11

مازالت العيون التى حررها من العدم تحوم حوله .. عيون تحدق فى قطعة من الجحيم ، وعيون فاجرة جشعة لن يطفىء ظمأها للحياة ملايين السنين ..عيون تعاتبه لأسره لها وتقف بالضبط فوق أنفه ولا يستطيع هشها وعيون تزمجر أمام عينيه وتنتظر فرصة ليغفل حتى تنقض عليه .. عيون استراحت من الحياة وظلت ساكنة فوق كتفيه فى دعة تتفرج عليه وهو يغوص فى ثنيات لحمه المتزايدة يوماً بعد يوم وعيون تستمع بذهوله وهو يبحلق فى رعب الحقيقة وجهاً لوجه .. عيون لأطفال صغار تعبث بحيرته أمام اطمئنانه المطلق وعيون شبعت من الحياة لدرجة أنها احتضنت قاتلها بحنو بالغ فى بؤبؤها ، ظل يتأمل عين " نفرت جاد" المعلقة إلى الأبد على سرها ، بينما يفكر فى اضطراره لدعوة " عبد الرحمن "على الإفطار فى منزل " آل الجوهرى" ..أخذ يقلب الأمر فى رأسه ويحاول ترجيح اتخاذ أحد القرارين ، وكطبيعة رجل من برج الميزان أخذ يردد .. ....ولكنه لم يجتمع بالدكتور " عبد الرحمن " فى جلسة إلا وانتهت بكارثة ، ابتسم وهو يتذكرأنه كان سبباً فى قطع علاقته برئيس تحرير صحيفة " أبو الهول "..
فكالعادة ولجاذبيته الشديدة أخذ يحاوره " البرعى حمدان " ويقربه إليه وبدأت الأمسية باستمتاع " عبد الرحمن" وتألقه لكن سرعان ما فتر حماسه ، ومثل طفل قررأن يقلب القطار الذى يلعب به على الأرض لينام.. رد على سؤال " البرعى " حول ما إذا كان قد قرأ مقاله اليوم بحكاية تركه لسيارته بجوار رصيف فى شارع ما لا يتذكر أين يوجد الآن ، قال .. توقفت فى منتصف الطريق لبيتك لأرد على تليفون " تاج العريان" واندمجت فى حفظ الشوارع التى على دخولها وهو يصفها لى ، وفجأة نظرت فى المرآة الأمامية فرأيت رجلاً يبول على شجرة بجوارى بينما تستند مؤخرته على مؤخرة سيارتى ، ولغبائى أضأت أنوار السيارة الأمامية ، ويبدو أن الرجل فزع فاستدار وهو مازال يبول ، وعندما اطمأن إلى أنه غسل مساحة لا بأس بها من السيارة أغلق بهدوء سوسته بنطلونه وسار فى طريقه، وتركنى أغلى من الغيظ فنزلت منها وأقسمت ألا أركبها إلا بعد أن يغسلها شخص ما وهى فى مكانها.
لم تتسع عينا " البرعى حمدان " و"تاج العريان" فقط ، بل ظل كل الحضور يحملقون فى وجه " عبد الرحمن " الغاضب المشمئز لأكثر من دقيقة وهم صامتون تماماً ، بينما ينظرهو بكراهية شديدة لـ" البرعى " وكأنه هو الرجل الذى بال على سيارته ، وكالعادة قطع هو نفسه الصمت أخيراً وقال من بين أسنانه :
- يا أستاذ " البرعى" إنت فاكر كم واحد بيقرأ نصف صفحة جرنال ببنط صغير كل يوم لحضرتك ؟ انت فاكر مين يهمه أن يعرف رأى سيادتك فى مشكلة أفغانستان مثلاً ؟ وكل واحد من الشعب يعرف معلومات عنها مساوية لما تعلم وإذا أعطيته عموداً صغيراً .. ربما يكتب تحليلاً أعمق مما تكتبه .
تململ الحضور وأخذ كل منهم يحاول تمثيل الانشغال عن استماعه ، واحتقن وجه "البرعى" وتلون بألوان الطيف ، بينما يواصل "عبد الرحمن" بهدوء وغيظ وسرعة:
- ياأخى اللى ماشفت صحفى فى البلد دى بيحاول يساهم فى تربية هذا الشعب وتشكيل وجدانه ، ياأخى لماذا لا تكتب عموداً يومياً صغيراً ..بعنوان عزيزى المواطن تتناول فيه كل يوم موضوعاً جديداً فتكتب مثلاً .. عزيزى المواطن لا تطرطر على سيارات الآخرين ، وضحك وكأنه مجنون يمثل على خشبة مسرح لكراسٍ شاغرة ، وأضاف .. خاصة سيارة الدكتور " عبد الرحمن" . أو عزيزتى المواطنة استحمى قبل ذهابك إلى العمل ، أو عزيزى المواطن لا تلعب فى أعضائك التناسلية فى المقاهى وعلى النواصى ، أو عزيزتى المواطنة انظرى إلى نفسك فى المرآة بعد ارتدائك بعض الهلاهيل أو عزيزى المواطن لا تلعب بأصبعك فى أنفك لتخرج ما فيه وتلصقه على أبواب الحمامات العامة وكراسى المواصلات العامة وأنتريهات من تزورهم وملابسك أنت شخصياً أو أعزائى المواطنون لا تنهقوا بصوت عال وأنتم تتحدثون لأن أنكر الأصوات عند الله هو صوت الحمير .. . وهكذا ، وابتسم كالعادة بخجل من انتصر بالصدفة وأمسك بيد " تاج العريان" وهو ينهض كما ينهض طفل أمه وهو يقول بصوت فزع ..آه والله يا " تاج" الرجل طرطر على .
أراد " تاج" أن يستأذن أو يعتذر ولكن " البرعى" أشاح
بوجهه ، بينما لا يكف "عبد الرحمن " عن ترديده لجملة واحدة :
- يعنى إيه يا"تاج" مش ها توصلنى للبيت؟! بمجرد أن جلسا فى مقعد السيارة الخلفى وتفوه " تاج العريان" صارخاً بـ... والله ده حرام يا " عبده أنت .. حتى انفجر الاثنان فى ضحك متواصل إلى أن وصلا المهندسين بدون كلمة واحدة ، والسائق يهز رأسه مبتسماً ومندهشاً فى الوقت ذاته .
ضحك بصوت عال وكأنه مازال فى السيارة مع " عبد الرحمن " وقرر ضرورة دعوته فهو يحتاج أن ينتقم من "الجوهرى " بكارثة مشابهة ... يحتاج أن يرى رد فعل "عبد الرحمن " فى بيت " الجوهرى ".. فى اللحظة نفسها ليس قبل ذلك ، وليس بعده.
دخل وهو يحاول أن يكف عن ضحكه إلى غرفة أبيه .. " العريان" لم يمت بعد ، ولعله يسبح الآن فى مياه آسنة ليجهز على من رآهم أعداء له أو مخالفين لمعتقداته .. المخذولين المدحورين الذين ساهم فى اعتقالهم أو ساهم فى تعذيبهم بعنف فى سجونهم أو ساهم فى إرسالهم إلى مستشفلى العباسية للصحة النفسية ، يلملم "تاج" الكلمات من فمه الذى يلوك شيئاً ما وهمياً ، فيكتشف أنه يتحدث عن استعداد الجيش للعبور لأنه يستشعر اختلاف مواقيت الطعام فى البيت طوال شهر رمضان، أرسل ممرضته إلى الخارج وجلس يتأمله طويلاً .. أصبح من الصعب تحديد ما إذا كان مستيقظ اأم نائما ، لم تعد هناك حدود بين المسميات لدى " العريان .. الموت والحياة ، الصحو والنوم ، الماضى والمستقبل ، الحرب فى سبيل تحرير الوطن من الأعداء والحرب فى سبيل تحرير الوطن من المواطن . نهنه وكأنه يتخلص من كابوس ما ولملم "تاج" من خلال رذاذ لعابه :
- قل لصاحبك الوسخ يا " تاج" إن مصر كانت لمدة يومين كاملين(2) بدون رئيس أو حكومة أو جيش أو بوليس ، ولم يكن فيها مسئول فى موقعه للدفاع عن أي شيء ، أو اتخاذ أي قرار ، قل له إن البلد كلها كانت منهارة حكاماً ومحكومين فلماذا لم يقفز أى "عنترة" مثله ويستولى على السلطة ويتولى الحكم ثم يذهب إلى ماسبيرو ويذيع البيان الأول مثلما فعلنا ، قل لصاحبك الوسخ يا " تاج" اللى مش مصدق انها ثورة أن هذين اليومين يعطيانها وإلى الأبد شرعيتها.
اقترب منه "تاج" أكثر غير مصدق قدرته على الاسترسال فى طرح فكرة بهذه الدقة ، بينما يخلط أحياناً بينه الآن وبينه عندما كان طفلاً أو بينه وبين "نسل شاه" أو بين " عارف" و"سلمى" ، وربما كان الوحيد الذى نجا من هذا المصير هو الدكتور " عبد الرحمن" الذى لا يلتبس فى ذهنه أبداً بشخص آخر .
قل لصاحبك أبو مناخير يا "تاج" أن الثورة منحته الاستقلال الوطنى والمد القومى والسد العالى والتنمية وكسر احتكار السلاح وباندونج و العدالة الاجتماعية ، قل للحافى ابن الحافية لو لم نكن هناك ماكان هو موجوداً الآن.
صاح " تاج" بصوت عال . حتى يسمعه ويقف عن استرساله لأنه سينتقل حتماً إلى سبه الآن :
يا"باشا" باقى على العيد ثلاثة أيام ، والحاجة "كمالة " اتصلت من السعودية وبتسلم عليك هى و"نسل شاه" ، هانت يا " باشا" كلها شهرين ويكونوا هنا.
"العريان " لم يمت بعد ، وأمام عينيه تمر الآن دونما شك جنازير دبابات مصفحة ،ورجال يسدون عين الشمس الحارقة وأفق صحراء سيناء ، قطعت أعضاء بعضهم ، وأكلت الرمال بعضهم ، وجن بعضهم ،وشهد بعضهم خيانة زوجته له ، وتفرغ بعضهم لحصد النياشين وسرد قصة حياته فى الفضائيات... فكر "تاج العريان" وهو ينهض متثاقلاً بعد أن سقط رأس أبيه على صدره لا يعرف موتاً أم نوماً .. ليس فى ذاكرته شيئ ناصع سوى الحرب .. هل جميع من حاربوا مثله لا يتذكرون سواها ؟ هل الحرب لا تعنى إلا الماضى ؟ ! وهو .. هل ترك لحمه يتكاثر هكذا حتى يتقاعد ويستريح تماماً من الحاضر مثل أبيه ؟!
تجاهل تحية سلمى فى الدهليز ناظرًا إلى الأرض ، فلقد عاهد نفسه أنه لن ينظر مباشرة فى عينيها ويصفعها على وجهها قبل أن ينتقم لها ولنفسه ، ملأ نصف الكنبة الخلفية لسيارته الـ"BMW "
وظل يطارد أفكاره طوال طريقه إلى دكتور " عبد الرحمن " ، عليه أن يمر فى البداية على " تريانون" "فحازم الصفتى " ينتظره هناك منذ عشرين دقيقة .. دمعت عيناه وهى تتأمل فى المرآة لغده الذى يتدلى أكثر يوماً بعد يوم وعلى أنوار لمبات الكبارى الخافتة ازداد اختناقه .. كم أحب القاهرة بفوضاها وقسوتها بضوئها الصاخب وسكونها فى الشتاء البارد ! كم أحب ناسها الذين يهيمون منذ مطلع الشمس وحتى غروبها فى أضخم عرض تاريخى للأزياء يمتد عمقه إلى خمسة عشر قرناً فتسير العباءة إلى جوار " البودى ستوميك" والنقاب إلى جوار البنطلون ساقط الوسط ، والحجاب إلى جوار صدر يسبح فى شيفون عمل فيه مقص " شانيل" ، والعمامة إلى جوار أحدث قصات الشعر وأحدث ألوان صبغاته .. يحب شكل الباعة الجائلين أمام الفنادق السبع نجوم ، وكم ابتسم لعربة كارو يجرها حمار ويعتليها هيكل بشرى يرتدى أسمالا ويحاول أن يسابق مرسيدس من أحدث طراز.. يحب مآذنها المتلألئة أو صلبانها التى تقطع فضاء الكبارى والطرق السريعة ، والأسواق المزدحمة التى تبيع وتشترى ما لا يخطر على بال بشر ، على أنغام مزيج عجيب من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن المستخدمة كموسيقى تصويرية لأحد الأفلام الأبيض والأسود و " شيال الحمول يا صغير.. شيال الحمول "(3)..الأصوات العالية وحماس الأجساد التى تشع ناراً لا تعى بعد ما الذى عليها طهيه بها ، القبلات المسروقة .. أيدى الذكور وهى تخمش أجساد النساء فى الزحام ، وتواطؤ الجميع على ألا يكون هناك أسرار وألا يزيح الجديد القديم بأية حال من الأحوال ، .. الصراخ الفجائى ، والضرب العفوى ، وسيل الشتائم الذى لن تستطيع فنون الأدب المعاصر ملاحقة مجازاته .. حفظ شوارعها شارعاً شارعاً عن ظهر قلب ، وصلى فى جوامعها وزواياها جامعاً جامعاً وزاوية بعد أخرى فى معظم الأحيان لوجه الله ، وأحياناً لكى يصطاد مجرماً من هناك أو ليكون فى معية صديق أو قريب فى صلاته ..ابتسم كثيراً للحفاة وهم على أبوابها يبحثون عن مقاسهم فى أحذية المصلين ليسرقوه .. وفتح رئتيه عن أخرهما أمام نيلها يعب من هواء له مذاق حلو ملوث بالطمى والغبار ، ضاجع فى أزقتها عاهرات شعبيات منحنه بضعة ليال من ألف ليلة وليلة وحمى كنائسها من الذقون المسعورة ، يعرف كل بار من باراتها وكل أثر من آثارها وكم ربت على جدران بيوتها القديمة التى دخلها مقتحماً لمطاردة المجرمين وهو يدعو لها بطول العمر ويعرف أنها تقف على بركة من أثار أجداده تعود لآلاف السنين وفى مواجهة إعلانات النيون الماجنة ..كم وقف فى مداخل لوكاندات عتبتها الرخيصة التى تعج بآلاف القوادين والمومسات والنصابين والمسجلين خطرا ومرضى أقاليم الصعيد ، والذين غالباً ما تنتهى قصص حيواتهم على مكتبه ومن مكتبه لصفحات الحوادث .. ينتظر رجاله الذين أرسلهم للقبض على أحدهم بينما يستمع إلى تداخل جمل الوعاظ الغاضبة مع التأوهات الأيروتيكية للمغنيات الجدد ، كم جلس على مقاهٍ فى مناطق هربت من كل تصنيفات علماء الاجتماع وظلت مغلقة على خصوصية لا يستطيع أحد وصفها ، وراهن نفسه مراراً وهو يتابع جموعها أن يستطيع تحديد من منهم أمين الشرطة ومن البلطجى .. من الطالب ومن تاجر المخدرات .. من المطرب ومن الواعظ .
قال له " حازم الصفتى" بعد أن أعطاه التمام بأن كل شىء جاهز يا افندم .. إنه مشفق على " عمر الجوهرى " الذى غرق هذه الأيام تماماً فى السعى خلف تحقيقات القسم الجنائى والنتيجة الصادمة التى توصلوا إليها بأن قاتلها مأجور ، تجده طوال الوقت جالساً على قائم كفتى ميزان هل ينسب القضية إلى المشعوذين أم الارهابيين ؟ قالوا ..ان الأعضاء التناسلية يجب أن تتوفر للمشعوذين لتكتمل طقوس فتح المقابر الفرعونية ، و" عمر الجوهرى " يتتبع الآن .. على باب أية مقبرة مؤهلة للنهب يمكنه إيجاد شفتى عضوها ؟ إنه أيضاً يطارد وحش الإرهاب الألكترونى الموزع على آلاف المواقع بشبكة الانترنت ، يتتبع موقعاً اليوم فيختفى ويظهر غداً بشكل جديد وعنوان جديد ، يصرخ ويخبط الحائط بكفه :
- أولاد العاهرة يعطون أوامر التنفيذ لبعضهم البعض فى غرف الدردشة الإلكترونية ، وعلى رأى " تاج العريان " .. تف على قبرى لو عرفت تنفيذ الحكم فيها انتقل بأية كلمات أو أرقام أو حتى نكت جنسية وممن إلى من .
هز " تاج " رأسه وحرك شفتيه بلا صوت .. لقد نسى " سلمى " تماماً ، إنه لا يعلم حتى أنها كانت على وشك الانتحار ، هل اعتبرها مثلاً حشرة سحقها بحذائه وهو فى طريقه دون أن يدرى ؟
وقف أمامهما سائقه وهو يقول : اتفضل يا " باشا" . كان
" تاج" قد أرسله ليشترى " لاب توب " أحدث طراز من شارع عبد العزيز بشرطين ..أن يكون مسروقاً وألا يعلم البائع أبداً من سيشتريه، وأن يدفع فى سبيل تحقيق هذين الشرطين أى مبلغ .. لم يعد سائقه بعد خدمة عشرين عاماً فى بيت "العريان" يندهش من أوامر " تاج"التى تبدو له دائماً غريبة ، سلمه الجهاز فأعطاه لـ " حازم الصفتى" ونهض متثاقلاً وهو يهمس له :
- ساعة الصفر مدفع الافطار ليس قبل ذلك وليس بعد ، تمام يا"حازم".
- تمام يافندم .
تمتم بينما يغلق باب السيارة :
- ربنا يستر.."عبد الرحمن"وهو صائم لا يمكن أن تتصور الشياطين رد فعله.
غاب " تاج " تماماً فى اللوحات المستنسخة التى علقها " عبد الرحمن" على حوائط حجرة الكشف لـ " مودليانى " وفقط لـ" مودليانى " ، فتح عينيه عن آخرهما لتبتلع طول شخوصه .... أذرع تمتلىء باللحم أكثر من الأفخاذ .. أعناق طويلة مساوية للجذع تماماً وأعضاء تناسلية هى مجرد مثلث للأنثى ومثلث منحرف للذكر .. عقود وأقراط و أساور أفريقية وشوارب مهذبة على عرى أخاذ .. أثداء نساء مجردة إلى كرتين ..عيون مطموسة مقوسة مشوهة تقترب من بعضها البعض أحياناً أو تقترب من أعلى الرأس أحياناً أخرى أو تعطى أنطباعاً ما بالحول فى أغلب الأحيان وهى بالطبع منزوعة الجفون والأهداب والنظرة ... وجوه بيضاوية مستطيلة وأنوف مشرعة تكاد تخترق بطولها قماش اللوحة .. أفواه صغيرة وآذان أصغر تكاد تختفى مع كل هذه الاستطالات والدوائر وكأن "مودليانى " لا يعترف بضرورة تواجدها ، حمد " تاج" الله أن "مودليانى " هذا مات وإلا كان رسمه هكذا .. هو الذى كاد يقتل نفسه عندما رأى لحمه المتهدل حوله فى مرآة الملاهى التى حرفت أبعاد جسده .
قال ببطء وهدوء على عكس ما توقع " تاج" :
- انت إيه يا " تاج " ما بتحرمش ؟ انت لسه ما شبعتش من اللى أنا عملته فى معارفك كلهم ..يا أخى أمتى ها تصدق إنى مختلف عنك وعن أصحابك،
ثم أنا باكره " عمر الجوهرى " ده كره العمى ، وبعدين بصراحة يا "تاج" أنا بانصحك ماتروحش العزومة دى فيه حاجات انت ماتعرفهاش.
اقترب منه " تاج" وهو يداعبه متوسلاً مربتاً على صدره كالأطفال :
- علشان خاطرى يا " عبدو" مش ها تندم والله .
ثم بنبرة انتصار خفيفة :
- ثم ازاى يا راجل تقول لصاحبك الوحيد ، واللى بيشتغل ضابط .. حاجات ما تعرفهاش .
كان يعلم أن " عبد الرحمن " يعمل طوال سنوات على إنجاز مخطوط ضخم ملغز...لم يسر له بموضوعه مطلقاً .. بل كان يخفيه على الفور إذا ما لمحه يبحلق فيه بفضول ، رمقه من بعيد رابضاً على مكتبه .. يبدو أنه كان يكتب طوال الليل .. تمنى أن ينسى وضعه فى الدرج وهو يراقب استعداده لدخول الحمام حاملاً على يديه بيجامة نظيفة ، بينما يبرطم بالهدوء نفسه جملاً يحفظها " تاج العريان " جيداً .. أنا قرفت من صحبتك دى والله .. انت يا " تاج " عامل زى المصيبة بتنزل دائماً فى أوقات غير مناسبة .
جلس أمام المخطوط المكتوب بقلم أسود UNIBALL، والمتروكه هوامشه الضيقة البيضاء بانتظام مثير للدهشة .. تميل حروفه الانجليزية تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف ، من الملاحظ أنه كان يضغط على القلم بعصبية حتى كاد أن يثقب الورق .. قليلة هى الكلمات المكشوطة أو المصوبة أو الفراغات التى تتخلله .. ما الذى يجعل الدكتور " عبد الرحمن " يكتب بخط يده ولا يستخدم الكمبيوتر الذى لا يتعامل كتابة إلا معه ؟ إنه لم يره يكتب شيئاً بخط يده أبداً إلا
روشتاته الطبية ، حاول أن يحفظ عنوانه
The atass unchanging of sex befot and after islam.h (4) ولكنه بعد أن سمع صوت الدش من بعيد ، وتأكد أن " عبد الرحمن " تحته نقل العنوان .. الكلمات التى استطاع ترجمتها والتى لم يستطع على روشته من دفتر روشتاته وطواها فى جيبه على عجل، ولأنه لم يزل لديه وقت أخذ يقلب فى الصفحات ويتأملها طويلا وكأنها ستسر له بالإجابة عن تساؤله .. لماذا يضيع المرء حياته لكتابة بضعة أوراق؟!ً .. يقطعها أحياناً بعض الجداول والاحصائيات الممتلئة بنسب مئوية وعلامات عشرية ورسوم بيانية ، مرت عيناه على بعض الكلمات التى تعرف عليها من عناوين بعض الفصول مثل /narrowness( )/RIGIDITY( ) ) / imeaturity( )/حتى توقفت عيناه أخيراً على هامش أسفل الصفحة مكتوب بخط " عبد الرحمن الردىء حين يكتب باللغة العربية .. // فى ترجمة المهدى لوفاته هذه السنة ذكر عيسى بن دأب قال : كنت يوماً عند الهادى إذ جىء بطست فيه رأس جاريتين قد ذبحا وقطعا لم أر أحسن صورا منهما ولا مثل شعورهما وفى شعورهما اللآلىء والجواهر منضدة ولا رأيت مثل طيب ريحهما ، فقال لنا الخليفة : أتدرون ما شأن هاتين ؟ قلت لا ، فقال إنه ذكر أنه تركب إحداهما الأخرى يفعلان الفاحشة فأمرت الخادم فرصدهما ثم جاءنى فقال : أنهما مجتمعتان فجئت فوجدتهما فى لحاف واحد وهما على الفاحشة فأمرت بحز رقابهما ثم أمر برفع رؤسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الأول كأنه لم يصنع شيئاً //(5 )

ظل " تاج " بعينين لا ترمشان يعيد قراءة الهامش دون توقف حتى أنه لم يشعر باقتراب " عبد الرحمن " منه ومشاركته التطلع لما يقرأ عبر كتفه ، أجفل وهو يزيح يديه عن مخطوطه ويصفقه مغلقاً اياه ويطبطب على ذراعه بازدراء لينهضه من على مكتبه :
- من فضلك يا"تاج".
وضع مخطوطه فى الدرج وأغلق عليه بمفتاح يظل فى ميدالية مفاتيحه ، ولم ينبس بعدها بكلمة واحدة ، حتى أن " تاج العريان " لم يصدق نفسه وهو يجلس إلى جواره ، فتنحنح حتى يخفى الخجل الذى غطى صوته تماماً وقال لسائقه :
- المعادى ..بيت "الجوهرى" .
بالضبط بعد خمس سنوات وستة أشهر ويومين ستفاجىء " سلمى " الجميع بنشر هذا المخطوط الذى استولت عليه بعد موت الدكتور " عبد الرحمن " باسمها بعد ترجمته إلى اللغة العربية وتغيير عنوانه ، وستتم بالطبع على الفورمصادرته ، وسيظل المتشددون من المنتمين للجماعات الإسلامية يولولون على منابرهم مطالبين برأسها ، وسيظل الصحفيون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يملئون مئات الأعمدة فى عشرات الصحف يقلبون سيناريوهات مختلفة لمؤامرة عظمى على هذه الأمة مؤكدين أن هذه الباحثة الشابة قد قبضت دون شك الثمن من جهة ما ، ولكن أحداً لن يفند أبداً ما احتواه الكتاب أو يتحاور معه ، ولن يعرف القارىء العربى أبداً ما هى القضية التى طرحها بالضبط هذا الكتاب!، بالطبع لن تؤلف "سلمى" ولن تنشر مطلقاً سواه، وستظل كلما أثير كلام عن حرية الرأى والتعبير أو عن أشهر الكتب التى تمت مصادرتها خلال القرن الحادى والعشرين تتربع على كرسى يطل من الشاشة الصغيرة وتثأثىء بأن هذا المناخ أصبح غير مؤات لتأليف أعمال جديدة أو للبحث العلمى أو الاجتهاد أو الابداع ، سيخاصمها "تاج العريان " شهرين، وسيخاصمها "عارف" سنتين وعندما يعود لمحادثتها تلبية لرغبة أبيه وضعفه أمام رؤية أولادها ، سيظل إلى أن يموت يذكرها أمام زوارها ومعارفها وزوجها وأقاربه بأن فى كتابها خطأ واحدا عليها تصحيحه ألا وهو كتابة اسم مؤلفه الفعلى بدلاً من اسمها .
أرسل "حازم الصفتى" بينما يضىء الفضاء دعاء الشيخ
"سيد النقشبندى " خمسمائة رسالة الكترونية تحتوى فيلماً مدته ثلاث دقائق لعناوين إيميلات وموبيلات حصل علي بعضها من " تاج العريان "، ومعظمها لأشهر مواقع البرامج الفضائية الحوارية وصحف المعارضة ، والباقى من ذاكرة كومبيوتر " عمر الجوهرى" نفسه .. بنص واحد فى نهاية البث ..أدعوك لمشاهدة حلقة اليوم من برنامج "على نار هادئة" فى السابعة مساء وأضمن لك متعة فائقة لن توفرها المسلسلات الرمضانية .

على مائدة إفطار " الجوهرى " ظل " تاج" ينتظر رنين تليفونه بالجرس المميز للرسائل وهو ينظر إليه من آن لآخر بابتسامة متوترة هى نفسها التى تتطلع بها امرأة إلى باب تنتظر أن يدخل منه حبيبها ، وكما توقع تماماً انشغل الجميع بالإفطار وبمجرد أن توالى رنين تليفونات جميع الحضور حتى ردد " محمد الجوهرى " مطمئناً إياهم :
- كل سنة وانتم طيبين.. أكيد الكل بيهنىء بالعيد .
انضم إليهم " عمر الجوهرى " بعد ربع الساعة من انهماكهم فى الطعام ، نظر إلى الدكتور " عبد الرحمن " و"تاج" شزراً ولكنه حيا الجميع بأدب ، مرت الدقائق العشر بعد السابعة على " تاج" كما يمر قرن ، ظل بنصف عين يتابع "عبد الرحمن " المنزوى على مقعد فى الفراندا يتأمل النيل ويدخن عدد السجائر الذى لم يدخنه طوال النهار ولا يشارك ولو بكلمة واحدة فى أحد الحوارات إلا إبدائه الإعجاب بأصناف الطعام وخاصة الملوخية ، نفد صبر " تاج " .. إن زمن البرنامج ساعة يقطعها عدد لا بأس به من الإعلانات ، ولم يتحمس بعد أحد من الحضور الذين قرأوا الرسالة مابين صلاتي المغرب والعشاء لأن يلبى مشاهدته .. كاد " تاج العريان " أن يفقد الأمل تماماً ويقوم بتصرف أهوج كالمرأة التى تيقنت أن حبيبها لن يأتى ، والحفل الذى تنتظره فيه أوشك على الانتهاء .. لا شىء يعوى فى الخلفية إلا أصداء المسلسل الكوميدى .. فجأة دخلت حرم" محمد الجوهرى "مهروله وهى تكاد تغطى بجسمها ابنها المنزوى أمام الشاشة ببلادة وتصرخ .. الحق يا " باشا" ، خرج خلفها وانتظر " تاج" أن يلحق بهما "عمر" ولكنه ظل كما سيظل بقية حياته بعد أن يتم إيقافه عن العمل ومثوله أمام عسكرية هو وعساكره الذين شاركوه فيما فعل جالساً متسمراً على كرسى منتظراً أن تقترب منه ولو ذبابة صغيرة كى يفعصها ، بينما لا يرى أمامه على مدى الشوف إلا جملة واحدة .. القضية 237 لسنة 2006 / نيابة عسكرية ، لم يجد " تاج" بداً من الاقتراب وخطف الريموت من أمامه ، فدوى فى قاعة الاستقبال التى سادها الهدوء فجأة صوت المذيع وهو يصرخ بحرقة ميلودرامية والدموع تكاد أن تطفر من عينيه ولولا أنه ألثغ فى حرف الزاي الذى يحوله إلى سين لنافس " يوسف بك وهبى" : ماهذا ؟ هل نحن فى غابة ؟ كيف سولت له نفسه أن يتجبر إلى هذا الحد ؟ هل حقاً يحدث هذا ونحن فى القرن الحادى والعشرين ؟ أعزائى المشاهدين إننى أكاد أختنق من الغيظ .. وكان على وشك أن يجهش بالبكاء وهو يقول : وحتى أستطيع التقاط أنفاسى مرة أخرى ، سأعرض عليكم .. على ضمائركم مرة أخرى هذه الكارثة.. هذا الفيلم غير الأخلاقى القصير ..
يقف " عمر الجوهرى بملابسه المدنية ووجهه البيضاوى وشعره اللامع المصفف بالجيل..على عينيه وضع المخرج مستطيلاً يشبه العصابة السوداء .. كان قد فتح سوسته بنطاله وتدلى عضوه مثل موزة محتقنة فاسدة ولكن المخرج وضع عليه بالطبع مثلثاً أسود يغطى أيضاً حركة يد "عمر" وهو يمسكه ويلوح به مهدداً " أحمد عواد " الذى يقعى فى حالة ذهول تحت قدميه ، بينما يردد هو بصوت عال :
- "أنا بقى يا روح أمك بتاع رجاله مش بتاع نسوان"
تغطى قهقهات العساكر على صوته ، ويندفعون وهم
يحاولون تجريد " أحمد عواد " من بنطلونه وهو يقبل أقدامهم جميعاً ، فيوقفهم " عمر الجوهرى " وهو يلتقط أنفاسه من الضحك :- كفاية كده النهارده ، ويغلق بحزم سوسته بنطاله بينما المثلث الأسود يتأرجح حتى يختفى فى النهاية .
نقل " عبد الرحمن "الذى تابع الفيلم من باب الفراندا عينيه من على الشاشة إلى وجه " تاج" الذى رأى بالطبع هذا الفيلم مراراً والذى كلف " حازم الصفتى " أن يصوره بهذا النقاء بتليفون محمول من أحدث طراز مسروق اشتراه له سائقه من شارع عبد العزيز ، والذى لا يستطيع الآن رفع عينيه عن وجه " عمر الجوهرى " المتسمر فى كرسيه وكأنه صعق بالكهرباء ، فارتخت شفتاه وحاجباه وذراعاه وتمددت أمامه ساقاه .. أصاب الحضور كلهم ذهول وصمت لم يقطعهما إلا صرخة " الجوهرى" الكبير الملتاعة : كذب ..افتراء والله كله كذب وافتراء.
أنهض " عبد الرحمن " "تاج" من كرسيه وهو مازال
يحملق فى وجه " عمر" البائس بابتسامة متشفية ، دفعه بازدراء دفعاً حتى خرجا من الباب ، وبجسده الضئيل أجلسه فى السيارة بعنف وهو يصرخ فى السائق أن ينطلق ، ثم وأمام ابتسامة " تاج" الغريبة والتى أصبحت بلهاء تماماً جز
على أسنانه حتى يحد من صراخه :
- تتم جرائم القتل هكذا يا" تاج" .. ألا ينسحب فى الوقت المناسب أحدهما.. القاتل أو المقتول .. ألم يعلمك أحد هذا ؟
وأمام عيادته قال للسائق بهدوء :
لا أنا معاه الليلة دى . على بيت " العريان " . ثم همس فى أذن " تاج" :- انتقمت !! انتقمت يا " تاج" ! وقطعت على "سلمى" طريقاً كان سيجعلها إذا مشت فيه للنهاية كائناً محترماً .
تركه ملقى على سريره بملابسه وقد انطلق شخيره بعد ثوان من فم ترتسم عليه ابتسامه راضية .. كان آخر ما تفوه به وهو يرد على محموله.. كله تماماً يا حازم .. اتخلص حالاً من المحمول واللاب توب .
حاول أن يدخل حجرة " محمد العريان " ليجلس إلى جواره قليلاً ولكنه وجد طبيبه وحفنة ممرضات يحاولون جاهدين انقاذ احتضاره الطويل من نهايته .
طرق باب " عارف تاج" وجلس بهدوء صامتاً أمامه ..
كان غارقاً إلى ما لانهاية فى تساؤله .. هل سيتورع " تاج العريان " عن أن يرسل لابنته فيلماً قصيراًً مدته ثلاث دقائق لن يضع عليه أى مخرج عصابة سوداء على العينين أو مثلثاً يتأرجح على عضو مرتخ لرجل ظلت تحبه طوال سنتين ؟! وكان " عارف " غارقاً فى تأويل تصرفات " نفرت جاد" الأخيرة التى صارت مثل تصرفات عروس برمة ..شبعت من ألعاب الفراش وتود الآن مثلاً أن تذهب إلى الكوافير لتصفيف شعرها المهوش أو انجاب طفل أو السهر فى حفلة ما وهى تتأبط ذراع زوجها متباهية أو الذهاب لرحلة طويلة تعود منها بحقيبة هدايا .. تقترب منه بفتور فى بداية الليل وبعد أن يشعل جسدها وتمتص نيران جسده تنسحب بالفتور نفسه وهى تتلفت بالفزع الأول الذى داهمته به إلى ما ورائها .. ينظر إلى قاتلها ذى النقاب ويقبلها طويلاً ولكنها تتركه بتقطيبة عروس قررت أخيراً تنغيص حياة زوجها لأنه لا يفهم ما لا تستطيع شرحه له .
يبدو أن الدكتور " عبد الرحمن " يتحدث إليه منذ فترة طويلة .. ربما عن فكرة تجاوز كل شىء منذ بدء الخليقة وحتى الآن .. كان يجرب تركيب الجمل ليؤكد أنه لا يزال يوجد إنسان ما فى مكان ما يعيش كما يعيش الإنسان فى لحظة خلقه تماماً .. أى أن هناك رجلاً عمره يوم واحد ورجل عمره آلاف السنين ، وأن لا شىء يموت أبداً ولا تحترق مرحلة إلى ما لانهاية ، وأن كل ما حدث منذ بدء الخليقة وحتى الآن ليس مسجلاً فقط فى مكان ما فى السماء عند الله وإنما أيضاً مسجل على الأرض ولكننا لا نرى ... ربما كان يقص عليه أن قبيلة "موكاك ماكو" فى جبال الأمازون بكولومبيا لم تسمع عن العالم المتحضر ولم تتصل به إلا منذ عشرين سنة فقط وأن العلماء اكتشفوا قبيلة برازيلية تدعى " البيراها " لم تتصل بالعالم إلا منذ مائتى سنة فقط وأنها ليس فى لغتها بعد مفردات الحساب ولا الألوان ولا الوقت ولا مفهوم النسب وبالتالى القرابة ، وأن الفرد ربما كان يحمل داخله خريطة بالغة الدقة بتاريخه منذ بدء الخليقة وحتى الآن ، وأنه ربما يعود تميز الأفراد عن بعضهم البعض إلى تغلب عدد سنوات فى قرن ما من مئات القرون على عددها فى قرن آخر .
انتبه عارف بكل حواسه ، وماتت فى حلقه صرخة ، بينما يتابع الدكتور " عبد الرحمن " إشعال سجائره بهدوء وكأنه لم يقلب تواً حياته رأساً على عقب ، ولم يجتز كابوسه الدائم من جذوره ..ماهى قصة الفيلم الذى يمكنك تصويره إذن يا عارف ؟ ماهى القصة التى تستطيع استيعاب كل هذا القبح لتحكى مصرع ملكة الجمال ، وكيف ستجد قاتلها .. لا شىء يمنع أى أحد ليكون قاتلاً .. لأنه فى الحقيقة لا يوجد سبب وحيد يجعل إنسانا يقتل آخر .. فقط يستحيل أى شخص (المحارب واللص والفنان والأم والأبن والحبيب وحتى الفكرة ) إلى قاتل إذا تغلبت عليه اللحظة القابعة فى تكوين خريطة وجوده .. تلك اللحظة التى قتل فيها قابيل هابيل ، لقد أصبحت معادلة الجريمة ضيقة عليها فالقضية أكبر من أن الجريمة =

حاصل جمع النزاعات + موقف ما ( *)
المقاومه

وانتفض مستدركاً.. آه والدكتور أيضاً ، فأنا لو لم أكن معك وقت ارتكاب الجريمة يا " عارف" لظننت أننى قاتلها وهكذا سيفكر كل من انتابته حسرة انتهاكها .. كل من ظن أنه كان عليه حمايتها بشكل أو بآخر .. كل من يريد قتل قاتلها فقط لكى يستخدم هذه اللحظة المحفورة فى تكوينه ولو على مستوى الخيال .
إذن لقد كانت تمهد لانسحابها . لن تظهر له مرة ثانية .. نعم لقد ذهب إلى عيادته بعد مقابلة " ميرنا " فى "المينا هاوس " .. يتذكر الآن أنه حدثه عن خوفه من الزواج وأنه يحبها وأنه يريد بناء مستقبله الفنى أولاً .. يفهم الآن لماذا سقط هذا المساء من ذاكرته تماماً فالاختيار بين ميرنا والسينما كان صعباً للغاية ، ولكنه لن يفهم إلا بعد عشرين عاماً سبب اختيار " نفرت جاد " لمداهمته فى فراشه هو تحديداً دون سائر الرجال !
سيجلس تحت شجرة فى النادى ليستمع إلى ثرثرة امرأة عجوز مع " ميرنا " حول شعره الذى ابيض تماماً وهو يلاحق أفكاراً تصلح للسينما وسينتبه وسيبتلع صرخته والعجوز تؤكد " لميرنا " أن زوجها هذا كان أكثر وسامة من كل نجوم الشاشة آنذاك وأنها تابعته منذ ما يقرب من عشرين عاماً عبر نافذة الاسكواج من هذا المكان – وأشارت بأصبعها نحو الأشجار – وأنها انتبهت لفتاة جميلة تقف إلى جوارها وتتابعه بوله وهى غائبة عن الوجود حتى أنها لو كانت فى يدها برتقالة وسكين لأغرقت النافذة بدمها ولكنها بعد أيام بالضبط قتلت .
هل تتذكرونها إنها .." مس إيجيبت".
همس بإجلال وكأنه يردد إسمها خلف هذه المرأة كما سيردده بعد عشرين عاماً .." مس إيجيبت "، وابتسم فى وجه " عبد الرحمن " الذى ظل يصيح كطفل جائع : ياساتر على ملل البيت ده . أنا عايز أتسحر . انتم ها تسحرونى ولا
إيه . يا ابنى الإمساك قرب .
تطلع إلى ضحكتها الخلابة التى تحتل نصف الجدار أمامه بينما تنفرج الستارة ببطء عن وجه قاتلها الوسيم.