قصة : في العشق وقرينه
2009-01-31
منذ أن استسلمنا للمجيء الراحل في عزلته، وهو يوقد بعدا خلناه قد تبدد بقدومها المباغت، ونحن في لهج خافت وانصياع لاهث في تطلع ما شاب هذا الحضور للمرأة التي بدأت تواري جسدها فيض الأوشحة والأنسجة الطويلة المنسحبة وراءها في تأرجح ترتعش له حواف الزوايا وانكسارات الجدران في ميلانها الهندسي المستريح على بعضه. نستشف منه رواحها وانتقالاتها المفاجئة من ركن إلى آخر ومن غرفة مأهولة إلى أخرى، تتصبب في مجد الفراغ وامتلاء أجوائه بعبث دهر في منازلات الترقيم والتجديف.
لم يكن ذلك شأنها من قبل مع جسد متأهب في الفتنة، طاغ في ارتياد مساوماته، راشقا العيون العابرة بمناورات التفافه على بعضه وبوحه بما يبرز من اكتظاظ نهد، أو انعتاق خصر في سلاسة تتأوه لها الأفواه التي نقف على مقربة منها فيما يلسع نفسهم الدافئ تجاهها وجوهنا التي غيبتها الظلال المحيطة.
كنا نتقافز جذلا ونحن نشهد عينيها تستقر علينا بين الفينة والأخرى بما يكفي لنتلو خلفها وحولها ترانيم العشق المتأبط ذهولنا فيها. لهذا داهمنا الاستغراب في غرابة فعل لا يتسق ورؤانا للعُريّ الذي خلنا فيه الوجود المبكر في استيقاظه، ليدهن أحداقنا بعبيره الملتصق بجلودنا كل هذه السنين، وهو يرجو في تراكم الأقمشة تباعا لترتاح فوق الأنامل، وتتمطط في انسياب كليّ حول القدمين والساق التي لمحنا توهجها في ماض سحيق.
نستعين بالشواهد كما نشهدها في الرقيات الحافظة أسراراً مغيبة في لثام صناديق الزجاج المربعة والمستطيلة، في أبنية التبس علينا كنهها بروادها المبعثرين في أروقتها المغبرة، عارضة تفاصيل نقشها لعيون تسبح فوقها في عماء لا يرفق بشأن رفق بحيوات قد زالت وأخرى ستزول في تدرج عجلة الوقت الذي يناهضنا طموحنا فيها، والمربكات في نقيصة الهواجس التي تطفو تارة وترسو تارة أخرى في أعماق هجيعة الأنفس وهي ترنو لحظات السكينة نحو غسق يبدد أرق الدقائق المتلبسة المناوشات ذاتها التي ندير الرأس عنها الآن ونحن في تفكر في جسد وسان المُغيّب عنا خلف ثقل الثياب الرملية اللون الحاملة نفحة التربة معها.
نحاول أن نفهم معنى للقطيعة بقضبانها الحادة المتداخلة في مسار كان يصون أرواحنا الرهيفة، من دون أن نسائل ذواتنا عما يشعل هذا المحيط الذي يحتوينا بدمائنا المستنسخة في أوردتنا المتعاقدة بعضها على بعض بما يشبه الفلك السابح في يقينه. وهاهي تتركنا الآن في غربة الظنون وفي تبصر دائخ مما يرصد له، فتتعالى شهقاتنا ونحن نفترش الشائك من شوك حتى تتضح لنا الدواعي لهذا الإسراف الفاتك وهو يفترس فتات الطمأنينة الحالمة التي عرفناها دهراً.
الجسد الذي أماط لثام اختلافه إحدى المساءات حين انسحب فيها الضوء السابح في السماء إلى حافة السرير الكبير الذي احتضن أجسادنا الأربعة في نموها البليغ، ليتبع تفجر الأنوثة التي انشغلنا عن ملابساتها وتبعثر سماتها من حولنا، إلى أن لاحظنا البقع الداكنة المتداخلة مع الرسوم المتناثرة لزهور ليلكية وصفراء فاقعة اللون، ومن ثم اختفاء لحاف السرير ووسان معا عن تجمعنا المأهول، لنبدأ في مسيرتنا المعذبة، الدائمة، في البحث عن زوايا وسان السرية التي يحلو لها الشرود فيها وتشتيت انسيابنا إليها.
كنا نود أن نهمس لها بأن يقين الجسد هو في استراحته على برعم الخواء وهو يتفتح ناثرا سكونه المطبق في كون يرتد ويدور على ذاته، وبأن ندوبنا المستقرة في رحاب الصدر تحاكي الوجع الأنثوي الذي تأمل وسان أن تلهينا عنه بغياب وقتيّ. لكن الغيرة تنهشنا ونحن نراها تفتح المسار للرجل الغريب ليشهد وجعنا فيها متأرجحا على نعومة الجلد الفاتن في ترابط مع خطوط لأيقونات وشمت خفية المقصود مما انطبع من تمائم تتحلى بها جدران الدار في انبساطها وزلاتها المتواصلة في الغيب.
ومع هذا كله، لم تتكشف لنا الحقيقة كاملة ونحن نتراوح بين الخيط الدقيق لمَلكَة القلب ويقين الندب الفاضحة قسوة مجهولة على جسد تطرف أعضاؤه كخفق أجنحة الفراش في عبوره الزمني القصير من انبثاق في الحياة إلى انبثاق في العدم. الندب التي نتقصى نشأتها بأناملنا المتسللة الآن في حلكة الظلمة وانبساطها الداكن الملتف على جسد وسان في استكانة النوم، علنا نلملم المتناثر من تبعات دهر يَصِمُ امرأة هوانا بشطط فجاجته ويهوي بكدمات أزلية على نثار ما تتشبث به من وهم يحاكي الرحى في طحن وتفتيت نطالعه وتطالعه هي من كوّة العزلة. لا تأمل في الرأفة ولا تبسط يديها لدفق الوجد الجاري من محيطنا إلى محيطها في الساعات الرخيمة حين تركن أجنحة اليمام لحواف السطوح المنفلتة نحو فضائها.
لا شيء يمكن أن يلهينا الآن عن مسار ما ارتسم فوق الجلد الطيع من أخاديد تنزلق متراوحة في عمقها من أعلى الكتف حتى الساعد، ومن تلاقي الفخذين حتى الركبة التي بدت كمن طرزتها يد في عجلة ردم المتشظي من أوردة وأنسجة اندلقت في فجأة الحدث الحميم، حين يستعصي على الجسد العصيان المتكامل متمثلا في وريد في دفق إلى الخارج، أو كما هي الصور المغوية للشفرة الحادة لنصلٍ ينبسط بين برهة الحاضر وبرهة الغياب الأخاذ كما يتجلى كمينه الفضيّ في سطوع يضاهي حلم اللحظة الذي يتراءى لنا في شرارة الغفلة المائلة فوق أصداغنا، لتلهينا عن المصب الذي ظللنا مندفعين نحوه.
نكبو أمام النهد في جلستنا تلك مستطلعين تضاريسه فيما الحلمة تلامس حافة أنوفنا الذاهبة في الرحيق وفي خلجات التوتر وهبّة الاندياح المتوارد في حلقات كالموج يتعالى في دواخلنا قاذفا بزبده المترع في ليونته نحو عراء اليابسة. يطيب لنا السكون في هدأة تلاقي الفخذين في تلامسهما الطفيف، في انفراج النهدين عن مسالك العذوبة، في النحر وانبساطه نحو علوّ الكتف، في العضلة الفاصلة وهي تتمرد هياجا، في انحناءات الظهر وهي ترنو لمراتب تدفق فاجر في حميميته لما ينفرج عنه الردفان الطيعان في تألق المشاكسة. هكذا نتلون ممسوسين بهذيان الجسد ونحن نقرأ بأطراف أناملنا، في العتمة، الخطوط المحفورة على الجلد المترف في نعومته، جالبا حكايانا التي مططها الدهر وتلاعبت بها الرياح على حافة منحدر الحلم المنعتق من جباهنا.
أي هيام هذا الذي نهيم به؟ أي وجع هذا المتشكل عبئا في جراحات تطأ الجسد وتستقر في سديم خلاياه؟ ترفع صبيتنا الكف ضارعة، فيما تبجّل أجسادنا هرم الحصانة حولها، مغالاة في ردع لا يحاكيه إلا هذا الانفلات نحوه.
· أستاذة جامعية في السوسيولوجيا - البحرين
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |