فخ الأمنيات في رواية ( الصيف قبل الظلام ) لـ دوريس ليسنج
2009-03-27
ربة المنزل التي تسعى لإنقاذ أحلامها من الضياع والموت بعد أن تحولت إلى مجرد زوجة وأم .. المرأة التي عاشت تجارب مختلفة في كثير من القصص القصيرة والأفلام السينمائية والروايات لعل أجمل هذه التجارب بالنسبة لي حينما كانت هذه المرأة هي ( دورا ) في القصة الرائعة للكاتبة الإيطالية ( أنجلا ديانا دي فرنشيسكا ) : ( لا تجعليهم يجدونك ) ، وأيضا حينما كانت ( فرنشيسكا ) التي جسدتها بعبقرية ( ميريل ستريب ) بصحبة أحد أحب أيقوناتي السينمائية ( كلينت استوود ) في فيلمهما الساحر : ( جسور مقاطعة ماديسون ) وكذلك ( كيت براون ) في رواية ( دوريس ليسنج ) : ( الصيف قبل الظلام ) .. هذه الرواية ـ رغم أنها أصبحت أكثر جمالا حين استبعدت منها كثيرا من الصفحات المتخمة بالشروح والاستطرادات والوصف المستفيض والتفاصيل والأحداث التي لم يكن لها ضرورة عندي والتي كانت تشعرني أن ( دوريس ليسنج ) لا تريدني أن أكتشف شيئا بنفسي ـ هذه الرواية حققت قيمة مهمة للغاية في الفن الروائي لا تنجز كثيرا في رأيي وهي الإلهام بتأملات لم تتم مصادفتها بوضوح داخل صفحات الرواية وإنما تعطي إدراكا بشكل ما أنها الدماء الغنية التي تنشط وراء جلد الكلمات والسطور والتي وفرت الحياة الحقيقية للروح العميقة للرواية .
يحدث أحيانا أن تقرأ رواية وتجدها جميلة حقا ويكون بإمكانك التحدث كثيرا عن استمتاعك بقراءتها وتعايشك مع شخصياتها وأحداثها ومع كافة الأفكار والمشاعر التي أنتجت عبر صفحاتها ولكن يحدث أيضا أن تكتشف أن كل ما تحدثت به كان مطروحا في الرواية بوضوح تام ولم يكن متواريا عن عينيك كقاريء .. أن ما تحدثت به لم يكن نتيجة علاقة مع تساؤلات مختبئة دفعتك الرواية لاكتشافها والتواصل والاشتباك معها وإنما كان عبارة عن وصف التأثيرات الذهنية والنفسية المختلفة لتفاصيل صريحة حملها خطاب الرواية المعلن على إنسانيتك أثناء قراءتك لها.. هنا يكمن الرهان الحقيقي من وجهة نظري للرواية بشكل عام .. أن تحافظ على قدرتها على الإلهام رغم وفرة المعطيات المباشرة التي منحتها لك عبر صفحاتها الكثيرة بحيث تفتح لك أبواب متعددة نحو الوصول إلى ما لم تتضمنه ظاهريا فتحقق ما تعودّت القصة القصيرة أن تنجزه بفضل قصرها الشكلي وطبيعتها التكثيفية التي ينجم عنها الاتساع التلقائي لآفاق إيحاءاتها ودلالاتها الممكنة .
في ( الصيف قبل الظلام ) توافق ( كيت براون ) على العمل كمترجمة في لجنة مؤتمر ترعاه منظمة الغذاء العالمية في الوقت الذي سيسافر فيه زوجها وأبنائها كل منهم في رحلات مختلفة خارج البلاد .. بعد تأجير منزل الأسرة لإحدى العائلات الزائرة بدأت ( كيت براون ) عملها الذي استمر لأسبوعين عُرض عليها في نهايتهما نتيجة مهاراتها الممتازة وما أظهرته خلال تلك الفترة من قدرة رائعة على المساعدة وتقديم النصائح المفيدة عُرض عليها الاستمرار في العمل لمدة شهر آخر وبمرتب أعلى ليس كمترجمة بل كمنظمة للمؤتمر الذي تسببت العديد من المشكلات في نقله إلى ( تركيا ) .
في ( اسطانبول ) تتعرف ( كيت ) على ( جيفري ) وهو شاب أميركي وسيم ومثقف يصغرها في السن بكثير ويقضي وقته في التجول في أوروبا فتقرر السفر معه إلى ( أسبانيا ) .. بعد ممارستهما للجنس في الفندق أصيب ( جيفري ) بحمى شديدة ظلت تلازمه طوال فترة تنقلهما بين المدن الأسبانية فكان على ( كيت ) أن ترعاه جيدا باستدعاء الطبيب حين يلزم الأمر وإعطاءه الدواء في مواعيده ومراقبة حالته الصحية العامة وهو نائم .. لكن حينما بدأت تشعر بأعراض المرض على جسدها أدركت ضرورة العودة إلى بيتها بعد أن نال التعب من قدرتها على رعاية ( جيفري ) ولو حتى بزيارته يوميا في الدير الذي نقل للعلاج فيه بعد تدهور حالته .
حين عادت ( كيت ) إلى لندن اضطرت للنزول في فندق لأن منزلها كان لا يزال في حوذة مستأجريه ثم قامت باسئجار غرفة في شقة خاصة لتشارك فتاة اسمها ( مورين ) العيش فيها .. ( مورين ) التي مرت بعدة علاقات فاشلة وتعاني من الاضطراب بسبب حبها لأكثر من شخص وعدم قدرتها على اختيار من ستتزوج به وأيضا عدم ثقتها في الزواج ذاته .. هذه الفتاة ستتبادل مع ( كيت ) قصص من حياتيهما خلال وجودهما معا وستشعر أنها تشبه أمها كثيرا بل وستتعامل معها أحيانا على هذا الأساس بالضبط مثلما ستشعر ( كيت ) أن ( مورين ) لا تختلف عن أبنائها في عاداتهم وطرق تفكيرهم وعلاقاتهم الخاصة وصلتهم بها كأم للدرجة التي ستجعلها تبوح لـ ( مورين ) في بعض الأوقات بما لا يمكن أن تبوح به لأبنائها وهذا ما ستفعله ( مورين ) أيضا التي كان وجود( كيت ) بالنسبة لها فرصة آمنة لمواجهة أمها أو الأمومة بشكل عام وفي نفس الوقت إشباع احتياجها لهذه الأمومة بطريقة مختلفة لم تتحقق مع أمها الحقيقية .
لم تتوقف ( كيت براون ) عن استرجاع حياتها طوال رحلتها بعيدا عن البيت كأن هذا الانفصال بمثابة فرصة لتأمل هذه الحياة التي تركتها خلفها ومراجعتها وإعادة اكتشافها من جديد .. الفرصة التي قد لا تتوفر كثيرا بينما تحاصرنا هذه الحياة بشكل عادي وتجبرنا على الخضوع والاستسلام للعيش بين أسوارها رغما عنا .. كانت ( كيت ) تستعيد تفاصيل وأحداث ومشاهد كثيرة ومختلفة من طفولتها وشبابها ومن حياتها مع زوجها وأبنائها وجيرانها وفي كثير من الأحيان يكون الدافع لهذه الاستعادة حدث واقعي تمر به ( كيت ) خلال رحلتها يستحضر على الفور ذكرى ما فيخلق الجدل بين اللحظة الآنية وبين اللحظة القديمة عند ( كيت ) مجالا مناسبا لتحليل وتشريح أفكارها ومشاعرها وعلاقاتها بالآخرين ورؤيتها الشخصية للحياة والبشر .
ربما ( دوريس ليسنج ) تريد أن تحفزنا على التفكير في أن الورطة التي تعتقل وجودنا بالكامل وتفرض علينا كل ما يلائمها وكل ما هو ضدنا من أدوار هذه الورطة ليست خاضعة لظروف حياتية معينة أو مشروطة بحيثيات وملابسات قد تحدث أو لا تحدث بل هي قدر لا يتنازل أو يتخلى عن مهمته تجاهنا أبدا مهما اختلفت الظروف والأحداث .. ( كيت براون ) ربة المنزل التي حينما حاولت أن تجرب ألا تكون زوجة وأم واصلت الحياة رغما عنها حتى وهي بعيدة عن بيتها كزوجة وأم أيضا .. قامت برعاية ( جيفري ) في مرضه و( مورين ) في محنتها النفسية والعاطفية .. كأن وظيفتها في العالم في هذا الوقت من عمرها يستحيل أن تتبدل مهما حاولت الانفصال أو التحرر منها لأن القدر قرر مسبقا كيف يجعل بطريقته كافة الكائنات والأشياء تتسق مع بعضها وأيضا تنسجم مع الزمن الذي يحملها من مرحلة لمرحلة ومن دور لدور داخل مهزلته الهائلة المستمرة .
( دوريس ليسنج ) لا تكتفي بذلك بل ربما تريد أن تخبرنا أيضا بأن هذه الورطة تزداد شراستها ووحشيتها في إثبات وترسيخ نفسها كلما كانت هناك محاولات للهروب أو الانفلات منها وهذا ما حدث مع ( كيت ) التي تأكدت أثناء رحلتها وتأملاتها وتفكيرها في حياتها السابقة أن خروجها من البيت لم يكن سوى مواجهة أكثر مباشرة وحدة مع الواقع الذي لن يتغير وكشف أكثر إيلاما للحقيقة التي جربت تفاديها فصارت أكثر يقينا وأشد حسما .
( الصيف قبل الظلام ) رواية تريدك أن تتأمل أفكارا كثيرة لكن أتصور أن أكثر هذه الأفكار استحقاقا وجدارة بالتأمل هي المعنى الملتبس والغامض الكامن في أن نأتي إلى الدنيا ومزروع بداخل كل منا فخ ملغز ومراوغ لا يهدأ ولا يتوقف أبدا عن إنجاب الأمنيات التي نتصور أنها حينما تتحقق ستصل بنا إلى الكمال أو على الأقل إلى الاقتراب منه ولكن نكتشف أن تحققها هذا ليس إلا تعميق متجدد لنقصاننا ولهشاشة وجودنا بكافة صراعاته وتمزقاته وتشوهاته المختلفة في الوقت الذي لا يتوقف فيه فخ الأمنيات بداخلنا عن تطوير نفسه كي يضمن دوام ارتباطنا والتصاقنا الإجباري بالعالم .
* * *
08-أيار-2021
19-كانون الثاني-2010 | |
08-أيلول-2009 | |
30-آب-2009 | |
23-آب-2009 | |
16-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |