شعلة الثقافة العربية تنتقل من سفوح دمشق 2008 الى ليل القدس 2009
2008-12-31
`
ذاك العام الذي أخرج الثقافة السورية من عزلتها
بدت دمشق خلال الاحتفال باختيارها عاصمة للثقافة العربية للعام 2008، على قدر كبير من التوازن كما لو أنها مدينة «البين بين» قياساً الى العواصم العربية الأخرى التي سبقتها في هذا السياق. فهي كانت طوال هذا العام مدينة للثقافة السورية بمقدار ما كانت مدينة للثقافة العربية، على خلاف مدينة الجزائر مثلاً التي مالت الى الطابع العربي من خلال التظاهرات العربية «الهائلة» التي شهدتها العام الفائت، وعلى خلاف مدينة بيروت التي غلب الطابع اللبناني على معظم تظاهراتها خلال احتفالها بالحدث قبل أعوام. لم تشأ دمشق أن تشبه الجزائر ولا أن تشبه بيروت ولا أي عاصمة أخرى، فاعتمدت صيغة معتدلة، توازن بين الطابعين المحلي والعربي، تماماً مثلما وازنت بين التظاهرات العربية والأجنبية، وبين الطابع الرسمي والطابع الحرّ. هذه الموازنة التي لا تخلو من المغامرة نجحت الناقدة الأكاديمية حنان قصاب حسن، الأمين العام للاحتفالية، في خوضها وبلورتها لمصلحة دمشق أولاً وأخيراً، دمشق السياسة ودمشق الثقافة ودمشق الجمهور. وقد استطاعت أن تنفصل بهذه «الاحتفالية» عن وزارة الثقافة وأن تنشئ مؤسسة خاصة بهذه الاحتفالية، ولكن طبعاً تحت غطاء رسمي. وهذه ظاهرة لافتة حقاً لم تعرفها أي عاصمة ثقافية عربية سابقاً. فالعادة تقتضي عربياً أن تتولى وزارة الثقافة مثل هذه المبادرات، نظراً لأنها مهيّأة لها ولأن هذه المبادرات تصب أصلاً في صميم أهدافها. لكن هذا الاستقلال عن وزارة الثقافة السورية لا يعني أن الوزارة لم تحتفل بـ «الحدث» على طريقتها أي وفق تصوّرها للعمل الثقافي القائم عموماً على الندوات والمؤتمرات واللقاءات ذات الطابع المنبريّ، وهي التي لا يبقى لها من أثر بُعَيد انتهائها. على أن «المؤسسة» الاحتفالية والوزارة لم تفترقا كثيراً بل هما «تقاطعتا» في بعض المهرجانات ولا سيّما مهرجان المسرح الذي أحيته دمشق أخيراً، وكان سورياً وعربياً ودولياً، وقد تعاونتا ولو ظاهراً لانجاحه عبر العروض التي اختيرت لتمثّل بلدانها، على رغم أن «الاحتفالية» سبقت المهرجان وقدّمت عروضاً بارزة جداً ومنها على سبيل المثل مسرحية «المفتش الكبير» للمخرج البريطاني العالمي بيتر بروك ومسرحية «ريتشارد الثالث» للمخرج الكويتي – البريطاني سليمان البسام ومسرحية «جنون» للمخرج التونسي الفاضل الجعايبي... وعرض هذه المسرحيات كان بمثابة الحدث الثقافي النخبوي الكبير الذي قابلته أحداث «شعبية» كبيرة صنعها مثلاً زياد الرحباني في أمسياته التي جذبت جماهير غفيرة أو مارسيل خليفة الذي جاب مدناً سورية عدّة مع فرقته أو مسرحية «صح النوم» التي أتاحت للجمهور الشاب أن يشاهد فيروز على الخشبة، ناهيك بمسرحية «كارمن» بحسب ما أخرجها الفنان الاسباني الرائد كارلوس ساورا... ولعلّ هذه الأعمال ذات المنحى الشعبي نجحت تماماً في المصالحة بين الذائقتين، النخبوية والشعبية، ما زاد من فرادة الاحتفالية ومن نجاح رهانها. وقيل في الكواليس إن فيروز وزياد كانا قادرين وحدهما على انقاذ هذه الاحتفالية من أي مأزق أو عثرة قد تعترضها، وقد جعلا الاحتفالية تحقق أعلى أهدافها، ثقافياً وشعبياً. وكان قدوم زياد الرحباني الى دمشق حدثاً كبيراً، فنياً وسياسياً في آن، وغدا أشبه بالمصالحة مع دمشق التي طالما رفض تلــبية أي دعوة اليها سابقاً.
نجحت حنان قصاب حسن في اجتياز «البيروقراطية» التي تحكم النشاط الرسمي عادة وبدت حركة البرمجة التي اعتمدتها ذات طابع «عملاني» وسريع. وكانت أمضت أشهراً في العام الماضي تخطط وتبرمج والى جانبها فريق من الشباب المتحمسين، علاوة على اللجان الرسمية التي لا بدّ منها ولا بدّ من العودة اليها. وقد واجهت «الاحتفالية» على ما بدا حالاً من «التعثّر» الطفيف بُعيد انطلاقها إذ تأخر تنفيذ البرمجة بحسب الكراسات التي صدرت تباعاً عن «الاحتفالية»، لكنها سرعان ما انطلقت وبشدّة ووفرة، حتى ملأت ليالي دمشق عروضاً مسرحية وموسيقية وغنائية، ناهيك بالأمسيات الأدبية والشعرية واللقاءات المفتوحة. ومن يتصفح هذه الكراسات الخاصة بالبرمجة يدرك للفور ضخامة البرمجة حتى وإن لم تخل أحياناً من بعض «البهرجة» الشكلية.
فالأعمال لا تحصى فعلاً وقد غلب عليها الطابع الاحتفالي والاستعراضي ولكن ليس على حساب الأنشطة الأدبية والثقافية. ولئن كانت الأمسيات الشعرية و «الروائية» قليلة إزاء العروض الأخرى، فهي استطاعت أن تخلق جواً حميماً وسط الاحتفالية، وبعيداً عن الصخب. وقد حضرت الرواية السورية عبر بعض أعلامها مثلما حضر الشعر السوري كذلك، وحضرت الرواية العربية عبر ندوة والشعر العربي عبر مهرجان شاركت فيه مؤسسة العويس الإماراتية. ولم تغب الحركة التشكيلية عن المعترك إذ سعت الاحتفالية الى احياء المشهد التشكيلي السوري المعاصر، سواء عبر المعارض أم النشر، وقد أصدرت ثلاثة كتب من الحجم الكبير تستعيد الحركة التشكيلية السورية. أما اللافت فهو إحياء الذاكرة التراثية والأثرية لمدينة دمشق، عبر الندوات أولاً ثم عبر العمل على «الحقول» الأثرية والعمارات والمواقع التاريخية مباشرة. وهذه بادرة مهمة جداً لأنها تساعد على صون الهوية التاريخية لمدينة تواجه تحديات العصر ولو ببطء. وعملت الاحتفالية أيضاً على إصدار سلسلة أعلام الأدب السوري وسلسلة الشعراء السوريين الجدد وقد أشرف عليهما الكاتب خليل صويلح، ويتم العمل الآن على انجاز مختارات من الشعر السوري في حقباته المختلفة وأجياله، وقد تصدر المختارات مطلع السنة المقبلة. أما الكتب التي دارت حول أعلام الأدب السوري فكانت «شعبية» وسريعة وأقرب الى «الأرشفة» منها الى النقد والتحليل. ومن الأسماء التي تناولتها الكتب: نزار قباني، أدونيس، عبدالسلام العجيلي، سعيد حورانية، كوليت خوري، غادة السمان، حنا مينة، محمد الماغوط، زكريا تامر وسواهم. وقد تكمن أهمية هذه السلسلة أنها تعيد اللحمة الى المشهد الأدبي السوري الذي عرف حالاً من التبعثر والتشتت لأسباب عدة. كانت دمشق خلال هذا العام من أهم العواصم التي احتفت بالثقافة العربية، فهي لم تقصر الثقافة العربية على هويتها القومية بل شرّعتها على أفق عالمي ساعية الى البحث عن موقعها على الخريطة العالمية. وسعت الاحتفالية بوضوح أيضاً الى اخراج الثقافة السورية من عزلتها ومن حال «التأميم» الذي كثيراً ما عرفته لا سيما في الثمانينات، ومن الهيمنة الايديولوجية التي ثقلت وطأتها عليها. وإن اســتطاعت هذه الاحــتفالية أن «تلمّع» أو «تجمّل» صورة دمشق كعاصمة للثقافة المحلية والعربية، فهي لم تستطع أن تلغي من الذاكرة صفحات ليست بالبيضاء وبعضها ما زال مفتوحاً. فما أصعب الاحتفال بالثقافة ووراء قضبان السجون مثقفون كل إثمهم أنهم يملكون خطاباً مختلفاً عن خطاب السلطة. وكم كان منتظراً أن تعمد السلطة الى اطلاق سراحهم خلال هذا العام في مبادرة كانت لتكون تحية الى هذه المدينة العريقة.
نجحت دمشق فعلاً في أن تكون عاصمة للثقافة العربية على رغم اعتدالها واتزانها، وقد يكون هذان الاعتدال والاتزان هما اللذان منحاها خصائص لم تعرفها عواصم أخرى شاءت الاحتفاء نوعاً من الصخب، ثقافياً وإعلامياً. لقد عادت دمشق خلال عام، عاصمة للثقافة العربية، واستعادت الكثير مما فقدته سابقاً، كمدينة تختبر وتسأل وتشك... والمهم أن تتواصل هذه الاحتفالية وإن انتهى عامها، لترسّخ حضور دمشق، عربياً وعالمياً، جاعلة منها صلة وصل بين الثقافات العربية المنقطعة بعضها عن بعض.
عن جريدة الحياة
08-أيار-2021
19-آب-2017 | |
11-كانون الأول-2012 | |
26-حزيران-2012 | |
07-شباط-2011 | |
02-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |