كائن لا تُحتمل خِفته
2008-02-16
ميلان كونديرا يبحث عن كائن لا تحتمل خفته ، والطرح هنا البحث عن تعالق الإنسان مع محيطه البسيط ظاهريا والمعقد في آن واحد . ميلان كونديرا في روايته " كائن لا تحتمل خفته " يستخدم مبضع الكاتب الحساس لتشريح ميتافيزيقيات الإنسان ليتدرج في تتبع دقيق سبر أغوار الثقيل والخفيف في حياة الكائن الحي ( الإنسان ) ضمن إحداثيات زمانية ومكانية مختلطة حينا وحينا لا ، وملخص كل ذلك عبر مقولتين؛ الأولى ارتداء الخيانة كنسق حياتي يقربك من الخفة المنشودة ، والثانية فكرة استعادة الحياة مرة أخرى، وهي هنا بمثابة الثقل كما يستسيغ كونديرا .
يُنظر إلى الخيانة على أنها عملية تحول من الثقل إلى الخفة، و هي تبدأ بخيانة النفس والمعتقد والمحيط و خيانة الماضي والمستقبل، و كل ما يغلف حياة الشخص المحاط بالكثير مما يعمل على سلب المفهوم الإنساني الهش . أربع شخصيات تجسد هذه المقولة ........ (سابينا ) هي نموذج لذلك النسق الذي لا يكف على البحث عن شخص ما لخيانته ، وكذلك هو توماس في ولعه النسائي وخيانته لحبيبته تريزا، وتريزا في دورها تتخلص من نير أمها وتخون مفاهيمها ، وتقوم أيضا بفعل الخيانة ضد توماس جنسيا ، بينما فرانز ( الأستاذ السويسري ) الكائن المثقل تماما ، يتخلص من ثقله حين يعلن خيانته لزوجته ويعلن بشجاعة عن علاقته مع (سابينا )، وبين ثنايا هذه الخيانات تتمظهر مقولة يثبتها كونديرا في روايته ليصل إلى تركيب جديد لعلاقات الإنسان و تعاطيه مع مفهوم الحب حيث ينفصم الجنس عن الحب حيث تجهز المقولة إلى ملخص أن فكرة الحرية هي التي تغلف تلك العلاقة الخفية والغامضة هي علاقة الحب لتكتمل .
أربع شخصيات محورية التواجد السردي، تترابط مصائرها في خيط سردي ضمن بناء خلفي لواقع احتلال دولة التشيك من قبل الاتحاد السوفيتي مع المد الشيوعي إبان الحرب العالمية الثانية، إذ باتت فكرة الامتلاء بالايدولوجيا الشيوعية مصيرا محتوما على دولة صغيرة، لا تملك شيئا من مصيرها..... ، الواقع هنا ثقيل ولا مناص من الخيانة ولو تواطؤا .
يبدو القلق ضمن لوحات الرواية التي يقطعها كونديرا في بناء روائي ثوري، حيث يعمل عمل على صنع خروقات سردية سافرة، يظهر فيها صوت السارد حين يعمل على تتبع السرد الخاص لكل من شخصياته السردية، وهو يؤسس روايته على فصول كل فصل يتكون من لوحات معنونة تضطلع بمهمة بناء كيان سردي متماسك ومتشظٍ في آن واحد، فالسرد يتمحور حول أربع شخصيات وهنا تبدو شخصية توماس وهي شخصية محورية من حيث المساحات المعطاة لها في البنية السردية شخصية عميقة التكوين مبدئيا فهو طبيب جراح تخلص من ثقل محيطه كالزوجة والابن وهو هنا يصنف ضمن شخصيتين في التعاطي مع النساء من حيث الاشتهاء المرضي، فتوماس ينتمي إلى الصنف الأول الذي يبحث عن تلك الاختلافات الواردة في كل امرأة يجدها وليس كالنموذج الثاني الذي يبحث عن نموذج خيالي وبالتالي فإنه يبقى في بحث مستمر عنه وهكذا دون تحقيق لغايته يتحول توماس الطبيب في نهاية الأمر إلى منظف واجهات زجاجية بعد مقالة كتبها ولم تنل قبولا لدى أجهزة المخابرات السوفيتية فيطرد من المستشفى ومن ثم ينتقل إلى الريف ومعه تريزا التي جاءت وليدة ست صدف .
تريزا هنا المرأة التي سيقت لتوماس من خلال الصدفة، وهي ذلك الكائن الضعيف التي لم يجد بعد صيغته النهائية، لذلك تكثر من النظر إلى المرأة لتجد صورتها الخاصة ، ولكنها مثقلة بصورة الأم المنفرة، وفي ذلك الواقع الثقيل تتحرك بحثا عن كينونتها في علاقة تكونت وليدة الصدفة البحتة مع الطبيب توماس ولكنها تفشل حين يصر توماس على أن أسير نزواته الجنسية، وهي تحاول أن تقيم معه صيغة حب مثالية حيث ما زالت مفاهيمها ، ترتبط بأطر مثالية عن مفهوم الحب، ولكن توماس يتخلص من ذلك ويعلن أن الحب ما هو إلا خيار الحرية، لذلك تلجأ تريزا إلى خيانة توماس بإقامة علاقة مع أحد المهندسين الذين يرتادون الحانة التي تعمل بها، ولكنها تسقط أسيرة واقع سياسي يتدخل حتى في خياراتها لتجد نفسها في النهاية غير قادرة على مزواجة الجنس دون علاقة حب نو هي لا تستطيع التخلص من الثقل المحيط فيها والماكث على مفاهيمها للأشياء، بينما تجد سابينا صيغة واحدة لمفهوم حياتها حين تبقى خفيفة في تعاطيها مع المحيط وهي دائمة البحث عن فعل خيانة يقيها أن تكون مدرجة ضمن مسلمات قارة و ثابتة، فتقيم علاقة مع توماس ومن ثم مع فرانز، وكلاهما نموذجان متناقضان، توماس الذي لا يعترف بصيغة الحب، و فرانز العاطفي والأخلاقي الضعيف، وكلاهما في النتيجة كائنان يعبران فضاء سابينا لتنتهي منهما دون ثقل لتترك بلدها وتذهب للعيش في الولايات المتحدة الأميركية التي أحبتها ، ولكن حبا بينما سطحيا ( كما تقول ) بينما فرانز ذاك الشخص الملتزم الذي يسافر إلى كمبوديا للاعتراض والاحتجاج ضد الحرب يموت وهو يبحث عن عيون سابينا كي ترمقه إعجابا ولكن في الحقيقية هو يتوق إلى تلك الفتاة صاحبة النظارات (طالبته السابقة) إن الخيارات هنا مفتوحة على مصراعيها في علاقات الإنسان مع الأشخاص الذي يحبهم أو يرغب بهم .
توماس وتريزا يقرران الهروب من سلطة المخابرات السوفيتية ويذهبان للريف، ولكن توماس هناك يشعر بثقل السنوات وينتهي به الأمر ليموت في حادث سيارة وهو تريزا بعد أن يجد أن ابنه بدأ في مخاطبته عبر رسائل لا يمتلك القدرة للرد عليها والابن هنا امتداد لتوماس لأنه كان شبيها به .
إن النهايات التي يؤسسها كونديرا في روايته تعمل على صنع تذبذبات خفية في قدرة الإنسان على الإحاطة بخيارات تواجده في هذا الكون، ولو كان مقررا له أن يعود فإنه سيختار نفس تلك الخيارات( التي اختبرها سابقا ) ستنتج عن طبيعة ميتافيزيقية لا خيار له فيها، وهنا معارضة لمقولة نيتشه في خيار العودة مرة أخرى فالشخصيات والأحداث والأمكنة في رواية كونديرا يتملكها ثقل غامض ولعل الثقل هنا ذات صورة رمزية فهو الثقل يتجسد في الشيوعية وحاشيتها التي أثقلت بلدا كتشيك، هنا الثقل ينتشر في كتلة العمل الروائي كتعبير عن ثقله السياسي والفكري، وما توق الشخصيات إلى خفة إلا تعبير عن الرغبة من التخفف في جو كئيب وساخط ، يتحسس الإنسان فيه من أدنى حركة وهنا تصادر قيمة الحرية في مواجهة نظام استلابي والاستلاب، هنا يتسع لا ليشمل فقط مقولات سياسية وإنما يستشعر حتى في فراش الحب ، وضمن أدق تفاصيل الكائن الحي، ولا بد أن الكل فينا يتوق إلى التخفف أحيانا من آلاف الكيلوغرامات من الأفكار والأعراف والنظم والعلاقات وحساب الساعة في تشكيل نمط الحياة وعبء أن تكون منذورا لقيم لا تؤمن بها ولعالم لا ينتمي لك ولا أنت تنتمي له كما هي شخصيات ميلان كونديرا في رواية " كائن لا تُحتمل خفته " .
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
24-أيلول-2008 | |
18-أيار-2008 | |
22-نيسان-2008 | |
12-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |