'تاريخ موجز للمواطنية' لديريك هيتر
2007-10-06
الوجه الخفي للديموقراطية
يسعى ديريك هيتر في مؤلفه "تاريخ موجز للمواطنية" (دار الساقي)، أن يؤرخ للمواطنية التي اعتبرها تحدد علاقة الفرد، ليس بفرد آخر كما هي الحال بالنسبة الى الانظمة الاقطاعية والملكية والاستبدادية، ولا بمجموعة كما في القومية، ولكن بفكرة الدولة التي يكون فيها الاشخاص مستقلين ومتساوين في أوضاعهم الشرعية، وهو ما يولد فيهم الاحساس بالمسؤولية ويكرس إنتماءهم الى الوطن.
بالرغم مما يطمح اليه ديريك هيتر في مؤلفه الذي ترجمه كل من اصف ناصر ومكرم خليل، فإنه بتغاضيه عن ظاهرة المواطنية في الشرق، يكون قد حاد عن مبتغاه الذي عبّر عنه بقوله "إنه لم يصدر على ما أعلم، كتاب واحد يستعرض التاريخ الكامل للمبادئ والممارسات الخاصة بالمواطنية خلال مسارها التاريخي الكامل.
ومع ذلك، فلا يمكن فهم الظروف الحالية المحيطة بها والمناظرات حولها من دون معرفة الخلفية التاريخية لها، وبالفعل، فإن العديد من المؤلفات التي كتبت في شأنها تعلل موضوعاتها من خلال التلميح الى نظريات وممارسات ماضية. يسعى هذا الكتاب الى تأمين المادة التاريخية الاساس، من خلال السرد التحليلي بدءاً من زمن اسبرطة وحتى يومنا هذا" (ص 11).
يعتبر المؤلف أن من الغريب حقاً أن تكون إسبرطة المنشأ لفكرة المواطنية، التي نربطها الآن بشكل أساسي بفكرة الحقوق الليبيرالية النفعية، وممارستها وإجراء المناقشات السياسية المستفيضة. فصورة إسبرطة المعروفة غير جذابة وفق المنظور الحديث. وصفها أحد المختصين البريطانيين باعتبارها "دولة عسكرية وتوتاليتارية"، تُخضع السكان المستعبدين (الهلّوت) لسيطرتها بالترهيب والعنف.
مع ذلك ثمة اعتقاد راسخ بأن مشترعاً إسمه ليكور غوس وضع إطاراً لبنية من الاصلاحات الدستورية والاجتماعية والاقتصادية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، حيث أنتجت هذه الاصلاحات طرازاً مواطنياً، له عدد من الأوجه المتشابكة، جميعها اساسية لنمط المواطنية الاسبرطي، وهذه الأوجه هي: مبدأ المساواة، امتلاك جزء من الاراضي المشاعة، والاعتماد الاقتصادي على عمل العبيد، ونظام صارم للتربية، والتدريب، اضافة الى تناول الوجبات في موائد جماعية، والخدمة العسكرية، وميزة الفضيلة المدنية، والمشاركة في حكومة الدولة.
على خلاف المواطنية الاسبرطية فإن المواطنية الرومانية مرت بتطور تدريجي، أكثر مرونة من الحالة اليونانية، إذ أقام الرومان مواطنية من درجات متنوعة، وأتاحوا الفرصة للعبيد للتنعم بكرامة المواطن، ونشروا اللقب بكثير من السخاء للأفراد ولمجتمعات بأكملها، في الوقت المناسب، فتعدّوا نطاق المدينة، الى اقاصي "امبراطوريتهم العالمية". كما اتسمت المواطنية الرومانية بحسب المؤلف، بوجود توازن بين الواجبات والحقوق، وبوجود تمييز بين القضايا الخاصة والقضايا العامة أو السياسية.
تتمثل القضايا الخاصة في حقوق كالزواج من عائلات المواطنين الآخرين، وحق التعامل التجاري مع مواطن روماني آخر، وهي حقوق محرّمة على غير المواطنين، كما أن الضرائب المحصّلة من المواطنين كانت أخفّ من تلك المفروضة على غير المواطنين. الى ذلك، فمع انتشار المواطنية عبر أقاليم ما وراء ايطاليا وخصوصاً في الحقبة الامبراطورية، كان المواطن يتمتع بالحماية من سلطة حاكم الاقليم. على سبيل المثال، إذا وُجّهت أية تهمة الى المواطن، كان في إمكانه المطالبة بحقه في عقد المحاكمة في روما، وتتمثل القضايا العامة في ثلاث مسائل: الحق في التصويت لاعضاء الجمعيات والمرشحين للمناصب السياسية (كبار المسؤولين الرسميين كالحكام وكبار المسؤولين القضائيين)، والمشاركة في الجمعيات وتولي مناصب المسؤولين الرسميين، رغم أن التقسيمات الطبقية في الممارسة حالت دون مساواة حقيقية في الفرص.
مع حلول القرن الخامس بعد الميلاد كانت الامبراطورية الرومانية في الغرب قد انهارت، وبدأت تقوم على أنقاضها ممالك متفرقة، ومع غياب هذه الامبراطورية، لم يعد هناك مواطنية رومانية، إذ بالرغم من أن الامبراطورية بقيت في الشرق بشكل أو بآخر لكنها كانت تحت عباءة الأوتوقراطية البيزنطية. في الوقت نفسه كانت المسيحية تنشر معتقدها وهيكلتها الابرشية. هذا، تقريباً ما كان الوضع عليه بوضوح دراماتيكي بحسب ديريك هيتر، فالنظرة المسيحية الى الحياة مثلها مثل كل ديانة سموية، جاءت مختلفة بشكل لافت عن المعتقدات القديمة التي اثّرت في مفهوم المواطنية. كان القدامى يؤمنون بأن الحياة الفاضلة ينبغي أن تتبع في المجتمع الذي يعيش فيه المرء مع إخوانه. أما المسيحية فعلّمت، على العكس من ذلك، أن العالم الدنيوي فاسد ولا امكان لعودته الى الصلاح، فالحياة الصالحة على هذه الارض لا يمكن أن تكون الا تحضيراً تقريبياً وغير واف لحياة الآخرة الصالحة في ملكوت السموات.
مع مرور الوقت تحررت مدن ايطالية كفلورنسا من سلطان الامبراطور الروماني المقدس، ومن الاسياد المحليين العاديين أو الاكليريكيين التابعين له، واصبحت مجتمعات متضامنة صغيرة (كومونات) بسلطاتها السياسية والقضائية الخاصة والصلاحيات التنفيذية المنوطة بالحكام (القناصل)، واكتملت هذه العمليات في معظمها مع حلول القرن الثاني عشر.
يعرض الكاتب في مؤلفه مجمل آراء مفكري النهضة الذين تناولوا مسألة المواطنية، ومن بينهم في فرنسا مكسيمليان روبسبيير الذي قدّر له أن يجسد الثورة من خلال ابتكاره شعار "الحرية، المساواة، والإخاء" والتزامه العميق مفهوم روسو للارادة العامة ومثال الفضيلة المدنية.
يلقي المؤلف الضوء على مسألة بالغة الاهمية في الدولة الفيديرالية حينما يُهدد الانتماء الجهوي الانتماء الوطني بقوله: "ليست المحافظة على الهويتين المدنيتين التوأمين مسألة تدابير دستورية وسياسات حكومية فقط، بل تعود ايضاً، الى استعداد المواطن للتسليم بالولاء الفعال لكلتا الطبقتين: فالافراط في الحس بالولاء للدولة المركزية يضعف النزعة العاطفية للمقاطعة أو الولاية، كما أن العكس يقوّض مركزية السلطة للدولة نفسها. وفي الحقيقة، فإن قوة المصالح المحلية، وبخاصة حين تدعم بالتميز الثقافي والاتني، كان مؤداها، أن الحالة الثانية قد افرزت توتراً شديداً على سلامة وحدة عدد من الدول، في القرن العشرين، وهذا ما أفضى، مثلاً، الى اندلاع الحرب الاهلية في نيجيريا، والى تجزئة باكستان، والاتحاد السوفياتي، ويوغوسلافيا، والى أنظمة لا مركزية في دول اوروبية غربية بما فيها اسبانيا وبلجيكا والمملكة المتحدة".
وبعد أن يتطرق ديريك هيتر الى المواطنية في كل من كندا والولايات المتحدة يتساءل عن طبيعة المواطنية الاوروبية التي يعتبرها حديثة نسبياً وتطورت من خلال تأسيس حقوق الانسان الاوروبي، وتأطير المواطنية الرسمية للاتحاد الاوروبي من ضمن هيكلية مؤسسة بمعاهدة ماستريخت عام 1993. نتساءل بدورنا عن طبيعة المواطنية في البلدان العربية، أو بالاحرى عن طبيعة المواطنية في ظل "قطر" عربي
ميلود بن غربي
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |