نزيه أبو عفش في الألم كمادة وذاكرة وحقيقة جسدية
2006-05-22
<بشرية> الألم. في نظر أبي عفش هي التي ترتفع بـ<المتألم> الى مستوى التأله، وتجوهر الألم وتجعل الحياة جديرة به كتجربة يخوضها الإنسان وهو يدرك ان: <الحياة ممر طويل الى الموت> ص ,137 والشاعر، بضميره الشقي وإحساسه <الألمي>، تلازمه <الخشبة> والأوتاد وإكليل الشوك ولا يترجل. يتماهى والعناصر، يشغله التفكير في <أحزان النبات، ألم الطائر، شقاء البذرة، صداع الحلزون، وحيرة الأتان الخجول>.
وهو يرى ان الألم لغة الله وخطابه الأزلي: <فكّر الألم/ فتكتشف اللغة الرسمية/ لجدك الحزين: الله> ص .13
كما أنه، أي الألم، هو مفتاح الوجود للشاعر، بل مقياس الحضور في الحياة. هو المصوّب والمنبه والنافخ في أذن الغافل عنه: <الآلام تنبهني بلا هوادة/ الى أنني/ ما أزال/ داخل الحياة>. ص .121 وفي مكان آخر: <تألم أمام عين الله/ تألم عالياً وقل: /ما أضعفني!> ص .135
وما يجب ألا يفوتنا في سياق هذه المحاولة للاقتراب من رؤية أبي عفش الشعرية والفكرية، ذلك المنحى التشاؤمي للشاعر الذي يلامس أحيانا حد الشك في المعدن البشري نفسه.
الارتياب
ففي قصيدة (أحفاد قابيل) يقول: <إذا تقول <أحبك>.. أتحسس قلبي/ وإذ تقول <أخي> أشم في ندائك العطوف/ طلاوة السم في اللقمة/ ولسعة الرصاصة في الظهر> ص .171 يذهب أبو عفش في هذا القول مذهباً متطرفاً، وكأنه يقطع أي إمكانية بشأن الشراكة في الحياة، ويدفع بالارتياب الى أقصاه، بحيث يصبح حتى التلفظ بكلمة <أحبك> مدعاة للشك وترقب العذر والعداوة.
نحن متيقنون ان باستطاعة أبي عفش الزج بأسباب وأسباب لا حصر لها، لتبرير هذا الموقف الصارم من خيانة صديق، أو مما أصاب منظومة الأخلاق والقيم من عطب أدى الى اهتزاز داخلي. ولكن هذا التحول السلبي، كمثال، هل هو شرط أو برهان كاف لتغيير النظرة كليا الى الإنسان، وبلوغ حدود الكفر به، واعتبار الوجود شرا خالصا؟
لنستمع إليه في نص (بورتريه): <وأمضي ما تبقى من فصول حياتي/ أقصد كل حياتي / داخل أسوار جهنم باذخة/ أدعوها بيت الدابة/ وتدعوها الدابة وطن الإنسان>. ص .170
فالحياة في منظور أبي عفش مجرد جحيم لا سبيل الى الخروج منها. إنها تكرار يومي لفعل العذاب والألم، وقصاص متوجب على الإنسان، ربما، لأنه اختار الوجود والاستمرار تكفيرا عن <خطيئته> الأصلية التي لا تعرف الزوال.
ويدهشني ولع أبي عفش في اشتقاق المعاني التي لا تنضب من ألفاظ تتكرر، دائما، في نصوصه: كالحياة، والموت، والألم، والقبر: <لا/ ليست كنيسة ولا بيت حياة/ الأرض: قبركم وقبري>. ص .169
إنه يسعى بجد ودأب الى استحضار كل ما يصل إليه خياله من صور معبرة عن سطوة الموت، التي نقع عليها في الكثير من المقاطع والأبيات: <شراب عيدنا دم مطيّب بعويل دم/ وقلوبنا على أمل وعلى غير أمل / تنخلع في ماراتونات لا يفوز فيها غير الموت/... ونأمل!.> ص .126
أو: <الى الأمام أيها الناس الشجعان سعاة بريد الموت.> ص .117
أو: <كل ما في الأمر/ في مواظبتنا على الألم / نعيش المزيد والمزيد/ من سنوات موتنا.> ص .123
أو: <الموت/ ليس ما ينتظرنا في نهاية الطريق/ بل هو: ما سبق ان مشيناه.> ص .141
او: <الأمل موت مقلوب> ص .142
ونضيف الى هذه الشواهد قولا آخر أشد قتامة وتفجعا ورعبا: <سبع وخمسون سنة/ وأنا منهمك، بلا هوادة،/ في حياكة قميص موتي.> ص .143
ويمكن ان نقتطع ايضا من نص آخر: <فيما أنا أنا الذي أنت / أتزحلق الى هاوية هذا الموت/ أرى: /الحياة نعمة مسروقة.> ص .83
ورؤية الموت كامنة حتى في الوردة كما في قوله: <لا تبتسم/ فخلف هذه الوردة/ أشم رائحة الموت.> ص .50 لم يكن التمثل بهذه النماذج التي تفيض <مادة> الألم عن طاقتها اللغوية، إلا للتساؤل عما يسقط <قلوبنا> دائما في سباقات الحياة، ليبقى الموت هو الفائز الأوحد؟ ولماذا استرهان الحياة في مشروع معروف النتائج سلفا، ومصيره الخسران المحتوم؟
والمقلق ان أبا عفش لا يتوقف عند تخوم التمرد أو التبرم أو الغضب، بل هو يتخطى كل ذلك ويطأ أرض الشك المطلق.
فمن العبث أن يعود مصطلح <التبرم>، مهما مططنا حقله الدلالي، قادرا على حشر قلق أبي عفش الوجودي في قالب ما، وهو شاعر <العري> الداخلي، الاستبطاني، <السرائري> الذي يأبى الانكماش داخل قشرة المعتقدات، أو الشعارات، أو المصطلحات: <تحت قشرة التآخي الكوني/ لسلالات الديكة والتماسيح والأرانب/ ينكشف عطش الفولاذ وشذوذ الدم/ ونهم ميليشيات أبناء الرب/ لاحتكار عضوية <نادي العراة> السماوي/.. تنكشف السكين/ وينكشف ان: كلانا آخر/ كلانا قابيل/ وكلانا ذبيحته> ص .41
تتبدى في هذا الانكشاف مأساة الذات النقيض، التي تعبر عن رؤية الشاعر القدرية، الأوديبية، والتي تعيدنا الى أصل الخطيئة، أصل الميثولوجيا. وبذلك تبرز <الضدية> كمصدر أزلي لصراع قائم على الإثم وشهوة القتل: فأي حياة هذه التي تقوم على حتمية الصراع القابيلي الهابيلي مدى الدهر؟ مع ان النتيجة هي، كما يحسمها الشاعر، هزيمة لإرادة الانسان، وانه <سيخلد الشر> وتستمر اللعبة محكومة بشروطها العبثية من دون أي تغيير في موازين القوى: <لست شقيقي ولا صاحبي ولا شريك حياتي/ كلانا <آخر>/ كلانا مجرد آخر>. ص .43
وفي نص آخر بعنوان (دعاء الفريسة) يصور أبو عفش رضوخ الضحية واستسلامها المتناهي للجلاد، ويسوِّغ لها أن تكون أكثر قدرة على النسيان و(أسهل ذوبانا في معدة الموت) وفي (أمعاء شقيقي الصياد). ولعلنا في تقصينا لمظاهر العبث في شعر أبي عفش، نكتشف مقدار المرارة والاحتجاج طي مقاطع من مثل: <من خشية الموت أتودد الى الموت/ ونزعا من الأحلام/ أطلب رأفة المستقبل وأتوسل الى النسيان/ و.. وحدي/ حلم مقبور/ وصيحة يابسة>. ص .100
أما الشك الذي هو الركن الثالث من أركان الثالوث الرؤيوي لأبي عفش، بعد الألم والموت، فهو يتمظهر في مستويين أحدهما أرضي بشري، والآخر سماوي إلهي ديني.
الأول يختزن قنوط الشاعر من قدرة الإنسان على صنع مصيره وتحقيق أحلامه، وعدم ثقته بمثل هذا المسعى للخروج من <كهفه> أو <عزلته> أو <قفصه>. وهو ما يتجلى في هذه الصرخة الشعرية: <اجعلوا الجدار عاليا، أو: اجعلوا النفق عميقا لأن: <الإنسان هارباً من أقفاص نفسه / يريد أن يحتمي بعتمة النسيان>. ص .51
وفي (سورة: موتوا) يجتاح غضبه أولئك الذين يقفون حاجزا بين الإنسان وذاته، ويفرغون المفاهيم والقيم من مضامينها الانسانية، فتنطفئ الحياة مع استتباب مناخ القطيعة والخواء الداخلي: <ما أبغضكم رعاة/ وما أتعسكم قديسين، موتوا لتضحك الحياة>. ص 66
وفي تعبير آخر يأخذه الندم الى حد الانتقام، واستبدال المسلك المناقبي والتبرؤ حتى من هويته وكينونته: <نادم على أنني <أنا>/.. نادم على خد أدرته طواعية وغفرانا/ إذا كان علي أن أدير نصلا/ أو قبضة/ أو طاحونة مسدس.> ص 104
الشك
أما الشك الديني، فيمكن التدليل عليه من خلال المقاطع التالية: <ما جدوى الله (الله أو سواه)/ إذا كان لا أحد يستطيع/ بين الزناد والهدف/ أن يوقف طلقة الرامي!> ص 148
وآخر: <والكل يسأل، الكل يسأل: /أما من إله <فوق...>/ يطل برأسه من شقوق هذه السماوات القاحلة ويشفق؟! ما من إله؟!> 76
تجربة ابو عفش هي في العمق الانساني، والمدى الوجودي الذي يخترق كل التعريفات المحدودة، ويتجاوز المعالم الجغرافية، بما لا يقاس، ولا تحده الأنظار.ومن ذلك كشاهد على ما نقول: <حين السماء/ هي السقف الاقليمي لرعاة الماشية/ والأوطان مرسومة بشهوات أقدام الحالمين/ وحدود الممالك/ محمولة على أجنحة العصافير>. ص 14
<حين الجميع يحصدون ماء الغيمة/ ويقتسمون هدايا التراب/ ويتهادون لقمة الصداقة وضحكة القلب.> ص .
عن السفير
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |