مذكرات ( سعودية ) هاربة من زنازين مطاوعة الرياض
2008-02-04
هي عودة الروح أم عودة العقل ام عودة المرأة إلى أنوثتها أم عودة الانسان إلى انسانيته أم كل هذا .. أم لاشيء من هذا .. لست أدري ..يكفي أن اشعر في هذه الساعة براحة الخلاص .. براحة العتق بعد عبودية ..أقسمت برب المطاوعة - رب السلاسل والحريق- أن أتكلم وأكتب وأهذي وأبكي وأصرخ واهدم أقبية الصمت والخوف التي اعتقلوني في دهاليزها عشر سنوات كئيبات .. سأقذف بألمي خارج أسوار نفسي المسحوقة ألف مرة ببركاتهم أو لعناتهم أو تقواهم أو فجورهم أو أباطيلهم أو أمراضهم أو اكاذيبهم
سأعري فصامهم كما كنت شاهدة عليه ..ونفاقهم الذي شطر ذاتي إلى نصفين ..ودجلهم الذي تعاونوا رجالا ونساء على حقنه في تلافيف رأسي صباحا بعد صباح .. وهوس ذكورهم بكل شبر من جسدي .. ذلك الهوس الذي أنهكني ليلة بعد ليلة .. وامتص أنوثتي حتى آخر قطرة ..
مازلت أرى وجوههم في أحلامي .. عبدالله يرمي بجثته الكبيرة علي حتى لتخنقني رائحة دهن العود.. فلوة تتشح بالسواد إلى قدميها .. تبسمل وتحوقل في ركن قصي .. لحية علي ذلك السمين القصير تدخل في أنفي وفمي بينما هو يلهث وأنا ذييحة معلقة من رجليها فاقدة أي شعور .. فاطمة تقرأ القرآن وتنفث في صدري .. حفر النار من أمامي ومن خلفي .. الله يشرف على الجحيم من عرشه المذهب فيمد ذراعه الطويلة ويغطسني في الحريق أكثر .. يغلي دماغي من الحر .. أصرخ واستيقظ لأرى نفسي في سريري وصوت التلفزيون ينبعث بهدوء من غرفة شقيقي عمر ..
أين ذهبت سارة ..? طريق طويل .. طويل .. مشيته ..
باختياري ? لا ..
رغما عني ? أيضا لا ..
أعرف اني مشيته وحسب .. كنت أمشي .. وامشي .. لا أريد ان أتوقف كي لا أشعر بروحي التي شاخت وأنا في ريعان شبابي ..
كي لا أبكي جسدي الغض الذي قدمته قربانا على مذبح شهواتهم الحلال ..
كي لا ألتفت ورائي فأرى البنت الحلوة التي كنت ..
***
في مدرستي الثانوية في (سلطانة)(1) لم يكن هناك ما يشي بأن ذلك اليوم الدراسي الحار ليس عاديا مع أنه كان كذلك ..
اجراء روتيني يمارس في مدارس البنات على نطاق واسع شكل منعطفا هاما في حياتي إذ قلبها رأسا على عقب وكان سببا لدخولي في أتون تجربة نفسية وبدنية استنزفتني بلا هوادة.
اقتحمت الاخصائية الاجتماعية أبلا فلوة الفصل علينا فجأة في منتصف الحصة الرابعة وكنا نأخذ فيها درس الرياضيات، فطلبت منا جميعا سرعة مغادرة الفصل دون أن نأخذ في أيدينا شيئا. كان من الواضح ان بينها وبين معلمة الرياضيات المصرية أبلا محبات تفاهما مسبقا على توقيت التفتيش المفاجئ على حقائبنا وأدراجنا.
خرجنا جميعا إلى الممر .. بعضنا يبتسم وبعضنا يبرطم أو يرتجف. أما أنا فقد سقط قلبي بين أظلعي .. في درجي روايتين من (روايات عبير)(2) .. جرم تتراوح عقوبته من الانذار وكتابة التعهد إلى استدعاء ولي الامر وخصم درجات من السلوك إلى الفصل من المدرسة لأسبوع كامل.
بعد نصف ساعة او اكثر من قلب الفصل رأسا على عقب خرجت أبلا فلوة بكيس نايلون في يدها وهي تزبد: "الله يهديكن .. الله يهديكن". وقع بصري على الكيس الشفاف في يدها فتبينت بسهولة الروايتين الصغيرتين مع عدد من الامشاط وأقلام الكحل والمرايا الصغيرة. نادت بطريقة عسكرية بينما بصري على شرابها الأسود السميك في يوم قائظ:
" اللي أقول اسمها تطلع على جنب والباقيات يرجعون للفصل". كنت أول من نودي عليها ربما لفداحة (اثمي) مقارنة بغيري. بدأت أسحب قدمي سحبا خلف خمس من زميلاتي في طريقنا إلى غرفة المديرة التي " ستتصرف معنا" ..
جلادي نفسه من كفكف دموعي .. فبعد خروجنا من غرفة المديرة أخذتني أبلا فلوة جانبا وقالت لي:
- أنت بنت مؤدبة والأولى دائما على صفك وأنا أتوسم فيك الخير ومتأكدة ان ما حصل لن يتكرر ابدا .. ثم اردفت بصوت عميق:
- من يحتمل النار يا سارة ?!
- سارعت بأنفاس متقطعة وطعم الملوحة على شفتي:
- والله لن يتكرر .. والله العظيم .. بس أرجوكم لا تفصلوني .. !
- ابتسمت وهي تمسك بيدي:
- لن أكلم والدتك وسأتوسط لك عند المديرة حتى تكتفي بالتعهد الذي كتبتيه ..
- وقعت على يدها أقبلها .. المرة الأولى في حياتي التي أنحني فيها على يد .. لا أعرف ماذا كان شعورها .. بماذا فكرت في تلك اللحظة .. لكنني الان أعرف بأن ذلك كان مفتتح تاريخ عبوديتي .. ذلك العالم السحيق الذي ابتلع حسي و براءتي ..
توثقت علاقتي بأبلا فلوة كثيرا إذ أصبحت أجد راحة كبيره في الجلوس والحديث معها.. أتردد على مكتبها كلما واتت الفرصة لأفضفض لها عن هموم الدراسة .. مشاكلي الصغيرة مع البنات .. حياتي في البيت .. مخاوفي من المستقبل .. كانت رفيقة بي وحنونة علي .. تكثر في نصحي ووعظي وتعليمي .. تحملني الكتيبات والاشرطة الدينية التي صرت أخصص لها وقتا يفوق ما أخصصه لدروسي ..
كلما سمعت جرس الفسحة يدق اهرول اليها بشوق وجذل عوضا عن الضحك والتشاقي مع صديقاتي كما اعتدت ..
لم أتردد .. ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا .. كنت أقرب الصورة من عود الثقاب وما ان تعلق بها النار حتى أرمي بها في المجلاة ..وبينما كنت أمسك بالصورة اليتيمة لوالدي رحمه الله شعرت بقليل من وخز الضمير .. ارتجفت أصابعي قليلا .. كانت صورة قديمة التقطت له في أواسط الستينات أمام الجامع الأموي في سورية ..قربتها من شفتي وطبعت عليها قبلة .. وما هي إلا لحظة حتى استحالت إلى رماد..
مزقت الصور والقصص والمجلات والأوتجراف الوحيد الذي يحمل تواقيع معلماتي ورفيقاتي .. وأتلفت شرائط الكاسيت التي أهداني اياها أخي عمر في مناسبات مختلفة .. حزنت أكثر على شرائط المغني البحريني خالد الشيخ الأقرب إلى نفسي .. لكن لا .. لاطاقة لي بنار تنضج جسدي في الساعة ألف مرة .. ولابعذاب القبر .. ولا بيوم يسود فيه وجهي بين العالمين ..
عانقتني أبلا فلوة وأنا أخبرها بما فعلت وباركت لي انتصاري على نفسي والشيطان .. نعم هكذا قالتها: نفسك والشيطان .. أنا والشيطان .. الشيطان وأنا .. لم يكن هناك فارقا ماهويا بين ابليس وسارة .. لقد كان يسري في دمها دون ان تدري ..
أمي ربتني على الفضائل كلها .. لكنها ذهلت عن غرس كراهية الشيطان في أعماقي .. فماذ فعلت اذن؟! .. لم تفعل شيئا ..! وكيف ستواجه المسكينة السؤال عن أمانتها بين يدي عزيز قدير ?! هي أعلم بشأنها !
لم أكن أكره الشيطان كما يجب على فتاة مسلمة صالحة .. ? لم أكن أدري انه هو الذي يوسوس لي فابتسم .. ثم يمعن في وسوسته فأطرب لأغنية.. ثم يركبني من رأسي حتى قدمي فأرقص أمام مرآتي .. ثم يزيدني فجورا فأحتفظ بصورة التقطها لي عمر أمام النخلة الوحيدة في فناء بيتنا الخارجي .. ثم أصبح أنا الشيطان نفسه حين أتحسس جسدي قبل الانزلاق في النوم ..
اليوم أسأل نفسي: ألم يكن للجنة من باب آخر ? ماهذا الفردوس الذي لا ندخله حتى نقتل الفرح والحب .. وندفن أرواحنا تحت تراب .. فوقه تراب.
ولم جاء قدري على هذا النحو .. لم أنا بالذات ? لم سارة الصايل لا أحد غيرها ? لم لم يتزحزح هذا القدر قليلا فيصيب سواي .. لو انه تأخر قليلا أو تقدم قليلا .. لو انه أخطأني أو جاوزني أو أهملني أو أعتقني لوجه الله.. ماذا عن فاطمة مثلا أو نورة أو نوال ..? لماذا لم يلتفت الله يمينا أو شمالا فيوقع بنتا آخرى من بناته في مصيدة أبلا فلوة .. في طاحونة العذاب النفسي .. في فراش عبدالله .. ثم في فراش علي .. ومن قبل الشبق ومن بعده في لجة الوساوس السوداء التي اقتات من دمي وعصبي ..
أين ضاعت سارة الحلوة الشقية .. ? أين السوري (3) كما تلاطفني جدتي .. أين التفاحة كما تناديني أمي .. ? أين دليل (4) كما اعتاد عمر ان يسميني .. ? أين هي أنا .. ؟؟عبدالله !
جلاد أنت أم ضحية مثلي ..?
هل كنت أحبك؟ أم أكرهك؟ أم أخافك؟ أم أشفق عليك؟ أم أقرف منك ..?
هل كنت مريضا أم نصف مريض ..? هل ولدت مريضا أم انهم امرضوك .. ?
أو كنت مهجوسا بالمرأة أم بالعبدة .. بالزوجة أم بلذائذها الليلية..?
في آخر يوم من الامتحان النهائي قالت أبلا فلوة بلا مقدمات:
_ سارة لن أجد أفضل منك زوجة لأخي عبدالله !
هكذا .. دفعة واحدة .. بلا تمهيد طويل او قصير.. لن تجد أفضل مني زوجة لأخيها .. فأنا اتوفر على شروط الزوجة المثالية: قبيلية ومطوعة وجميلة مؤدبة .. ونعجة صغيرة ..
- بس يا أبلا .. والجامعة؟
هل للضحك إله يا حيرا ! يا مينرفا ! يا فينوس !
الضحك يا مليكات الأولمب هو ماكنت أريده .. وهو ما أريده الان لأشفي نفسي بنفسي .. ..
فلا يعوقني ايتها الربات عن أخيها سوى الجامعة ..
لم لم أضحك ? أو ابتسم حتى؟
لم لم اسوي خصلة شعري و أسكت ? لم لم أرسم الاستغراب على زاوية فمي مثل بطلات المسلسلات التلفزيونية؟ لماذا .. لماذا؟
هل كانت فلوة تطلبني لأخيها .. أم تشوقني له.. أم تأمرني به ?!
-سارة ترى أخوي من المسجد للبيت ومن البيت للمسجد ..
وعرفت بعد ذلك انه كذلك من البيت لعليشة ومن عليشة للبيت(1)حسنا يافلوة .. هل استمر بمناداتك (أبلا) أم انتهت اللعبة .. هل انتهت بتمددي على سرير
أخيك المريض أتامل السقف وانتظر مرور الدقائق لينهض من فوقي ..
أغتسل وأصلي وأبكي ساجدة: يارب اغفر ذنبي.. لاتعذبني بمشاعري فهذه ليست بيدي .. أريد جنتك وأخاف نقمتك وعذابك .. ولو كنت أمرا أحدا ليسجد لأحد لأمرتني من عليائك فسجدت لعبدالله وتمسحت بقدميه المتشققتين ..
ذهب اعتراض عمر سدى وأنا أصيح في وجهه مثل قطة :
- ما عيبه ? هل لابد أن يدخن ويسبل ثوبه ويتسكع في الشعلة (2) حتى يعجبك !
لم يؤاخذني على لمزي لانه قال وإن حانقا:
سارة فكري .. هو يكبرك بخمسة عشر عاما .. حسنا العمر ليس مشكلة ..
لكن هل رأيت شكله .. حتى شخصيته لاتناسبك .. الرجل غريب جلست معه ساعتين لم يتكلم .. إما يحدق في هذه اللوحة كالمجانين .. أو يعلك المسواك و يستغفر ويمسد لحيته.. هل هذا منتهى أحلامك !
تمالكت أعصابي وقلت أتصنع الحكمة:
لاتقلق يا عمر لقد صليت البارحة صلاة الاستخارة وشعرت بانشراح صدري لهذا الزواج ..
ما ان انهيت عبارتي حتى ضحك أخي بهستيرية وهو يصفق يدا بيد:
ماذا يا حلوة ? أعيدي لو سمحت ! استخارة ! يلعن ابو الغباء .. (قصت عليك) (3) فلوة بنت ( .....) ..
تدخلت جدتي (صايلة) وهي تمسح على شعري: استغفر ربك .. والبنات ياعمر ما لهن الا الستر ..
قلت في صدري وانا استشعر الله يملأ العالم من حولي ضياء: يا رب اغفر لعمر فهو جاهل لا يدري ..
الأوبة
كان طابقا أرضيا في فيلا قديمة بحي الشفاء ..ومع انني دخلت هذا البيت سابقا مع أمي لترتيب حاجياتي إلا انني حين دخلته معه في تلك الليلة شعرت بوحشة تكاد تطبق على أنفاسي .. عبرنا الفناء الصغير وهو يتقدمني .. جسمه أضخم مما توقعت .. وله طريقة مميزة في المشي إذ يخطو خطوات واسعة وهو مائل قليلا على جانبه الايمن ..
حين أضاء النور وأغلق الباب رفعت غطاء وجهي السميك والتقت نظراتنا ..
لحظة عصية على النسيان .. وعصية على الفهم .. أحسست وقتها بأن أقدامي تغوص في طين ساخن .. رأيت عمر معلقا في الهواء يمد لي لسانه.. وصايلة العجوز تمشط شعرها وتنشد .. وفلوة تعلمني آداب فتح السيقان.. ورفيقاتي في المدرسة يتحلقن حولي ويتضاحكن .. الغرفة تدور بي وسقفها ينخفض حتى ليلامس هامة رأسي أو يوشك ..
أنا الان لست أمام الله .. ولا فلوة .. ولا المديرة الشمطاء .. ولا الناس .. ولا عمر .. ولا روح أبي التي ترفرف في السماوات .. ولا حتى أمام هذا الرجل ..
بل أنا أمام نفسي العارية .. الواهنة ..مثل ريشة خفيفة تذروها الريح كيف تشاء .. أمام البنت في داخلي .. البنت التي قد تعشق وقد تكره .. وقد ترغب وقد تنفر .. وقد تريد وقد ترفض .. مثل أي بنت .. متدينة أم لا .. صالحة أم طالحة ..
سرعان ما خلع ثيابه .. أبقى عليه بسروال قطني يصل حدود ركبتيه .. لم يكلمني ولم يلاطفني كما كنت أحلم .. وأتخيل .. بل برك .. هكذا برك .. وبدأ يمطرني بقبل متلاحقة مجنونة على وجهي وعنقي.. أكتم أنفاسي حتى لا أصرخ ألما وقرفا .. حتى لا أتقيأ دهن العود الرخيص الذي دخل حلقي وجوفي .. حتى لا يغضب مني الله وفلوة..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حي يقع غرب مدينة الرياض.
(2) سلسلة روايات رومانسية مترجمة عن الانكليزية شاعت في فترة بين طالبات المدارس تصدرها دار نشر في قبرص.
(3) اسم يطلقه البعض على من تحمل اسم سارة.
(4) بتشديد الياء كناية عن الدلال و التدليل
(1) في اشارة للموقع السابق لمستشفى الصحة النفسية بحي عليشة بالرياض.
(2) مجمع تجاري.
(3) تعبير يعني بعامية أهل نجد: خدعتك او استغفلتك.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |