الصور القديمة
2009-02-17
جلست بجانبه .. تنظر إلى یده التي تحمل فنجان الشاي .. حركاته غیر متسقة .. وعروق یده بارزة .. یبدو شاحبا علیلا .. یھتز الفنجان فتنسكب قطرات من الشاي على ملابسه..
"ما بك یا أخي ؟"
یجیبھا بلا تفكیر " لاشيء .. مجرد إرھاق بسیط "
نظرت إلیه .. لا تناقشه .. ولكن تصرخ عیناھا في صمت ..
سألھا " ما بك أنت ؟؟ … لم تحدقین بي ھكذا .. أھي أول مرة ترین فیھا أخاك ؟؟"
أجابته بصوت تملؤه الحسرة " لا.. لكن .. لم أعد أراك كما كنت في السابق .. تغیرت كثیرا "
ینھي الحدیث بسرعة قائلا وھو یضع الفنجان على الطاولة في طریقه للخروج " مشاغل .. مشاغل "
تنھض ھي أیضا .. متثاقلة تتجه إلى غرفتھا مرددة لنفسھا " كم أتمنى لو لم یكن فارق العمر كبیرا بیننا ..
ربما كنت سأتمكن من التحدث معھا ومناقشتھا في كثیر من الأمور .. لكن .. "
في غرفتھا فتحت ألبوما تحتفظ فیه بصور قدیمة لأفراد العائلة .. ألقت نظرة على الصور .. صور عدیدة ..
ھي وصدیقاتھا .. أمھا وأباھا في صورة ممیزة تم التقاطھا في أستودیو خاص .. أخواتھا اللاتي تزوجن ..
أخوھا وزوجته قبل أن تتركه یأسا منه .. والعدید من الصور .. توقفت عند صورته .. كم كان یبدو وسیما
وأنیقا تتحسر حین تذكر كیف كان أخوھا شابا تملؤه الحیویة والقوة .. كانت الأناقة سمته التي ميزته.. كل مرة كان یود فیھا الخروج من المنزل ینادیھا..
" حصة .. تعالي إلى غرفتي "
وحین تتجاھله لانشغالھا بلھوھا یزداد الصوت حدة .. وتجري ھي إلى غرفته لیسألھا بدوره وھو ینظر إلى نفسه في المرآة
" هه .. ما رأیك في الكندورة. *. أتبدو صفراء "
تھز رأسھا نفیا ویلاحظھا من المرآة .. ویسألھا " حسنا .. والغترة .. ما رأیك ؟؟"
تصمت ولا تجیب على سؤالھ .. ثم سرعان ما یلتفت مستنكرا " أتبدو صفراء ؟"
وتمد ھي یدھا الصغیرة قائلة " أولا .. أعطني درھما "
فینقدھا المال لتقول له قبل أن تجري إلى البقالة " أنت أجمل أخ في الدنیا كلھا "
طرقات خفیفة على الباب انتشلتھا من الذكریات .. أطل أخوھا …
" حصة .. أین أمي ؟"
تنظر إليه بأسى " لابد أنھا في المطبخ "
فیقول لھا بمرح مصطنع " أبلغیھا إني قد أتأخر اللیلة .. ثم .. ما بك تنظرین إلى ھكذا "
تود أن تقول له " یكفي ما أنت فيه " ولكنھا تبتسم ابتسامة باھتة قائلة " راشد .. یبدو لي أن كندورتك تمیل إلى الصفرة قلیلا"
یبتسم قائلا " ألم تنسي ؟"
تكمل كأنھا لم تسمع تعلیقه " وغترتك أیضا .."
یتركھا ویتجه خارجا " لا یھم یا عزیزتي .. لا یھم "
تتبعه إلى الخارج .. یشیر لھا مودعا .. شعور حزین یعتریھا .. إحساس غامض یثقل أنفاسھا ..
یفزعھا صوت أجش " ھل خرج أخوك ؟"
فترد بحزن " نعم یا أبي .. وطلب من أن أبلغك أنه قد یتأخر اللیلة "
یكمل بغضب " یتأخر .. أو لا یعود إطلاقا .. كلاھما سیان عندي "
یدخل إلى غرفته ویتركھا وحیدة تنظر إلى الفراغ .. تفكر في صمت مقیت .. یعتریھا الأسى حین تذكر كلمات والدھا .. تلك الكلمات التي أسدل بھا الستار على موضوع إدمان راشد ومعالجته حین قال لعمھا الذي طلب منه أن یقنع ابنه في الاستمرار بالعلاج ..
" عن أي ابن تتحدثون .. أنا لیس لي أبناء .. راشد توفى منذ زمن بعید "
ومنذ ذلك الیوم .. لم یمد یده لتلامس ید ابنه .. ولم یدخل غرفته .. وان جمعھما مجلس واحد .. یكتفي
بالسكوت واختلاس النظرات .. لتزداد الھوة اتساعا ویصبح كل في طرف بعیدا عن الآخر .
قالت لصدیقتھا ذات یوم " والدي رجل قاسي .. لا یرحم أخي .. یعامله بإھمال .. أبي لا یحبه "
فأجابتھا " لا أظن ذلك .. كل أب یحب أبناؤه .. قد یعاملھم بقسوة .. ولكن إن فعل ذلك .. فلمصلحتھم ..
صدقیني .. إن والدك یھتم كثیرا بأخیك .. یعاني من مشكلته .. وقد یكون تجاھله نوع من الرفض لما یحدث بسبب عجزه عن تغییره "
تتنھد حصة قائلة " لم حدث لك ھذا یا أخي .. لم أنت بالذات .. كنت دائمة الظن أن من یسافر للخارج یتعرض لھذه السموم .. لم اكن أعلم أنھا موجودة ھنا في دیارنا "
تحتضن الألبوم وتسرح مع ذكریات الصور القدیمة .. ینتشلھا صوت أمھا .. " حصة .. أین أخوك؟"
تجیب بطریقة آلیة " خرج .. وسیتأخر اللیلة "
تنھدت الأم واستدارت لتخرج من الغرفة لكنھا سرعان ما توقفت ذاھلة مما سمعت من ابنتھا التي قالت "
أمي .. لم أبي یكره أخي ؟"
أجابتھا بعصبیة بالغة " من قال لك ھذا الھراء .. كیف تجرؤین على ھذا القول .. أو لیس ابنه ؟"
تبكي حصة " أنا لاحظت ذلك .. أبي لا یحب أخي .. یعامله بقسوة كأنه لیس ابنه "
تجلس الأم متھاویة على طرف السریر " حصة .. یا ابنتي .. نعم أبوك یعامل راشد بقسوة .. لكنه .. یحبه "
ترد حصة بصوت متھدج " لا یحبه سمعته یقول من الأفضل له أن لا یعود إلى المنزل "
تغالب الأم دموعھا .. تخرج كلماتھا مصبوغة بلوعتھا " ألا ترین .. كیف أصبح حاله .. ؟ .. یبدو مریضا .. ترتعش أطرافه "
تكمل حصة " ولا یقوى على حمل فنجان شاي .. نعم .. أعلم كل ذلك .. وأعلم انھ یرفض العلاج .. ولكنھ یعاني .. بالرغم من كل شيء .. فھو یتألم "
شعور غریب یعتریھا ھذه اللیلة .. ھي لیست أول لیلة یتأخر فیھا.. ولیست أول لیلة تسھر فیھا مع أمھا حتى یھرب سواد اللیل بعودة أخیھا متسللا …
قالت لأمھا " لم لا نكلم أخي .. لم لا نقنعه بالعلاج "
أجابتھا بألم " أنا .. لا أستطیع یا ابنتي .. "
تحتد حصة " ولم لا.. أنت .. وأبي .. وأنا .. نحن أھله .. لم لا نناقشه .. لم لا نوضح له أن ما یفعله لا یدمره ھو فقط .. بل یدمرنا نحن معه "
تشیر لھا أمھا بیدھا " اتركي عنك ھذا الحدیث ..لم یعد ذا جدوى "
تنظر إلى أمھا مرددة في نفسھا " ھي تبكي بصمت .. وأبي یعامله بقسوة .. وأنا لا یحق لي مناقشتھ في مثل الأمور .. وھو یحطم نفسه ویبتعد عنا ، كما تتسرب حبات الرمل من بین أصابعنا .. لعنة الله على أصدقاء السوء .. سحبوه إلى الھاویة"
تسھر مع أمھا بانتظار عودته .. رحل الفجر وحین أقبلت الظھیرة رن الھاتف .. رجل على الخط الآخر یطلب والدھا .. یتناول السماعة .. ویتحول حدیثه رویدا رویدا إلى الھمس .. تقترب منه علھا تسمع شیئا أو تفھم شیئا .. تنظر إلى والدتھا یبدو أن الأمر خطیر .." انظري إلى أبي"
یضع والدھا السماعة .. ینظر إلى كلتیھما .. كل ترید سؤاله عن فحوى المكالمة .. تدور الأسئلة في عیونھن .. ینتظرن الإجابة .. قبل أن یسألن .. یتركھن ویتجه إلى غرفته " أبوراشد .. ما بك ؟ .. خیر ما بك "؟
یشیر لھا بیده تتبعه في ھلع .. تسأل حصة نفسھا " ھل أتبعه أنا أیضا؟
تقف عند باب غرفتھا وعینھا معلقة على الباب الآخر .. تتمنى لو تحكي لھا الجدران .. یخرج أبوھا .. ینظر إلیھا والحزن یصرخ من عینيه ویخرج من المنزل .
بقایا دموع في المآقي تحكي ما حدث بعد أن عجز اللسان من ھول الأمر تردد حصة " ھل الأمر یتعلق بأخي؟"
تتمتم الأم بصوت متھدج " یا الله .. یارب رحمتك .. یا الله ترحم ابني"
انتظرت أباھا .. الوقت یمر ببطء قاتل .. استقبلته عند البوابة .. جرت خلفه .. وأمامه .. مشت بجانبه .. وھي تعید سؤالھا " مابه أخي راشد ؟"
توقف عند الأم.. نظر إلیھا وعیناه تبتعدان عنھا " عظم الله أجرك یا أم راشد "
ألقى بكلماته و تركھن في ذھولھن ودخل غرفة ابنته. جمدت دموع حصة وامتنعت .. جمدت ھي معھا .. تھاوت أمھا على أحد الكراسي .. تصرخ حصة " لا یا أمي .. لابد أن أبي مخطئ .. نعم ھو مخطئ "
تتقدم إلى الغرفة لتسأله .. تسمع بكاء حزینا یمزق سكون الذاھلین .. تنظر إلى أمھا متسائلة " ھل یعقل أن یبكي أبي"
تسأل للتأكد أنھا لیست ھي التي تبكي " أبي الرجل القاسي .. یبكي من أجل راشد ؟.. لماذا .. ولم الآن؟"
جرت إلى غرفتھا .. لا تعلم ما تفعل .. أتبكي .. أم تسكت .. أتواسي أمھا وأباھا .. من یواسي من ؟ .. تدور في غرفتھا .. لم یعد عقلھا قادرا على التفكیر .. تبحث كالمجنونة عن لاشيء ..تحمل الألبوم .. وتنبش في صفحاتته.. تبحث .. تبحث في الصور القدیمة .. عن أخیھا .
2008
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |