أمجد ناصر يعمل على توريط القارئ في السؤال والخلاصة والاستنتاج،
2008-12-16
في ما يشبه الوقوف العاري أمام ذاكرة جرداء، للوهلة الأولى، يتصدى أمجد ناصر كشاعر يقيس حياته بمازورة الشعر، لحالة تكتنفه منذ أن كان صبيا، وهي حالة الشعر، ذلك المحرك الخفي الذي يتحرك دوما تحت المستوى العلني والمباشر ليؤسس بصاحبه منزلا ليس أكثر من شرفة ولا أقل من ملجأ. حياة أمجد ناصر الشعرية، وهو افتراض أنها جزء واضح من حياته الكلية، يبررها الشاعر في كتابه "طريق الشعر والسفر" الصادر حديثاً عن "دار الريس للكتب والنشر". بل يتجاوز ذلك الى توريط القارئ (وهو توريط طوعي) في السؤال والخلاصة والاستنتاج، تاركا كل ما يتعلق من هموم شعرية بكفة تتعادل وكفة ذلك الفراغ أو الاندهاش الذي يرزح تحته هذا القارئ. الكتاب في مجمله توثيق (أو بيان) لشهادتين قدِّمت احداهما في مؤتمر الشعر الأردني صيف 2002، أما الثانية (وهي شهادة تقنية في كتابة النثر) فمقدمة الى مؤتمر قصيدة النثر الذي عقد في الجامعة الأميركية في بيروت أيار 2006. الشهادتان ليستا أكثر من متمم الواحدة منهما للأخرى، وقد يبدو جليا أن الشاعر وإن أغلق شهادته الأولى عام 2002 الا أنه يبقى مقيدا بذاكرة متوترة تدفعه نحو مزيد من الافصاح أو الرغبة في رفع الغطاء الثقيل عن هذه الخصوصية التي قلما عمّمها شاعر أو رغب في أن يشاركه أحد ما فضّ بكارتها. هذا ما يدفعه كي ينحو في قالب عالي الجمالية، نحو شهادته الثانية، والتي لفرط انسيابها الهادئ وسلاستها في استعراض اللحظة الشعرية، تأتي متماسكة ككتلة تجرّك وراءها نحو الاستكشاف في الجدال الذي كان قائما حول كيفية قصيدة النثر. كما تشعرك بأنك نجحت أخيرا - ولو بشكل مفتوح دائما أمام رأي آخر- في إزاحة الغمامة التي تكتنف الشعر في مفهومه وتأويلات أشكاله المتعددة، بعيدا من ناظريك. تلك الغمامة التي تعرف كقارئ، لحظة انتهائك من قراءة الكتاب أن شيئا ما تبدل، توضح أن كل الضجيج الذي ظل يسود قصيدة النثر منذ قرابة الثلاثة عقود، قد قام أمجد ناصر للتو بترتيبه خارج شرط سياقه الزمني. هنا يكمن المفتاح. في الحساسية العالية التي يكتب فيها أمجد ناصر، وهي حساسية العقل أو عقلنة فكرة الشعر (بغض النظر عن محدداته نثرا أو موزونا أو حرا ... الخ) الى أبعد الحدود. والشاعر اذ يلعب في مطرح شديد الخطورة، ومحاط بكل أطراف الجدال السائد آنذاك، لا يتوانى لحظة عن اغفال أي ذرة من ذرات بناء ذاكرته الشعرية، وتقنياته الخاصة في الكتابة، مرفقا في كل مرة عاملا نضاليا (بشقيه السياسي المتحول والشعري المتمرد) أو عاملا سلوكيا (كاستعراضه لحظة انعتاقه في المسار المختلف عن ذلك العسكري المتجذر عموما بين أفراد عائلته حتى يصل الى اللحظة التي يجرد فيها الشعر من كل حيثيّ يدور خارج فلك الشعر نفسه. فلا يبقى من تلك العوامل سوى صراع - نضال الشاعر ضد شكل شعري نحو شكل شعري آخر مغاير، وهو نضال (اذا اعتبرناه هكذا في نهاية المطاف) لا يزال الى اللحظة هذه معاندا الاستكانة (ولو بوتيرة أخف في الوقت الحاضر) من وجهة نظر أمجد ناصر. يدل على ذلك استعراضه لبعض من أسئلة الناقد صبحي حديدي والشاعر محمد علي شمس الدين حول مجموعته الأخيرة "حياة كسرد متقطع" وحدود الشعر والنثر فيها. غير أن "طريق الشعر والسفر" هو استنهاض لذلك الكم من التفاصيل الهائلة، التي يستعيدها
الشاعر على أرضية متذبذبة، موحلة وقابلة للسحل الأوتوماتيكي، أو قل على أرضية مشككة في جدوى اعادة ترتيب مخزون الذاكرة، كما هو اختبار لمدى حياء هذه الذاكرة في وقوفها أمام ذلك العنف الشعري الذي طالما سعى اليه أمجد ناصر من خلال تفكيك ما كان يعرف بمتطلبات القصيدة، كالوزن والتفعيلة والموسيقى وغيرها، لينأى بها مجردة على بياض الورقة. وهو ما لم يصل اليه حتى هذا الوقت. أو هذا ما نستخلصه في نهاية المطاف. فإماطة اللثام عن كل أسئلة الشكل النثري للكتابة الشعرية تعني الى حد ما تثليجها بالكامل، أي تطويق العوامل التي تؤدي بالشعراء الى تطويرها. الكتاب هو أيضاً فعل اختبار لمستوى الانفعال الذي قد تصل اليه ذاكرة مرغمة على استنطاق كل ما هو مخبأ في جيوبها. لكنه استنطاق يعاند محاولة ناصر لايهامنا بأن الشهادة فعل له منطقه في اعادة ترتيب الواقع ليس انطلاقا من تسلسله الكرونولوجي بل من نظام الذاكرة بعينها. وهذا التشكيك يخسر تماسكه شيئا فشيئا وينهار بعضه مع كل قطبة جديدة يقدمها الكاتب، في ذلك الاسترجاع الطازج لحراكه الدؤوب لفتح باب جديد للقصيدة. فالقصيدة الهم الأول والأخير وهي ذلك البديل البالغ القسوة من ضجيج محركات العالم بشقيها البشري والمعدني. هذا ما يجعل ناصر يطرح ذاته الشعرية علينا وليس ذاته من المنظار الانساني وفلسفاته، غاضا الطرف عن كل ما له علاقة بالانفعال الانساني ودوره الأبرز في استيلاد شرارة النبت الشعري، وخصوصاً أن الشاعر جايل ما سمّي "حرب السنتين" تحت راية الأحزاب اليسارية اللبنانية والفلسطينية في محلة الفاكهاني، كما لم يستثنه ذلك الشعور بالفراغ ما بعد بيروت. والشاعر يكتفي بعرض مطارح كان صمت القصيدة لزاما عليه، ولا مفر من الخضوع له. لكن مع حرصه على دمغ هذا الصمت بأبعاد الشاعر اولا وأخيرا. وليس بأبعاد الكائن المأخوذ بالقصيدة كيانا قابلا بل واجب تطويعه نحو المغاير. غير أن تفتيت الكيان الشعري العام الى كيانات تسير على طريق مجاور لنضج الشاعر الزمني - الفيزيائي يؤدي الى تلاحمها مجددا في ذاكرة القارئ. وهو اذ يُمرّ لنا ذاكرته، على جرعات، فإنما يوحد بين كل تلك الكيانات صارفا الزمن الى فسحة مفتوحة، الأمر الذي يبرر تعمد الشاعر اغفال التواريخ. ما يغلب الزمن هو ذلك النضال من أجل مفهوم الشعر بشكل خاص، والجنوح في اتجاه تبديل احداثيات القصيدة، كل ذلك في خضم الايديولوجيات المطاطية التي كانت رائجة في ذلك الوقت.
"طريق الشعر والسفر" هو تقليب في ثنايا رأس أمجد ناصر الشعري، واستعادة جريئة لمناظير الشعر من جوارير يفوق عمرها الخمسة وعشرين عاما، اذ يفرد مساحة لا بأس بها للحديث عن القصيدة اللبنانية (يعني بذلك الشكل النثري للكتابة الشعرية الذي استحدثه شعراء لبنانيون بتأثر بالمدرسة الفرنسية بشكل خاص)، فيذكر بعض المشتغلين بها بل و"المؤثرين" بشكل فاعل، غير أنه يغفل البحث حول واحد من أبرز صانعيها وهو وديع سعادة (يأتي ذكره عرضا في الكتاب ولمرة واحدة فقط)، فسعادة من المؤسسين الأوائل لأحد أكثر الأشكال الكتابية جمالية، وهو المستحضر لنص لم يستطع الكثيرون التفلت من آثاره الى اللحظة هذه، وذلك باعتراف بعض أولئك "المؤثرين". على أي حال، فإن لهم دورا لا يستطيع أحد نكرانه في تطوير جسم نص النثر (اذا صح التعبير). "طريق الشعر والسفر"، وعلى الرغم من نظامه السلس في الاستعراض، وبراعة صانعه في تفكيك تعقيدات النظرية الشعرية، يبقى موجها في المقام الأول الى نخبة لا تزال تغامر باتباعها شكلا فنيا انحسر مؤيدوه، وهو الشعر، لذلك فهو كتاب نخبوي ومتخصص من حيث تكثيفه للجزء الشاعر من حياة الانسان أمجد ناصر، وتنتهي الطريق عمليا في بيروت، بعد انطلاق الشاعر من مهده، مدينة عمان، ونهاية الطريق مجدولة بأسئلة النثر، الذي يتورط الشاعر بشكل لافت في تبريره وتأطيره بتفسيرات شتى، أميركية أم أوروبية، قبل أن يتطرف في مناقرة (كي لا نسميها مناظرة) ما بين الشاعر نفسه والشاعر أدونيس، لكن من جانب واحد. فناصر يحيط بكل اجتهادات أدونيس ومحاولاته لمسوغ قصيدة النثر الوجودي، كذلك لا يسلم أنسي الحاج في احد الجوانب لكن ما يقال بحق هنا، هو أن جرأة أمجد ناصر في نقد أولئك الرواد لهي أكثر ما نحتاج اليه كي ننفض "دسكرة الغبار" التي لا تزال تكتنف زوايا عدة في مساحة وعينا الشعري لمفهوم قصيدة النثر، مما يمهد بحق لصنع مفاتيح جديدة لجيل القرن الحادي والعشرين، من الشعراء، لعبور أبواب لم يصلها أي شاعر من قبل..
مازن معروف
النهار/ بيروت/ الجمعة 12/12/2008
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |