نفثات لبنى ياسين في طقوسها
2008-11-18
عندما تتصفح مجموعة لبنى محمود ياسين بغلافها الذي تملَّكهُ اللونُ الأزرق . تدخل دون وعي في طقس قراءة لا يمكنك الفكاك منه ! لا سيما وأن صفحات المجموعة صغيرة الحجم ، ولم تبلغ المائة ، والمجموعة تفرض عليك طقساً بتقريظ نفر من كبار الكتاب . يلقي بظلاله عليك احتراما لما ستقرؤه ، وتتهيأ قبل كل قصة برسم ملون - صيرته الطباعة رمادياً - يمهد لك خوض غمار القصة ، وكل هذه الطقوس - التي خلقتها لنفسك - هي محض إملائات نفسية . أولجك إياها عنوان المجموعة ( طقوس متوحشة ) .
هذه الطقوس ستعلم بعد حين أنها عنوان أحد القصص ، كاكتشافك أيضاً أن لوحة الغلاف بريشة واحدة لرسام واحد ! رغم اختلاف الاسمين بين لوحة الغلاف والرسوم الداخلية ، ويجمع شمل ذلك أن تدغم بين الاسمين بحذف التصدير ، فيصير ( حاتم أبو الحسن ) ، ولوحاته التصاق بالنص وترجمة له بالريشة ، أو بعبارة أشد دقة ( هي القصة بالريشة ) ، وبينهما تناغم على صعيد الكتابة والقص بتقارب المدرسة التي ينهجها كلاهما على صعيد الرسم والكتابة .
وذات الالتصاق تكاد تجريه على طقوس العنوان بثيمة تراها في كل قصة تصريحاً . كقولها ( أخضعني جدي لطقوسه القذرة ) ص24 من قصة " أصابع جدي " ، و ( أتقمص كل طقوس الأمريكيين ) ص30 ، و ( في طقوس غربية غريبة ) في الصفحة التي تليها من قصة " تنتهي بالقاف " ، و ( كنت أحضر لطقوس موته ) ص 43، و ( طقوس رعبي الليلية )في الصفحة التي تليها من قصة " طقوس متوحشة " - التي تسمت المجموعة باسمها - ، و ( استغرقت طقوس هذا القرار وقتا طويلا ) ص77 ، و( بدأت طقوسها الاحتفالية بالعودة إلى عالمها المبعد ) و ( كانت الطقوس أكثر همجية من احتمالها ) في صفحتين متتاليتين من قصتها " نقطة محايدة " ، وتستطيع أن تجعل هذه القصة بالتحديد طقساً كتابياً لا يختلف كثيراً عن ما تقوم به القاصة في جميع قصصها بالتماهي بين اللون والحرف ، وهذا محض التناغم بين الرسام والقاص ؛ لذا حفلت القصة بكثير من الطقوس أكثر من غيرها إلى درجة تكاد تلقي عليها عنوان المجموعة ؛ لولا تلك النقطة النرجسية للبطلة حتى منحتها العنوان .
وإن كان ذاك ما جاء تصريحاً ، فبقية القصص أتت محض طقوس لأبطالها : من طقس المناجي نفسه أمام مرآة في توحد وتشاجر مع الذات في قصة " الآخر " ، وبألفاظ تحمل سمة الوحشة ( أستعمر .. يكره رؤيتي .. كابوس .. حتى الغثيان .. سأمسكه من تلابيبه .. سأشده من رقبته ، وسأكسر له ذراعاً ، وقد أفقأ له عينا .. ) ، وهكذا تلقي القسوة والوحشة بظلالها . كما هو اللون الأزرق الذي اصطبغ به الغلاف ، فتسرب كحبر بين الحروف . تراه في تلافيفها عياناً ( لون ضائع بين ازرقاق داكن تفرضه غيوم ممزقة ) ص 80 ، ولو كان هذا الحبر نقراً على لوحة المفاتيح ! لا أقلام حبر حقيقية . كما هو الحال في طقس الكتابة الحديث في قصتها " الوهم الحقيقي " ، وتارة تسير في الطرقات ؛ لترمق الناس عياناً ، وتحاكي طقوسهم الحقيقية لا وهماً . كطقس الفقير الذي يراه عيباً في مونولوج يناغي النفس المتضورة جوعاً بينما الأغنياء على موائدهم المتخمة . يتغنون بأن الفقر ليس عيباً في " حديث الأغنياء " ، ولم تكتف بهذا السير فحسب ! حتى دلفت إلى تلك الغرف المستعمرة بالرذيلة في طقس تراجيدي ؛ لاغتيال البراءة والأنوثة في طقس هو محض " قذارة مزدوجة " كعنون قصتها ، ولم تكتف بتلك الدهاليز حتى تسربت إلى نفس الأنثى ، وجانب الذكورة في تلافيف جسدها حتى أذاعته طقساً علنياً بعد تواري ؛ لتخرج واضعة ربطة عنق ، وبصرخة رددتها في عنوانها " لست أنثى " ، ولعبة الألوان كما ابتدأت من الغلاف لم تنته بعد ، فها هي ذي في قصتها " مجرد بيدق " تعيدها - وإن لم تغفلها في قصصها - باللون الأسود والأبيض كرقعة شطرنج يمارس فيه الملك طقسه ، وباللون أيضاً صبغت عنوان قصتها متزملاً في بياض الثلج ، وفي طقس السآمة والرتابة يعم السكون ، فـ ( لا توجد حركة إذا ما استثنينا بندول الساعة الرتيب ) ص60 ، و( كلما وقفت على النافذة لأرى ندف الثلج ، والمشهد الذي لم يتغير منذ الأزل ) ص71 من قصتها " ملكة الثلج " ، وبقصتين جعلتهما متبادلتين في المشاعر . ما بين مشاعر الأنثى والذكر ، فالأولى : مشاعر الأنثى حين تفيض تساؤلات لمن تحب في طقس خيبة جعلها تبوح بكل مكنونات فؤادها . حين تسلبُ الأعرافُ والتقاليد منها من تحب في سماجة غير مبالية بمشاعرها التي ظلت متوهجة . كما هو عنوان قصتها " وما زال ذاك الوهج في قلبي " ، فعنوانها طويل يشي بكثرة ذاك الكم من المشاعر الموءودة في رمال الأعراف ، والثانية : تختم بها مجموعتها مغناة بصوت العندليب - المغيب لمصريته - ، وبكلمات نزار قباني - الحاضر بدمشقيته - في تناغم يتردد في صدر من يبحث عن حبه المفقود في " تداعيات ذاكرة " حيث لم يفت القاصة المكان ، فدمشق ذكرت في قصتها : " نقطة محايدة " بأنها ( الحسناء التي تزداد جمالاً كل يوم ) ص 80 ، وبأنها ( تلك المدينة الأسطورة ) ص 93 في هذه القصة ؛ لتشي بحبها وتجعله مسك ختامها ؛ لكنها الخيبة المتلبسة في النهايات حين ( تطارد خيط دخان ) ص96 ، وفي وداعها لـ ( طيور الشام ) ص 80 ، فالمكان تسجَلَّ هنا بخيبة ربما صنعتها الغربة !.
واحتلت العراق جزءاً باعتبار الأحداث ، وإن كان مكان القصة في أمريكا كما هو الحال في " تنتهي بالقاف " ، أو تسجيلاً للمكان كما في ( سجن أبوغريب ) ص44 .
وفي كلا الحالتين توظيف للأحداث الزمنية في القص ، وذاك طقس يعيشه الإنسان بحياة الإنسان ، وتوظيف الحدث في الإبداع الأدبي لخدمة المجتمع ، وإن تجافى هذا مع تقنيات الكتابة ، وتنظير النقاد ! فتبصر في هذا النوع من القصص مقاربة للقارئ ، وإن كان على حساب الناقد ، فاللغة سهلة بعيدة عن التعقيد ، والصور جميلة بسهولتها ، والسرد منساب دون تعقيد التقنيات السردية ، والخاتمة بعيدة عن التعقيد ، وانفتاح النص على مصراعيه للتأويل بتقريب الصورة قدر المستطاع دون أن تفقد بريقها كما هو الحال في " ملكة الثلج " بمساعدة القارئ لا استغبائه بذكر سبب ثراء صوفيا ، وحل لغز وفاة والدها بمكالمة العمة في عملية ؛ لتضييق تلك الزاوية المنفرجة دون أن تفقد كامل انفراجها وتدخل في مصطلح رياضي آخر .
وإن لم يرق هذا الأمر للناقد بطلب تلك المساحة البيضاء عند القفلة . إلا أن هذا اللون والموضوع الذي ترسمه القاصة بواقعيتها - دون إغفال الجانب الإبداعي - يروق لكثير من القراء بتسطير الدهشة عند حصد المفارقة مكتوبة لا مغيبة يبحث عنها ، فلم يكن ذنبها ( أن اللوحة كانت قبيحة ) ص 82 عند أناس ما دامت تروق لعدد أكبر يرى فيها جمال اللون بحقيقته ، فتلك البقعة البيضاء التي يطلبها النقاد في الآخر أتت في نصوصها ، فلطالما ( أحست أنها والأبيض توأمان ) ؛ لذلك أشبعت ريشتها بالأبيض دون لوحتها !.
أستطيع أن أقول أنني عشت طقس قراءة جميل في وقت يسير ، وقبل أن أودع الكتابة توقفت عند ( الطقوس ) وارتباطها بالعبادات المسيحية والسحر ، وبُعْدُها عن اللغة العربية في معاجمها ، فجذر ( ط ق س ) ليس له أثر في المعاجم التي بين يدي ، وأقرب ما قرأت هذا اللفظ في كتب التراث عند ابن عربشاه في فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء عند قوله (ومعرفة طقوس الوسوسة كأبي علي بن سينا في علم الهندسة ) بعد قليل بحث ، وهذا من مواكبة الألفاظ العصرية ، والبعد عن التقعر اللفظي دون بعث ألفاظ جديدة ، وإنما توظيف لما هو بين أيدينا من لغة .
فالطقوس ارتبطت بالكتابة ، وما أشبه الكتابة بالعبادة والسحر ! فلا غرو إن تسرب هذا اللفظ في الكتابة ، لا سيما وأن الكاتبة في طقسها سابق الذكر في قصتها " نقطة محايدة " ابتداء من مرور أصابعها دون أن تشعر ( على الريش متفقدة إياها ) ص 78 وحتى رسمها لـ ( نقطة حيادية بيضاء .. تشبهها تماماً ) ص 82 تمارس ضرباً من الطقوس الإبداعية .ال
ولطالما ارتبط السحر بالمرأة ! وطقسه ارتبط بالكتابة كما قاطع بينهما محمد سعيد الريحاني في أحد حواراته على مستوى التحضير والاستعداد بين الفنين ، ولأن الخلوة هي أحد طقوس الكتابة والسحر أيضاً ، فيحين لنا أن نعلم تلك ( المتوحشة ) التي وصفت بها القاصة طقوسها ، فالوحشة من معانيها الخلوة كما عند ابن منظور ، ولولا هذا الكم من البياض المفارق لسواد السحر ؛ لقلنا أن القاصة كانت تكتب بعصاة لا قلم .
أنثى في قفص
يحكى أنني في زمان ما طرت عارية إلا من حقيقتي في مملكة السماء
وتسابقت أنا والبنفسج نحو الشمس... ولم نحترق.
.
ويحكى أنني سقطت في أنهار الهوى... فتمردت روحي وحاولت أن أطفو فغسلتني دموع الألم وبان بريق طهري... فكانت الشمس
.
وقالوا إنني تبعت هواي... فانهارت الأكوان من حولي... وتسابقت السيوف على لحمي تقطعه... وانهال سواد عيني دموعا من غضب... فكان الظلام.
.
ويحكى أنه منذ ذلك الحين... قـــصَ جناحي... ولم أعد أطير... ولم أعد أرتدي حقيقتي... وبانت سوءتي... فارتدتني كل أوجاع الأسر.
.
ويحكى أنني في زمن آخر... زمن شهريار... سُـجنت في قفص من ذهب... وارتديت ثوبا لا يشبهني فصرت عارية.. وتغطت حقيقتي بأسمال ليست لي.
.
وقالوا أنني عندما جاء دوري لأمثل دور سندريلا... لبست حذائي بإحكام... وحرصت على ألاّ أفقـده... وهكذا... لم يبحث عني أحد... أي أحــد .
من المجموعة القصصية الثانية للقاصة السورية لبنى ياسين
بعنوان (أنثى في قفص).ء
لبنى ياسين
كاتبة وصحفية سورية
عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات
للاطلاع على موقعها
http://uk.youtube.com/watch?v=MEAZt5G12RM
http://fr.youtube.com/watch?v=pVjXK87Vy0E
http://daralkashkol.com/fourms/viewforum.php?f=103&sid=aac2ca70d77778b099126d927899554d
--
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |