستعانة بهم في الحروب المختلفة. وتذكر كتب السيرة ما يؤيد هذا الرأي حيث يذكرون الحليس بن علقمة على أنه سيد الأحابيش ورئيسهم يوم أحد (تاج العروس 4:130). ويذكره ابن سعد في صلح الحديبية على أنه سيد الأحابيش ? وأنه كان يتأله? ثم يذكر قوله لقريش: والله لَتُخَلُّنّ بينه - يقصد النبي - وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش! قالوا: فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به (الطبقات 2:96). وهذا التهديد الواضح من الحليس والرد اللين من قريش إنما يدل على قوة الأحابيش واستقلالهم برؤيتهم? خاصة وإن قريش جماعة من التجار? والتجارة لايمكن أن تكون آمنة في وجود هذا التهديد. وفي رأيي أن هذه الجماعةلما لها من قوة ولتركيبتها المتميزة قادرة على أن تؤثر تأثيراً كبيراً في أهل مكة? ففي هذه الجماعة هناك مرتزقة من أسرى الرومان وغيرهم? ولا شك في أن هذه النوعية كانت تتمتع بعقلية أفضل كثيراً من العبيد المستجلبين من الحبشة ولذلك كانت تسند لهم دائما الأعمال التي تحتاج قدراً من الفهم والتفكير? بل لعلنا لانبالغ إذا قررنا أن بعض هؤلاء العبيد كانوا مؤثرين حتى في سادتهم? وذلك للتفاوت الثقافي بينهم وبين أهل مكة? وتذكر كتب السيرة أن بعض هؤلاء العبيد كان لهم كتبهم التي يقرأونها وإن بعض أهل مكة كانوا يجلسون إليهم ويستمعوا منهم? وقد سبق وذكرنا أن النبي كان يجلس إلى بعض من يعملون بمكة من هؤلاء العبيد. وكنتيجة طبيعية لحتكاك أهل مكة بهؤلاء الأحابيش - وخاصة الرومان منهم - أن يعرف أهل مكة ولو قليل عن أسلوب الحكم وشؤونه في البلاد التي أتى منها هؤلاء.
الشريعة وواقع عرب الجزيرة
لم يكن العرب قبل الإسلام هذه الأمة الهمجية المنعزلة التي لاتفعل شيئاً إلا بمشيئة أربابها من الأصنام ? ولم يكن اهتمامهم محصوراً في الخمر والإبل والنساء. بل على العكس من ذلك. كان في الجزيرة العربية كثير من الحكماء وذوي الرأي? فقد كان هناك قُصي بن كلاب واضع لبنات الإمبراطورية العربية? وكعب بن لؤي الذي تتبع قُصي خطواته في تأسيس حكومة مكية? وهاشم بن عبد مناف التاجر الحاذق الذي استطاع أن يخرج بقريش من قوقعتها المغلقة لتحتك بالعالم في رحلتي الشتاء والصيف. كل هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن كان لهم الأثر الكبير في حالة الجزيرة العربية قبل الإسلام جعلوا شخصاً مثل أكثم بن صيفي حكيم العرب يقول مشيراً إلى بني عبد المطلب بن هاشم : يابني تميم إن الله إذا أحب أن ينشئ دولة نبَّت لها مثل هؤلاء? هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال (أكثم بن صيفي? ص 128). ولم تكن الجزيرة العربية أيضاً هذا المجتمع الذي لايحكمه شيء? بل إن هناك إرهاصات لقوانين منظمة وضعتها العقلية العربية -وإن كانت قليلة - تتناسب مع الواقع العربي واحتياجاته البسيطة. ولعل الزمن يكشف لنا عما يخبئه باطن الجزيرة العربية من آثار? ونجد بينها ما يشبه مدونة جستنيان في الفقه الروماني. فقد أثبتت الأبحاث الحديثة وجود أثر لمجرى مائي يمتد بطول الجزيرة العربية? ووجود هذا النهر يمكن أن يكشف لنا في المستقبل عن وجود حضارة مندثرة في الجزيرة العربية? ومن المحتمل أيضاً أن يكشف لنا عن وجود قوانين وشرائع لم يكشف عنها التاريخ العربي للآن.
وكما رأينا فيما سبق أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا عُزلاً من القوانين التي يدبرون بها شئونهم ? ورأينا أيضاً اتفاق هذه القوانين مع بعض القوانين التي جاء بها الإسلام. فالواقع التاريخي يؤكد على أن الإسلام لم يأت بمعزل عن الواقع المحيط به? ولم يأت كذلك بشرائع مجهولة - كلها أو بعضها - بالنسبة للعرب. وإذا سلمنا بعجزنا كبشر عن إدراك الماورائيات أو دراستها دراسة موضوعية? وإذا سلمنا أيضاً بأن الأمم لاتُولد ناضجة? قوية مكتملة الشرائع والقوانين?فيجب أن نسلم بأن الشريعة الإسلامية قد تأثرت بشكل أو بآخر بكل ما سبقها من شرائع. أو بمعنى آخر? إن الإسلام قد شرع للناس أمور دينهم? أما أمور دنياهم فقد تركها لهم? أو وافق على ما كان قائماً بالفعل. وبالرغم من علمنا بذلك? إلا أننا سوف نجد لدى الكثيرين آذاناً صاغية لمن يحاولون العودة بنا للخلف قروناً عديدة? ففي هذه الأيام نجد بعض من يرددون مقولات وهم ربما لايدرون أثرها إذا هي طُبقت كما يقولون. ولعل أشهر هذه المقولات التي ترددت أخيراً في مختلف المجالات الدينية هي مقولة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ? ونتيجة لهذه المقولة انتزع بعضهم آيات القرآن من سياقها وفسرها كما يحلو له فقالوا بظلم? وفسق? وكفر كل من يجرؤ ويفكر مجرد التفكير في أن يتحدث عن إمكانية وضع قوانين مناسبة للظروف الموجودة في المجتمع اليوم ? وطالبونا بتطبيق ما كان معمولاً منذ أكثر من ألف عام ? وحجتهم في ذلك آيات سورة المائدة 5:44-47 ونسوا أو تناسوا أن هذه الآيات تتحدث عن اليهود والمسيحيين ? وعن التوراة والإنجيل.ولم يقل أحد بأن هذه الآيات نزلت في شأن المسلمين ? أو في قضية الحاكمية. وبنفس الطريقة اقتطعت الآيات من سياقها? وعُزلت عن أسباب نزولها لا لشئ إلا لتكفير مجتمع بكامله واستباحة أمواله وأرواح من فيه. والحجة القوية للمُكفرين إن العبرة بعموم اللفظ . فإذا تكلم القرآن عن اليهود والتوراة? فيجوز أن تُطبق الآية على المسلمين والقرآن. وإذا جاء في السيرة أن رسول أمر بقتل كعب بن الأشرف لأنه كان يهجو النبي(السيرة الحلبية 3:146)? فمن الممكن أن يقتل أي شخص بحجة هجائه لهم. وهكذا اختلط الحابل بالنابل? وصار توجيه النقد لشيوخ توظيف الأموال ردة وطعناً في رموز العقيدة? والمطالبة بإعمال العقل في أمور الحياة إلحاد وزندقة? وقتل الأفراد وترويع الآمنين مجرد افتئات على السُلطة (الافتئات:هو الاستبداد بالرأي دون مشورة). ولم يعدم هؤلاء فقهاء يحلون لهم كل ما يريدون حله? ويحرمون ما يريدون حرمته. ولو تعاملنا مع هؤلاء بنفس المنطق واستعملنا نفس الأسلوب? لقلنا لهم: لقد قررتم أن العبرة بعموم اللفظ فهل توافقون على عموم كل الألفاظ? ولكي لايكون كلامنا مبهماً سنحاول أن نضرب بعض الأمثال حتى يتضح ما نقصده.
عن ابن مسعود قال: دية الخطأ أخماساً? عشرون جذعة? وعشرون حُقة? وعشرون بنات لبون? وعشرون بنو لبون ذكور? وعشرون بنات مخاض (سنن الدارقطني 3:172).
ونحن نسأل:هل يطلب منا دعاة العودة للخلف أن يتضمن التشريع الجنائي الإسلامي هذا النص ? أم سوف يسمحون بأن يوضع في القانون ما يقابل بنات المخاض ? وبنات اللبون?
لعل الموقف ليس هيناً? فإذا هم أصروا على وضع هذا النص كما هو? فكم من القضاة والمحامين يعرف الفرق بين الحقة والجذعة. وإن طالبوا بوضع ما يقابل ذلك بلغة العصر خرج عليهم بعض الشباب - كما يخرجون علينا كل وقت - واتهموهم بأنهم يشرعون من دون الله ويضعون قوانين ما أنزل الله بها من سلطان? وأنهم فاسقون? ظالمون? كافرون... - إلى آخر كل هذه الألفاظ التي يتقنها دعاة التأسلم السياسي - والسبب في كل هذه الاتهامات التي قد يُرمى بها هؤلاء الذين يرموننا بها اليوم? هو مقولتهم العبرة بعموم اللفظ . ولا مفر من التسليم بأن هناك طريقين لاغير? الأول: طريق إعمال العقل والبحث عن منظور جديد لقوانين تتناسب مع معطيات العصر الذي نحياه مع الالتزام بالمبادئ الإسلامية في التشريع? والثاني الوقوع في متاهة بنو المخاض? وبنو اللبون. وهناك مقولة اخرى شغلت حيزاً كبيراً من كتب الفقه الإسلامي? وهي لاعقوبة إلا بنص ? والنص المقصود هنا ليس نصاً قانونياً? وإنما المقصود هو وجود نص واضح في القرآن أو الأحاديث الصحيحة - وهذا الكلام جميل ولا نعترض عليه - ولكن لنا سؤال: ماذا عن الجرائم المستحدثة? وماذا عن النصوص التي يستحيل تطبيقها? فمثلاً يُروى عن ابن عباس قال: قال رسول الله ليس على العبد ? ولا على أهل الكتاب حدود (الدارقطني 3:87) فهل إذا تم تطبيق هذا النص سوف تستقيم الأمور? أي إذا ارتكب المسلم أي مُحرَم يقام عليه الحد? وإذا ارتكب واحد من أهل الكتاب نفس الجريمة لايعاقب لعدم وجود نص! أليس في هذا عدم مساواة بين رعايا الدولة الواحدة بل وفي جريمة واحدة? هل عرفنا الآن خطورة الأمر? وإننا في حاجة لأن ينقذنا دعاة التأسلم السياسي باجتهاد مستنير يتوافق مع معطيات العصر الذي نحياه? أم أنهم يفضلون الحياة في الماضي وأحلامه? والاعتماد على فتاوى ابن تيمية? وابن القيم ومحاولة تطبيقها الآن. إن أكثر من يسيء إلى الإسلام في وقتنا الحاضر هم المسلمون أنفسهم? فقد أعطوا للعالم أنطباعاً بأنهم يعشقون العيش في الماضي ويجترون أفراحه وأحزانه? حتى أصبح الإسلام - بفضلهم - يعني العودة للماضي السحيق. وبدلاً من أن يحاولوا مجابهة الحضارة العالمية? أخذوا يصرخون ويذرفون الدمع زاعمين أن الإسلام مستهدف من كل دول العالم. والواقع يقول إن الإسلام مستهدف فعلاً? لكن من دعاة التأسلم أولاً. فلو حاول كل أعداء الإسلام أن يسيئوا إليه بكل الوسائل لما استطاعوا أن يفعلوا ما فعله المتأسلمون بالإسلام? فقد حولوه من دين يأمر بعبادة لله_ ويحض على مكارم الأخلاق? إلى قنبلة ومدفع? ومن دعوة الي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة? إلى دعوة إلىسبيلهم بالجهل والتعصب? ومن المجادلة بالتي هي أحسن? إلى المجادلة بالتي هي أشد انفجاراً.
الفصل الثاني
إستهلال
لم تكن فكرة كتابة هذه الفصل من البحث مطروحة بالمرّة? حيث أني قررت أن يكون البحث مجرد دراسة تاريخية عن الموروث التشريعي بين عرب الجاهلية. ولكني وجدت أن الموضوع سوف يكون مبتوراً إذا لم يتم تناول النظرة الإسلامية للحدود? خاصة وأن بعض هذه الحدود لم ينزل بها تشريع قرآني? ولم تأت في تقريرها أحاديث نبوية صحيحة? بل أن بعضها اتى مخالفاً لأكثر من نص قرآني مثل حد الردة. ولذا سأحاول في هذا الفصل أن أتناول بالعرض الحدود المتفق عليها في الفقه الإسلامي? والتي أتى بها نص قرآني واضح أو أحاديث نبوية صحيحة? وبالتحليل لتلك الحدود التي لم يأت بها أي نص واضح? والتي هي في الواقع مجرد إجتهاد قد يصيب أو يخيب.
الحدود في الإسلام
الحدّ لغة : هو الفاصل بين شيئين? وحد الشيء منتهاه? والحد المنع أو القيد. والحد في الفقه الإسلامي يعني العقوبة التي قدّرها المُشرِّع على فعلٍ خاطئ (دائرة المعارف الإسلامية - حدَّ ). والحدود النصية - أي التي ورد بها نص قرآني - في الفقه الإسلامي أربعة حدود هي: الزنى? والسرقة? والقذف? والحرابة (قطع الطريق(. وهذه الحدود ثابتة بالنص القرآني? ولامجال للاجتهاد مع وجود النص من حيث زيادة العقوبة أو نقصها? ولكن الاجتهاد يمكن في شروط تطبيق الحد? وموانع إقامته...إلخ. ولكن في الفقه الإسلامي لم يقف التشريع عند النص القرآني فقط? بل تعداه إلى ما ورد في الحديث النبوي الشريف? وإجماع الصحابة. ونتيجة لذلك أصبحت الحدود في الفقه الإسلامي ستة هي: حد السرقة? حد القذف? حد الزنى? وحد الحرابة (قطع الطريق)? وحد شرب الخمر ? وحد الردة (أصول الشريعة? العشماوي? ص 100). ( ملاحظة : عدَّد الأستاذ عبد القادر عودة في كتابه التشريع الجنائي في الإسلام الجرائم السابقة على أنها جرائم الحدود ? ولكنه أضاف حداً آخر هو حد البغي. وحسب علمي لم يقرر سواه مثل هذا الحد في الفقه الإسلامي).
هذه هي الحدود المقررة في الفقه الإسلامي? بالرغم من أن الشرع لم يحدد لبعضها عقوبة نصية مثل : حد شرب الخمر? وحد الردة - سنذكر هذا تفصيلياً في موضعه - وسوف نحاول في الصفحات القادمة أن نُعيد قراءة النصوص التي وردت في تقرير الحدود قراءة متأنية? فالواضح أن بعض فقهائنا المعاصرين لم يقرأوا أبواب الحدود بشكل واعٍ? ولذلك سنحاول أن نقرأها معهم مرة أخرى? عسى أن نجد بصيصاً من النور يُضيء لنا ظلمات هذا العصر الذي نحياه.
حد السرقة :
المقصود بحدّ السرقة هو العقوبة المفروضة على من أخذ مال أو متاع شخصٍ آخر على وجه الخفية والاستتار? قاصداً بذلك تملك الشئ المأخوذ. وقد اشترط الفقهاء عدة شروط في السارق كي يُطبق عليه الحد وهي:
1 - قيمة المال المسروق? وقد اختلفوا في ذلك على عدة أقوال. فقال عمر بن الخطاب? وعلي? وعثمان? وعائشة: لاقطع إلا فيما قيمته ربع دينار فصاعداً? لورود نص الحديث بذلك. وابن عمر يقول : ثلاثة دراهم? وابن عباس يقول: عشرة دراهم? وأنس يقول : خمسة دراهم. وقال أبو حنيفة والثوري: لاتُقطع يد السارق إلا في عشر دراهم كيلاً? أو ديناراً ذهباً عيناً ووزناً. وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْريّ: أن اليد تُقطع في أربعة دراهم فصاعداً. أما رأي الخوارج فإن اليد تٌقطع في كل ما له قيمة ظاهرة .
2 - اتفق الجمهور على أن القطع لايكون إلا على من أخرج من حِرز ما يجب فيه القطع ? والحرز هو ما نُصب عادة لحفظ أموال الناس. قال ابن المنذر: ليس في ذلك خبر ثابت لا مقال فيه? وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم - وأما إذا أشترك جماعة من السُراق في إخراج شيء من مكانه - حرزه - ففيه أقوال كثيرة منها: إذا كانوا متعاونين في السرقة? ولم يكن في مقدور واحد منهم أن يسرق هذا الشئ وحده قُطعوا جميعاً. وإذا انفرد كل واحد منهم دون اتفاق بينهم (بأن ينقب أحدهم ويأتي الأخر ويسرق) فلا ق
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |