Alef Logo
ابداعات
              

الغضب*

المصطفى صوليح

2008-11-25


ــ ” هل من مزيد ... ؟ “
ــ ” ..... “
و ركض النادل يلبي الطلب ، و انبطح آخر شعاع صريعا وسط الأهداب المنتوفة ، و انحجبت الشمس و انطوت الجدران الصلدة المغلقة من دون نوافذ على أنوار المصابيح المغبرة و دخان السجائر الرخيصة و رائحة العرق و الكحول و القيء الممزوجة برائحة السمك المقلي و بودر المومسات ... و غاص كل شيء ، و تولد خيط رفيع امتد حابيا مع طبقات الخنق و هستيريا من القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة يربط أجزاء هذا العالم المكهرب ببعضها ...
ــ ” و أنت ... “
ــ ” أنا ... ماذا ؟ “
ــ أنت تنزوي في الركن ، ظهرك إلى الحوت السابح في زرقة الجدار وراءك .. تتملى صورة أمامك و حواليك .. لوحة رائعة من دون شك .. يونس ينجو من جوف الحوت لتوه ، لكنه يستقر في قاع البحر ... تصفيق !
ــ ” هل من مزيد ... ؟ “
ــ ” و ماذا يمكنك أن تفعل غير ذلك ؟ اشرب رغم أنفك نخب الأفعى الرقطاء التي تمخض عنها الجليد و حملتها ريح العشق و الهوى نحو ثعبان الشمس و الذهب الأسود .. فزحفت بصخب .. ترى ، هل كان لا بد و أن يبادلها الثعبان الحب بالحب .. السم الجليدي بالسم الصحراوي .. لعل كيوبيد كان حاضرا وقتها بقوسه و سهامه ... على كل حال يمكنك الآن أن تدعو عاهرة .. أربعة ... أو كل عاهرات الحانة و رواديها للرقص .. أو لا تبعث النغمات القاهرية على ذلك ؟ العرش الذي أدخلته مصر إلى متحف المصريين القدامى يخلف الحفيد المخلص غير الشرعي من جديد .. فلتدق الطبول بشدة !“.
وراء البار مدام الخطيب تقف بصدرها الممتلئ .. النصف عاري و عينيها اليقيطتين ، عن يمينها على الجدار و في نهاية لائحة الأسعار مكتوب ما يلي : ” مطلوب فتاة .. سمراء ، تتقن فن الهوى و الحساب .. ” . عن يسارها إلى الخلف لائحة أخرى تحمل مواعيد فتح و إغلاق الحانة يتقدمها بخطوط واضحة : مدام الخطيب ، نزيهة .. ! إنها توزع بسماتها توزيعا عادلا .. هذا ما أجمع عليه الرواد .. ” حتى أنت قلت ذات مرة في نفسك على الأقل .. رائعة حقا ! و نزيهة حقا ! .. كان أحب مكان إليك أن تجلس إلى هذا الركن .. عيناك إلى الفرجة الدقيقة بين أفخاذ مدام الخطيب الزغباء .. أنت طبعا كنت تكره ذلك ، لكنها الرغبة اللعينة المحبوسة تأبى إلا أن تنطلق .. مرة ، مرة ، كانت مدام الخطيب تضبطك متلبسا ، لكنها بدل أن تحتج ، أن تقتص .. كانت تضحك .. لك ؟ أنت لا تدري و فوق ذلك لم تكن تهتم ، ثم تحول فرجة أفخاذها نحو عيون أخرى .. جوعى .. عطشى ، و ما أكثرها حواليك !.
المسافة بين الأرض و السماء تكاد تضيع و النادل لما يزال يركض .. خفيف كصبي أبي نواس .. الأرض تشده بكل قوتها في الجذب و هو صامت إلا من حركات جسمه العصبية .. ” منذ تزوجت المدام بالخطيب و فتحت الحانة و هو يركض .. الجميع يتقاذفونه .. الميكانيكي الذي يبحث نفسه و الفلاح اليائس و الشرطي المدجج بالعصا .. و العاهرة التي لا تلتذ العهر ، و المثقف الأنيق الذي يبحث عن فينومينات .. و لا أحد يعرف اسمه .. هو نفسه لم يعد يعرف لنفسه اسما .. إيه ، جرسون ! و يأتيك مذعنا .. لا تدري من أين لعينيه بذلك البريق المرعب “ .
ــ من السكر .. أو التخدير .. طبعا ..
ــ أكيد لا ، أنا لم أره قط يفعل ذلك .. ألا يكون من الغضب ؟
ــ ” و أنت لكي تتأكد .. اسأل الشرطي الذي يحمي خمر المدام من أن يسيله الزبناء بالمجان .. أن يكون المرء عبدا لا بد و أن يكون غاضبا حتى و إن لم تبرق عيناه بالرعب .. 1 + 1 ، لا ينتج عنها أبدا إلا 2 .. إذن كلكم غاضب ، لأنكم كلكم عبيد .. و أنت غاضب أليس كذلك ؟“ .
ــ ” أعترف لك .. أنا غاضب و حاقد أيضا ... و لكن .. ؟“.
ــ ” و لكن .. ما مصدر غضبك .. غضب النادل الذي أضاع اسمه .. غضب الميكانيكي الذي لم يعد ميكانيكيا .. غضب البرابرة زمن الإمبراطورية الرومانية !“ .
القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة لم تلبث أن تبخرت في مواء قطة سمينة .. ملت هياكل السمك العظمية و لمسات السكارى .. المواء يستمر دقيقا و حادا كرمح .. و هي تدور بين أقدام الموائد و أقدام البشر .. ذيلها يتمايل في عنف تحت أنظار تحاول عبثا أن تنام .
ــ يا شرطي ، أبعد هذه القطة اللعينة !
ــ أألقي بها خارجا يا مدام !
ــ اذبحها إن شئت ...
” و ذكرياتك أنت مع الذبح كثيرة .. قاسية .. مجنونة .. يصعب تخيلها ... الغضب يولد حتما الرغبة في الاغتسال بالدم .. حملت البندقية و انتظرت رفاقك في التحرير بصبر لا يطاق لحظة الوصول و الصفر و الصدام .. فجأة أسرع البارود ينازل البارود .. و اندفع صلاح الدين الأيوبي يجني رؤوسا أينعت منذ زمان .. ألف عن اليمين و مثلها عن اليسار .. يوم ، اثنان ، أسبوع .. و الجثث تتهاطل على التلال .. و خرير الجراح و الأجساد المبتورة يتصاعد .. و ترنح العدو المتراجع يحفزكم على التقدم أكثر .. و كل ذلك يلف غضبك بنشوة لم يستطع كحول مدام الخطيب زرعها فيك ... و النشوة بدورها تبعث على التمرد .. بالعكس ، يجب أن نتقدم يا كابتان !و تتخلون عن أثقالكم ... السكاكين تشع في أيديكم و أنتم تزحفون .. ثانية ، ثانية ، كنت تخلف وراءك ذبيحة و حفرة من دم و تراب و الذبائح لم تعد تحصى .. و امتزجت ولولة القتلى بحركات التمزق و الطعنات الخارقة ... ساعتها طوقكم صراخ العالم ” المحايد “ : أوقفوا الذبح خذوا أسرى ! لكن اللعبة لم تنطل عليكم .. لكن الديار المسروقة لم يعد بينكم و بينها سوى أعناق معدودات .. لكن غضبك أخذ يتمطط جدا و يكبر جدا .. لكن إعلان الفصل بين المتحاربين لم يمهلكم أبدا .. “
ــ ” و ها أنا أعود إلى الركن .. إلى الأقداح .. مع نبيح التجربة .. غاضبا .. و أي غضب .. أي غضب !!“.
الشرطي ينفذ حكم المدام في القطة و لا أحد يدري كيف .. فضاء الحانة المغلق أخذ يخنق النفوس و يخنق نفسه و النشوة تتحول تدريجيا إلى ألم في البطن و في الرأس .. ” و قوة دفاعك أنت تتجمع حول نقطة واحدة .. ظاهريا يبدو غضبك مجرد نرفزة ، و انفعال حاد .. باطنيا ، غضبك أمل عاصف .. يمتد من قلب مسقط الرأس .. نحو شعب فلسطيني الهوية“.

* نشرت بجريدة ” المحرر “المغربية. صفحة 6 ليوم 22 أبريل 1975
) 1 ( كاتب و باحث من المملكة المغربية . صدرت له أخيرا ، خلال النصف الثاني من شهر أكتوبر 2008 ، مجموعة قصصية تحت عنوان ” ثورة الربض“ و ذلك عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب .



























تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow