لماذا صارت موضة أن تظهر الرّاقصة بشكلً فج وتتكلّم ببجاحة وتقتحم أي حد بمنتهى الجرأة فلا يوقفها أحد ولا يردعها رادع.. لماذا يعطونها الصلاحيّة لكي تكلّمني أنا الفقير لله بالعين والحاجب، وبأشياء أخرى وبعد فاصل من الإسفاف والقباحة حين تحيي الجمهور هي وفرقتها.. لماذا تنحني في خشوع، وكأنّها تحيي مصر أو تؤدّي عملا وطنيًا.. ولماذا إذا ضبطتني واضعا يدي على خدّي تمسكني تريقة.. مالك.. شايل طاجن ستّك ليه؟! وتتهمني بتبويظ الجو برغم أنّ إيدي التي على خدّي هذه كما تعلمون عيب خلقي ولدت به.. أتصوّر أن تمسك الرّاقصة بالصّاجات، ولكن أن تمسك بالميكروفون وتعمل توك شو من طرف واحد.فهذا ليس عدلا..
ولأنّ الأيأم دول.. اليوم لك وغدا لي وغدا تدور الدّوائر.. وثبات الحال من المحال.. فأنا أتصوّر.. أقصد يعني أتخيّل أعني أنني أخرّف.. وأتساءل.. هل سيأتي يوم يحظى فيه الكاتب بما تحظى به الرّاقصة؟!! يا عيني.. سنستولي نحن أصحاب القلم على شارع الهرم.. وكازينو الليل سيصبح اسمه منتدى (العقّاد) وكازينو البارادي.. سيصبح السمه كازينو (كرمة ابن هانئ) .. والأندلس سيصبح اسمه كازينو (الشعر العربي).. أتخيّل نمرتي في النّايت كلوب.. يطلع صاحب المحلّ ليقدّمني بكلمتين فقط.. والآن مع يوسف معاطي. وأطلع على المسرح.. وأواجه الجمهور بخجل ثمّ أقول : (الحقيقة أنا مش أدّ الكلام الكبير اللي قدّمني بيه صاحب المحل.. أنا ما استاهلش كلّ ده..حقيقي.. هو بالغ شويّه.. واسمحو لي أحيي كلّ اللي شرّفونا الليلادي.. من السّعوديّة الشاعر الأمير عبد الله الفيصل، ومن الكويت الشّاعرة سعاد الصّباح.. ومن لبنان الشّاعر الكبير نزار قبّاني.. (تصفيق حاد) وباحيي مصر وكلّ فنّانيها وشعرائها.. وبعد أن أشعوذ الليلةبالتّحيّة.. ألف وأنظر إلى الفرقة.. فرقتي على فكرة مجموعة من الأدباء الشّبّان.. وبعد أوّل مقالة ساخرة أقرأها على الزّبائن.. تهيص الصّالة وتبدأ النّقطة.. والنّقطة في كباريه الأدب والشّعر لا تلقى على الفنّان كما هو متّبع وإنّما يمكن أن تكون النّقطة اشتراكًا سنويًا في دوريّة ثقافيّة أو موسوعة هامّة في التّاريخ.. وإذا كان الزّبون مريّش قوي ومثقّفًا حقيقيًا يمكن أن ينقّطني ب(الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) .. أمّا الزّبون الجاهل فبالتأكيد ح ينقّطني بسكاته.. بعد المقالة السّاخرة.. نخش بقى ع الصهللة الجامدة أوي.. قصيدة شعر عمودي.. يا سيدي.. السهر يحب الحاجات دي يا اخوانا.. أنا سهّير قديم.. بعد ذلك تبدأ فرقتي في عزف صولوهات.. عزف منفرد، يعني يقوم به كل أديب شاب. ده يعمل لنا حتّة قصّة قصيرة.. وده زجا عامّي.. والصّالة تكاد تنفجر من فرط المتعة.. ولكن.. يشير لي مدير المسرح أن أنتهي بسرعة من الفقرة.. لأنّ النمرة اللي بعدي جاهزة.. وهي نمرة خطيرة.. مع الفنّان الرّائع حسام حازم. أنهي فقرتي بسرعة ففي كباريه الأدب أصول برضه. وأخرج وأسلّم عليه وأقبّله بسرعة لأنّ عندي نمرًا ثانية. وقبل أن أخرج نتقاسم كتاب (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) .. الثلث يأخذخ صاحب المحل وأنا الثلث والفرقة تأخذ الثلث. ونركب الميكروباص أنا والفرقة وطيران على كازينو (الجاحظ) .. لازم نكون ع المسرح أربعة وربع.. هكذا طول الليل. حتى يطلع الصّباح وأذهب فورًا إلى أيّ أوتيل لأكتب قصّة جديدة، أو مقالا أو قصيدة.. فزبائن كازينوهات الأدب والفن لا يطيقون التكرار.. يحبّون التجديد.. بعكس زبائن كازينوهات هذه الأيّام..
وليس معنى أنّ النّقطة كتبًا ثقافيّة تُضاف إلى رصيد مكتبتي أنّ الأديب لن يكون ميسور الحال.. ستُباع القصائد بآلاف الدولارات والمقالات والقصص القصيرة ستمثّل ثروة.
وستصبح الرّاقصة وقتها مشروعًا فاشلا، أشبه بكاتب في أيّامنا يطبع كتابًا على حسابه فيخسر فيه الجلد والسّقط.. أما الأدباء والشعراء فسيلأكلونها والعة. وفي الصّعيد الجوّاني سيتربّصون بعطيات ابنتهم لأنّها انحرفت واشتغلت أديبة. ولن يعمل بوليس الآداب في كباريهاتنا.. كيف ونحن كل شغلنا في الآداب والفنون. ربّما يضعون رقيبًا على المصنّفات في كل نايت كلوب أو ناقدًا فنيًا. وستحرر المحاضر للشعراء الذين يكسرون الوزن ويخرجون عن البحر والتفعيلة.. والديسكوهات ستغلق أبوابها أيضًا، ستتحوّل إلى دور للترجمة. ويهمس لي صديقي (الفلاني) : "أنا رايح ديسكوتيك (تشيخوف) .. في حتّة بتّ مترجمة هناك حكاية" .. ومع ارتفاع المستوى المادي والثراء الفاحش للأدباء وأصحاب القلم، لن تجد الرّاقصات لهنّ عملا ولا مورد رزق، اللهمّ إذا فرجها ربّنا برقصة هنا أو هناك في قصور الثقافة أو في معرض الكتاب الدّولي.. يا سلام.. ماهذا النّعيم.
وألتقي بالصّدفة بزميلة الدّراسة (سهير) .. واقفة في الشّارع في عز الحر تشير إلى ميكروباص ليوصلها إلى بشتيل حيث تسكن، أركن بسيّارتي الفارهة وأناديها.. سهير ياللصدفة الجميلة.. اركبي عشان أوصلك.. تركب بجواري.. الشقاء في عينيها والفقر.. ورجليها مشققة من المشي.. إيه يا سهير.. إيه اللي حصل؟.. وبتشتغلي إيه دلوقت.. تجيب في أسى: "رقّاصة" .. أمدّ يدي وأخرج عشر بواكي من تابلوه العربيّة وأدسّهم في يدها، تمتنع في البداية ولكنني أصر.. خلاص بأه ..عيب.. أنا عمومًا لن أتركك.. أعطيها (بدائع الزّهور في وقائع الدّهور) لابن إياس. وأتحفها ب(البخلاء) للجاحظ.. و(العقد الفريد) لابن عبد ربّه.. بمجرّد ما أن ترى سهير أمّهات الكتب هذه، توطي على يدي لتقبّلها فأسحبها بسرعة.. وأقول لها: "خلّصيهم انتي بس.. واستوعبيهم كويّس.. وأنا إن شاء الله أشوف لك شغلانه معايا في الكاباريه" ..
وفي كاباريه الأدب والفن.. لا يعتزل الأديب حينما يشيخ ويترهّل جسده. بالعكس تصبح نمرته مطلوبة أكثر.. .. إلا إذا توقّف عن الإبداع، وحتى إذا حدث هذا لا ينفض عنه الزّبائن والمعجبون كما يحدث في الكباريهات العاديّة..لا.. يعتبرونه رمزًا.. ويظلّ قيمة كبيرة حتى إذا لم يقدّم نمرته.. بل ويعيدون طباعة أعماله وقراءتها على الزّبائن، وتجد لها صدى كبيرًا. ما هذا الجمال..
حتى سائقي التّاكسي الذين يأخذون الزّبائن إلى الكاباريه لا يستغلّون الزّبون ويقولون له: "50جنيه عشان بأرجع فاضي" .. هذا كلام لن يحدث، فسائق التاكسي سيكون على درجة من الثقافة والوعي، وسيكتفي من الزّبون غالبًا بمناقشة على مستوى رفيع حول الشعر المنحول أو تطوّل القصّة القصيرة.. عشان يجي يجيب حق البنزين..الله!! يا عيني..يا سيدي..