رائحة الخشب / مجموعة قصصية لـ محمد سامي البوهي
2008-11-10
عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة؛ صدر للقاص محمد سامي البوهي مجموعته القصصية الثانية بعنوان "رائحة الخشب". تقع المجموعة في 118 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 17 نصًا قصصيًا. تصميم الغلاف للفنان أمين الصيرفي.
تنشأ قصص "البوهي" بين أحضان النيل والبحر، فوق أرضٍ تنفس رائحة الخشب العنبرى الذي يحمل الملامح المحفورة على جسور الرزق بورش النجارة الصغيرة؛ هناك في مدينة "دمياط"، حيث علمته الطبيعة ماهية التذوق، فأشرقت شمسًا غزلت حروفه الأولى في قصاصات من الورق، لتأتي مجموعته الثانية "رائحة الخشب" كقصائد غزل في الحبيبة، والأسرة، والوطن.
سبع عشرة قصة قصيرة تتنوع في أحجامها، وفي موضوعاتها، بينما تحمل لغة السرد في طياتها عمق الفكرة وبلاغة التعبير، مع إغراق في الواقع، وكأنه واحدٌ من هؤلاء الأدباء الثوريين الذين جعلوا لواقعهم وحياتهم النصيب الأكبر من جل كتاباتهم. فنراه ينتقل فجأة من مستشفى عين شمس التخصصي، إلى "كمساري الترام" وبائعي الجرائد، ومن مباريات منتخب مصر إلى قشور الأخشاب المتطايرة في ورش النجارة بدمياط، ومن هناك إلى صفحات الجرائد ليقضى أوقاته بين قصائد سعدية مفرح ومدحت علام ومهاب نصر.
وبرصيد هائل من الذكريات يخطّ قلم البوهي حكاياته بسهولة ويسر، لتضيف إلينا عوالم جديدة لم نكن لنطرقها من قبل.
عودة حافلة
من المجموعة القصصية "رائحة الخشب"
تنتظر قدومه كل يوم حتى الانسدال، لم تشعر يومًا بيأسٍ تسللها، اليقين يرسم لها دائمًا طريقا للعودة. مزجت بصرها بأشجار الزيتون الوارفة، أرسلت الأمل داخلها، علّه يخرج من بينها مُزيحًا أغصانها؛ كاشفًا عن وجهه..
غاصت أصابعها في رأس ابنتها "فاطمة"، تداعب خصلات شعرها المجدول.. تتساءل عنه كثيرًا، عن صورته على الجدار، متى رحل؟ متى سيعود؟ هل كان يداعبها في مهدها؟ أكيد قد تبدل وجهه كثيرا. تتراكم الأسئلة فوق جسدها الرقيق، تشعرها بالدفء، تنام...
الأم تنتظر المؤذن.. تصلي، تدعو، تتوسل، تبكي... تنام في أحضان الأمل.
كست جسدها بثياب المدرسة، جدلت ضفائرها بعد أن نقضتها بالأمس، ناولتها حقيبتها الصغيرة، قبلتها بين عينيها، أكدت عليها التقام الطعام؛ فتركت لها علامات الطاعة قبل الرحيل. غابت مع الصغار وسط بقايا منازل الشارع المظلم.
وحيدة بين أطلالها المتناثرة في كل مكان، هنا كان يجلس لتناول الطعام، بهذا الركن كان يصلي، على هذا الكرسي قص عليها همومه وأفراحه، جلبابه الأبيض يتدلى هناك، ينتظره ليطوف به طرقات المدينة، رائحته تملأ المكان، عشقها الزمن فأبقاها على حالها، وجهه يقف أمامها كظلٍ شع من جسدها النحيل، سنوات التهمت فراشه الدافئ فصار لهبًا يكويها. عاد الخوف يدُكُّ قلعتها، نظرت نحو الباب القديم، فغزت آذانها طرقات.. وطرقات.. وطرقات، سقط الباب... تهشمت عظامه، انتزعوه من راحة يومه الشاق، جرجروه وسط توسلات الرضيعة المفزوعة، تمسكت بأطراف جلبابه، تمزق... تمزق جسدها تحت وخزات البنادق... قاوم أغلالهم.. ضربوه على رأسه.. أُغشيَ عليه، داسوا أشلاء الباب المتناثرة بأحذيتهم الضخمة، تركوها دون بابٍ يسترها؛ يداري عورتها. تعازي الجيران تجمعت حولها، الكل يواسيها بما وصلت إليه من حال، لملموا هشيم الباب، أقاموه كما كان بين الجدار.
عادت إلى جروحه المندملة، طرقات.. وطرقات.. وطرقات، عناكب الخوف شدت خيوطها حول رقبتها، أسرعت بفتحه، كان رجلاً ملثمًا يحمل بين عينيه ملامح الحياة، طمأنها...
- لا تخافي. لست منهم.
- من أنت، وماذا تريد؟
- أنا بشير خير.
- خيرًا ؟!
- غدا سيأتي زوجك.
- زوجي؟!
- سيعود.
- سيعود. كيف؟!
- غدًا عند الغروب، ستقف الحافلة على الجسر.
بين الشك واليقين تتهاوى، الأمل القابع خلف أشجار الزيتون يزحف نحوها، تذكرت "فاطمة" ابنتها، وتساؤلاتها التي لا تخمد... هل آن لها أن تهدأ، وتستكين؟ يعود الشك إليها، تنفضه عنها، رائحته تزيد انتشارها بالمكان، جلبابه الأبيض يرفرف فوق المسمار، أشياء المنزل ترقص فرحًا من حولها. تمدد الخبر للجيران، التهاني تنساب، استعارت بعضًا من الأواني الفاخرة، ستصنع له أفضل ما يحب من طعام، تعرض مساعدات الجيران، البيت يمتلئ بالنساء، يصنعن "الكعك" المنقوش، تتقافز "فاطمة" مع أطفال الحي، يمتلئ صدرها الصغير بشوق اللقاء، من تنتظره سوف يعود، أخيرًا ستتحرك الصورة المتجمدة بخيالها المكنون.
الأم، فاطمة، والجيران، عند الجسر وقت الغروب في انتظار الحافلة، تضيق الأنظار مع أطراف الطريق المستقيم، ارتشفت الشمس أشعتها الباقية، وتعلق بينهم بعض من ضوء خافت، انغلقت نهايات الطريق بالظلام، الهمهمات تتناثر: (سيعود... لا تقلقي... الطريق طويل... الصبر أجمل ما في الوجود). وكان ضوء الحافلة المنبعث من بعيد هو أجمل ما رأت في الوجود، ينبوعان من النور انفجرا وسط الظلمة القاحلة، اقتربا نحوها مع اقتراب التهنئات من آذانها، كبرت الملامح وليدة الطريق، اقترب قلبها من الحافلة، كاد يقفز داخلها، الترقب ينتظر على جوانب الطريق، استقرت العجلات على الجسر الموعود، أطراف الأصابع وضلالات الوجوه تبرز بين قضبان النوافذ، انفتح الباب... ارتفعت الأعناق، القلوب تنبض كطبول الحروب، بدأ الخروج، الوجه تلو الوجه، تغيرت الملامح القديمة، صارت الأجساد مسحة لحم تكسو العظام، الفرح خالطه النحيب... العناق، صوت اللقاء يتطاير، تساؤلات "فاطمة" تنهمر: (هل سيعود؟ متى سيعود؟) وسط الوجوه تبحث عن صورة الجدار، الأم أصابها صمت الذهول، الشك يداعبها، اليقين يضيء وينطفئ، مازالت الحافلة تلقي بالوجوه الشاحبة، ارتمى عليها... تعرف عليها... لم تعرفه، دققت في ملامحه، أشباه خاوية من أصل مضى، قبلها، عانقها، تساءل عن "فاطمة"، أخذها بين يديه، بكى على صدرها المرتعش بعد أن أزاحت عن جسدها التساؤلات، أمسك براحتها الصغيرة، عرج مع أمها والجيران ناحية المنزل، مرارة الحرمان تودعه، فرحة اللقاء ترحب به، تداخل وأشجار الزيتون الوارفة، أزاح أغصانها كاشفًا عن أعمدة الدخان المتصاعدة من بقايا منزله المهدوم.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |