الشاعرة العراقية رنا جعفر ياسين: لما ولدتُ وجدتُ أكداسا ً من الطلقات ِ في مهدي
2008-12-19
الشعرعندي هو اسلوب حياتي وطريقة تفكير
عبد الجبار العتابي من بغداد: كلما اقرأ للشاعرة رنا جعفر ياسين.. قصيدة، اردد مع نفسي: اي عذاب ينوء به هذا المخلوق الجميل، احاول ان ادخل ما بين السطور، فأجدني في فوهة حزن، وحين انصت اسمع دقات قلب مسرعة وتراتيل شجن ترن، ومن بعدها يردد الصدى ببطيء موجاته، وطالما تمنين ان اجد جوابا صريحا، من ذاتها، فهذه الشفافية التي اتخيلها لديها، اتخيل معها جرحا غائرا واحتراقا، لكنه لا ينفث ثاني اوكسيد الكربون، بل اوكسجين، هو اكسير حياتها، ومحفزها، وهذا ما جعلني اقطع (المسافات الاثيرية) لكي اضع اسئلتي على كفها واعود محملا بأجوبة اعدها شافية، هي الان بين ايديكم:
*من علمك الشعر، ومن منحك جواز المرور الى عوالمه كشاعرة؟
- المسألة بالنسبة لي كانت قدرية جدا، لم أخطط لأكون شاعرة، بل و لم افكر حتى بالشعر الا على نطاق المطالعة و الاستكشاف، و لكن في لحظة غريبة و بينما كنت استعد لأداء الامتحانات الجامعية في عام 2001 وجدت صوتا ينتفض في داخلي و يجبرني لأدفع اوراق المحاضرات جانبا بحثا عن ورقة بيضاء أدون عليها ما اختض في فكتبت للمرة الاولى نصا كاملا، هو موجود حتى الان و نشرته سابقا كان النص بعنوان ( اعتراف امواج البحر ) بعدها شعرت اني امام باب ينفتح بالتدريج و يبهرني بالضوء للكتابة و تقصي المجاهيل، و بقيت لسنوات اكتب و كان الشعر بالنسبة لي ملاذا آمنا للهروب من الألم و الاحباطات المتكررة. و المفارقة ان الناس عرفتني كفنانة تشكيلية بالرغم من ان التشكيل جاء ايضا بشكل قدري و مفاجئ، و لكنه أعقب الشعر و لكن توفرت لي الفرص للمشاركات التشكيلية و باحتكاك مباشر مع النقاد و الجمهور في معارض ( جماعة أفكار للفنون التشكيلية ) و التي تأسست في شهر آب 2003 في بغداد، و طوال هذه الفترة أنا اكتب و لا انشر القصائد حتى جاءتني فرصة المشاركة في ملتقى الكويت الاول للشعر العربي في العراق عام 2005 و الذي وقفت فيه مباشرة على منبر القصيدة امام كبار المثقفين العرب و العراقيين. اضحك الان و انا اتذكر تلك الحظات القدرية التي وضعتني في المواجهة و علمتني مسؤولية الابداع الحقيقي و التعلم من الهفوات.
* أي تأثير للبيئة على كتاباتك؟
- سأرد بمقطع من قصيدة: ( لما ولدتُ وجدتُ أكداسا ً من الطلقات ِ في مهدي / فكبرتُ أشهقُ بالدوي/ و خُطوتي الأولى كانت على آثار ِ قصفٍ في الجـِوار/ لم أكنْ أجزعُ من صفـَّارة ِ الإنذار ِ / و غاراتٍ تـُمزِّقُ بالقذائفِ صمتَ ذاكرةِ الطفولة/ لم تكنْ تـُرعبُني عتمة ُ جدران ِ النوافذ / لم أكنْ في حينها أقوى على سفكِ الحلم)، لمَّا كـَبـِرتُ وجدتُ حربا ً في ميادين ِ المدارس / ووجدتُ كمّا ً من حرائق و مشانق / ووجدتُ ذاكرتي تخونُ / كفـَّايَ تهربان ِ من مصافحةِ القدر / وجلدي قد تقيَّحَ من عويل ٍ واضطهادٍ وتعب / قدمايَ تلعنان ِ الوقوعَ في المسير ِ/ تذرعان ِ الهلاكَ / تجبرانني لأحملَ ما تبقـَّى من زجاجي كي أفرَّ من الحقيقة).
سلبتني البيئة قدرتي على تحقيق أحلامي الملونة و دفعتني لتصوير وحشية الاقدار حين تحاول سلبنا حياتنا و أصدقاءنا و ذكرياتنا و طموحاتنا، نهشتني قسوة الحرب مثلما نهشتني قسوة الموت، فصار الاثنان وجهين لكابوس واحد مازلت حتى اليوم احاول تنقية ذاتي من شظاياه الغائرة في الروح بغية الحفاظ على بقايا رومانسية حالمة لم تنبلج حتى الان، وأخاف عليها من أن تندثر في لوعات الألم..، لهذا اقتنص احيانا بعض لحظات الفرح العابرة و أحاول اختزانها في أحلام النص او اللوحة بانتظار القادم.
* ما الذي اسعدك في غابة الشعر وما الذي احزنك او احبطك؟
- الشعرعندي هو اسلوب حياتي و طريقة تفكير، انقب فيه مثلما اختار طريقة عيشي، فالشعر والحياة بالنسبة لي خطان متوازيان متلاحمان, لهذا وفي أحيان كثيرة أشعر بأني انتمي الى عالم اللامادة اكثر من وجودي الفيزيائي و هذا مرهق جدا و يعتبره الكثيرون اسلوبا شاذا للعيش، ولكني لا اجد نفسي الا هكذا واشعر بالسعادة على المستوى الشخصي، ولكن على المستوى العام يؤلمني الانقطاع المتنامي بين القصيدة و الجمهور، بل و عدم فهم الجمهور لكل التطورات التي عايشتها القصيدة الحديثة و عدم الفصل بين مفهوم الشعر و معنى القصيدة.. ومسؤولية هذا التقصير تقع على عاتق الجمهور والشعراء انفسهم ولكني مع كل هذا مازلت على قيد التفاؤل والحلم بأن أجد كتابا ًصغيراً في حقائب وجيوب العامة العابرين، عندها سيكون الشعر بخير تام.
* متى تنبثق شعلة القصيدة لديك ومتى تنطفيء؟
- أن أكتب يعني أني اتنفس، و لكن بالتأكيد هناك فترات من الانقطاع و عدم القدرة على الكتابة قد تكون احيانا ً بسبب الانشغالات او تكون طارئة اشعر فيها بالقحط فاستغلها للقراءة, في البداية كنت أتضايق من هذه اللحظات وأخاف، لكن فيما بعد تعلمت بأن هذا السبات يخمر أفكارا ورؤى جديدة وماهو الا شحذ للمخزون كي يخرج بشكل انضج و يكون فاصلا ً بين كتابتين يجب ان تكونا مختلفتين، وهنا اجد نفسي جائعة جدا للنص فأكتب.
* ايهما يبدأ لديك اقوى، هاجس الشعر او هاجس التشكيل حين تضج في نفسك فكرة ما؟
- لي افكاري وتعريفاتي الخاصة والتي جاءت ربما من اشتغالاتي في اكثر من مجال، ولهذا اعرف الشعر بأنه لحظة امساك ما لا يراه الاخرون، وهنا أقول لك بأن الشعر لا يقف عند حدود النص والقصيدة بل يتعداهما للتجسد في كل مجالات الابداع، والوقوف بين هاجس القصيدة و هاجس العمل التشكيلي ما هو الا انزياح وجداني و مشاعري في تلك اللحظة نحو احدهما، فليس هناك متسع للقرار بأيهما ابدأ بل الفكرة هي من تفرض علي الاختيار أما القصيدة وأما اللوحة.
* هل عانيت من صعوبات في الامساك بادواتك الشعرية؟
- لم تكن الصعوبة في امساك ادواتي التعبيرية، ولكن الصعوبة كانت في اختراق الوسط الادبي الذي مازال حتى هذه اللحظة في صراع الاشكال الشعرية وبشكل سطحي يبتعد عن مضامين النص وتحولاته المهمة التي شهدتها القصيدة على مستوى العالم اجمع، و اكتشفت تشبثا ًساذجا بالراسخ والمستورد وعدم القدرة على فهم واستيعاب الطروحات الجديدة التي علينا ككتاب عرب ان نطرحها او نبحث عنها لحراك ثقافي يواكب التحولات الحياتية و الفكرية، ربما لهذا قررت ان انتهج لنفسي خطا مغايرا ً لا يتبع السائد ولا يتعكزعلى الجاهز كما ولا يعبأ بالعواصف التي يطلقها السطحيون.
* الم تخشي سطوة الشعراء الرجال؟
- لا.. بالعكس، المشكلة أن (سطوة الشعراء الرجال) هي فكرة سائدة نغذيها بطرحها المستمر دون أن نبحث في المشكلة ونجد اسبابها ونضع لها الحلول لنطبقها على ارض الواقع، المرأة هي المسؤول الاكبر عن هذه المشكلة و هنا لا اقصد التعميم و الاطلاق و لكن بعض النساء لا يملكن القدرة على الدفاع عن نتاجهن ومحاولة البحث عن التميز و المغايرة لخلق نتاج ابداعي يوازي قدرتهن على الخلق و الاكتشاف، كما وأن هذه المشكلة ايضا هي ابنة المجتمع الذي مازال يرزح في أغلب جوانبه تحت لواء الذكورة و القبلية، بالنسبة لي أرفضها جدا وتستفزني دائما لكسرها، وادعو النساء الى التحليق بابداعهن خارج فكرة الادب النسوي الذي اراه تصنيفا ظالما للعمل الابداعي الذي عليه الا يخضع ابدا لتاء التأنيث.. وربما فكرة النص المطلق التي طرحتها جاءت ردا على استفزاز احد الشعراء حين قال لي بأن نتاج المرأة لايرتقي للمقارنة بنتاج الرجل لانه غير صادم، وأدين له الان بالفضل لأنه دفعني للبحث عن نمط كتابي جديد و مغاير بل ايضا حفزني لمحاولة تطبيق هذا النهج في اشكال ابداعية اخرى.
* ما الاسباب وراء قلة الاصوات الادبية النسائية، وما رأيك بالمشهد الادبي النسوي الحالي؟
- هناك اسباب كثيرة، منها ما تحدثنا عنه من فكرة سطوة الرجل و قلق المرأة احيانا من المواجهة وايضا عوامل اجتماعية متزمتة، هذا على المستوى العربي، وفي العراق مع هذه الاسباب تنوجد الفوضى العارمة المتزايدة في كل يوم و تحاول الحد من نشاط المرأة الابداعي.
* ما الذي اخذه الشعر منك وما الذي أعطاه لك؟
- الشعر أخذني مني إلي، وأعطاني الى نفسي مثلما أعطاني مفاتيح الحياة و مفكات رموزها، علمني أن العالم بلورة صماء نحن الوحيدون القادرون على رسم ما نريد ان نراه فيها، ولكن خيانة البعض لقدراتهم تضعنا أمام المهالك و الخسارات.
* هل ثمة رقيب في داخلك وانت تكتبين قصائدك؟
- ما من رقيب رابض في داخلي ولا حتى تابوات اضعها لنفسي من الخارج، أنا كما أنا في النص و في الحياة.. أقول و أعمل وفق ما أفكر به وما أؤمن بأحقيته في التجلي و الظهور، وما يرهقني سوى ازدواجية البعض و وجوههم المتلونة.
* ما اللحظة التي تمنيتي فيها الا تكوني شاعرة؟
- لحظات كثيرة اتمنى فيها لو كنت انسانة عادية بطموحات محدودة و مفاهيم بسيطة، و لكني ملعونة بالشعر وتلك اللعنة تتفاقم عندي كلما قررت اعتباره اسلوبا ً للعيش، الشعر هنا في داخلي وهواليوتوبيا الصارخة في وجه صمم الخارج المحشو بالتناقضات المرهقة و اللاجدوى والشعور باللاانتماء، تمنيت كثيرا أن تقتصر طموحاتي على كسرة خبز و شربة ماء ومأوى أنام فيه بسلام.
* اي شيء منحتك اياه الغربة كأنسانة وشاعرة وتشكيلية؟
- لوثتني الغربة بحنين مجروح ممتزج بالممنوعات، اختلس الاحلام دائما و تصدمني الايام بالمرارة، لهذا تخضبت أعمالي و كتاباتي بالفقد والدم، مارأيته في العراق يفوق التصور و احياناً اشعر بقصور النص او العمل التشكيلي عن التعبير عما يتزاحم في رأسي من أفكار و ما يعتمر قلبي من أوجاع، اتقنت الغربة جيدا بعد أن عرفت الموت و حفظته عن ظهر قلب فصارت الايام بالنسبة لي لعبة موقوتة تنفجر في أي حلم لتغمرني بالمفاجآت سارة كانت أو مؤلمة.. اقولها دائما: تعودت على استقبال الهزيمة بكأس عصير بارد، وأصر على انتظار فرح مؤجل.
* هل هنالك قصيدة لم تكتمل لديك او لوحة رغم مرور وقت عليها؟
- هناك مشاريع و افكار كثيرة مازالت مسطرة على الورق، مشكلتي اني قادرة على التفكير بأكثر من موضوع في وقت واحد كما واقتحمت مجالات متنوعة وفي كل مجال اضع لنفسي افكارا وخططا لانجازاها وهذا يحتاج الى وقت يفوق ساعات اليوم الواحد, لكن في الطريق مشاريع جديدة قيد الانجاز وسترى النور قريبا.
* ما الشعور الذي ظل مسيطرا عليك ما بين دخولك بغداد وخروجك منها؟
- شعوري نحو بغداد يشبه شعوري تجاه أمي، عندما توفيت أمي لم استطع رؤيتها ميتة ولم استطع زيارة قبرها و اتذكر بألم لحظاتها الاخيرة وهي تبعدني عنها حتى لا اراها تحتضر وقد صورت هذا الشعور في نص عن الوطن اقول فيه: (وطن يلوذ بنا فيبعدنا كأمّ تلفظ الأولاد ساعة موتها كي لا يبصروا الفزع الأخير)، في بغداد عايشت الحياة والموت، في بغداد ولدت مرتين ولكن هناك مسافة من الالم تفصلني عنها، ذات مرة سألني احد الاصدقاء لماذا خرجت من بغداد، فأجبته ليكون لي وطن أحلم بأن أعود اليه، لا أن أعيش في وطن أموت فيه، هناك الحرب تأكل أبنائها، وهنا صورة بغداد التي أنوي الاحتفاظ بها رغم ظلام الكابوس الذي كاد يزهق روحي.
* طفولة تبكي على حجر، مسامير في ذاكرة، مقصلة بلون جدائلي، المدهون بما لا نعرف، هذيان في بلورة ملعونة، عناوينك لمجموعاتك الشعرية، لماذا هذه القسوة فيها بدل الرومانسية؟
- سأرد عليك أيضا بقصيدة: (ألبَسُ عاصفة ً كبلادي المشروخةِ بالأحزان / أسعلُ دربَ الليل ِ/ يغصُّ القادمُ من وجع ٍ آخرَ / وساعة َأتلعثمُ بحروفِ الوطن ِ/ عينٌ / راءٌ / ألفٌ / قاف / أدركُ أني بلسان ٍمثقوبٍ أنطِقُ)، انا ابنة الحروب والكوارث، وعالمي مضمخ بالفقد والويلات، الخارج يستحق تلك الصرخات المتتابعة وكلما حاولت اعتناق الفرح وجدت حقلا من الاشواك و اصراري على الحياة وتقصي الفرح حتى وان كان مؤجلا يأتي من خلال اطلاقي لهذه الصرخات المناهضة لعهر هذا الخارج المزوق بكل ما يخجل و لكني مقتنعة بأني سأجد ذات يوم ما أنتظره من فرح يغسل عني أدران الوجع.
* اي حزن يكتنف هذا المخلوق الذي اسمه رنا جعفر ياسين؟
- حياتي سلسلة طويلة من الفقد والخيانات والوجع، واحيانا ً افكر مع نفسي: كيف أني مازلت أحب الحياة ومازلت قادرة على العطاء رغم كل ما أحاط بي من سوء، فابتسم و أقول مع نفسي: ثمة شمس في الجوار ستشرق ذات صباح و تغسلني من خطايا الاخرين ونثيث الحروب و عندها سأكتب عن الفرح.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |