شعر الشباب وشباب الشعر
خاص ألف
2007-04-04
(حركة الشعر في مصر)
يقول أبو تمام :
إن يختلفْ ماء الغمام فماؤنا عذب تقطر من غمام واحد
أو يختلف نسب يؤلف بيننا أدب أقمنـاه مقـام الوالد
ويبدو أن هذا الأدب الذي أقامه أبو تمام مقام الوالد والذي يعانى الآن كثيرا من الجحود والنكران، يأبى أن يتنازل عن تلك الأبوية، كما أن روح التآخي التي تشيع من خلال هذين البيتين مازالت تجد لها متنفسا لدى الأدباء وتمدهم ببصيص من الوعي وتحثهم على ضرورة الالتفاف حول (الأدب / القيمة) (الأدب / الأب).
بدا ذلك جليا في الآونة الأخيرة، من خلال حرص الكثير من الشباب المهتمين بالأدب والإبداع على تكوين جماعات أدبية، مثل جماعات: (آدم، ابدأ، الجلسة الثقافية، جذور، ريشة وقرطاس، مغامير....) مما استدعى وجود تجمع أدبي هو "ورقة وقلم" الذي يحاول أن يجمع ـ بشكل ما ـ شتات الجماعات بعدما جُمع ـ بشكل ما أيضًا ـ شتات المبدعين الشباب، والهدف من وراء تلك الجماعات هو أن يعوضوا ما فاتهم من تحصيل، ويتبادلوا فيما بينهم الخبرات، ويحفروا لتجمعاتهم مكانا في الحياة الثقافية، ويحاولوا أن يخلقوا مناخا إيجابيا فعالا بين القاعدة العريضة من الجمهور وبين المثقفين والمبدعين!
وتلك الجماعات ـ الآخذة في التكاثر ـ لها بعض السمات المخالفة لما يكاد يكون شبه سائد على مستوى الشكل والمضمون، ومن أبرز تلك الاختلافات الإيجابية، احتفاؤهم بالشعر والشعراء، فصب جل اهتمامهم بالأمسيات والاحتفاليات التي ترعى الشعر وتحاول أن تعيد له مكانه المفقود سواء في الحياة العادية أو في الوسط الأدبي، مخالفين بذلك ما يتردد بأننا لسنا في زمن الشعر وأن هناك من الأجناس الأدبية ما هو أولى بأن يكون ديوان العرب الحديث، وتمثل ذلك الاحتفاء في إقامة العديد من الأمسيات والاحتفاليات المقصورة على الشعر وحده ـ كعكاظ الشعراء ـ كما حدث في بعض المؤسسات الأهلية مثل ساقية عبد المنعم الصاوي وأتيليه القاهرة أو في إحدى مؤسسات وزارة الثقافة مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب.
كما ظهر وجه من وجوه ذلك الاختلاف في حرص هؤلاء الشباب على دعوة كبار الشعراء ومن سبقهم في السن والتجربة مثل ( أحمد عبد المعطي حجازي، محمد إبراهيم أبو سنة، محمد الشهاوي، أحمد بخيت،..... ) لحضور أمسياتهم والاستماع لهم إبداعا ورأيا، مخالفين بذلك ما يردد من مقولات الحداثة الكبرى مثل "قتل الأب" و "القطيعة المعرفية"...، ومرددين أنهم جيل له آباؤه وله رواده والجدير بالذكر هو أن تلك الجماعات لم تقصر نشاطها على أعضائها فقط بل سعت إلى الشعراء غير المنضمين لجماعاتهم موسعين بذلك دائرة التآخي وعباءة الأبوة المفترضة.
وإذا نظرنا إلى شعر هؤلاء الشباب ـ سواء كان فصيحا أو عاميا ـ فسنجد الكثير من التقارب في الأطر المضمونية والشكلية العامة، مثل المحافظة على بعض التقاليد الشعرية بل والأخلاقية، كما سنجد بعض الاختلاف الفني في ماهية الشعر وغايته، وفي طريقة التشعير، وفي نوعية الخطاب الشعري، وفي حساسية التعامل مع العصر، وفي الحوار مع موسيقى الشعر، وفي علاقة الشعر بالموروث، وفي كيفية العلاقة بين الشعر واللغة، وفي شعرية الحالة الدرامية، وذلك الاختلاف يتيح تناغما عذبا ويعد إشارة إيجابية لما يتمتع به هؤلاء الشعراء من استقلالية نسبية عن بعضهم البعض، وفي السطور القادمة سنحاول تلمس السمات العامة لقصائد بعض هؤلاء الشعراء.
فإذا نظرنا لقصيدة الشاعر أحمد حسن المعنونة بـ "مساء عابر لحزن مقيم" والتي يقول في مطلعها :
مساء
مطل على شرفة
وليل
بلون الحنين المعاد
ومقعد صمت
بلا بسمة
وسور وأفق بغير امتداد
وقلب
تراءى على وحشة
وعين
مهيئة للسهاد
فمن ذا الذي تنتشي روحه
بأن تتبعثر عبر البلاد
وأن تتمزق
في كل درب
وأن تترنح
في كل واد
فسنرى أن الشاعر يقيم حوارا بين الليل والشرفة، جاعلا الشرفة في وضع الثبات الكوني السرمدي، والمساء هو الذي يطل عليها، مخالفا بذلك الوضع الطبيعي والترتيب المنطقي بين الكوني والحياتي، وواصفا المقعد بالتجهم وعدم الابتسام على اعتبار أنه معادل لمن يجلس عليه، وكأن الموات هو القدر المحتم على الشاعر الذي تتحوطه الأسوار والآفاق غير الممتدة، ولعل وصف الأفق بأنه "بغير امتداد" قد يفرّغ ما للكلمة من معنى متداول ـ وهذا من غايات الشعر الكبرى ـ كما أنه يضيف حساسية رؤية لابن المدينة، الذي حرم من الأفق الممتد، وأصبح أفقه مليئا بالـ "البناء والسياج، والمربعات والمثلثات" فارتد الوقع إلى قلب يتراءى على وحشة وعين مهيئة للسهاد .
أما الشاعر أيمن مسعود في قصيدة " نزوح" فقد اختار أن يعقد مفارقات بين الألفاظ ليزيد من شاعرية اللغة والقصيد واعتمد في الأغلب الأعم على المفارقة الحركية، فيقول مثلا :
يا نازحا
نحو انحنائك
لن تطاول ما تريد
تقسو
وتلعن ما ختمت
وأنت تبدأ من جديد
تبني على كتف الزمان
الشمس
بحثا عن مناد في الوريد
تبكي لما اقترفت يداك
وأنت تذنب في السجود
يا أيها المنزوح
قبلتك الوحيدة لن تعود
وفي تلك القصيدة التي بدأها الشاعر بتناص مع الشاعر الجاهلي امرئ القيس حينما قال "اليوم أمر" تظهر بعض السمات المهمة من محافظة على الموسيقى بشكلها التقليدي والحرص على تشعير المفارقة المباشرة كقوله مثلا " فذهبت نحو سفينتي أحتلها وأنا هنا"، و"يا نازحا نحو انحنائك لن تطاول ما تريد" و"تلعن ما ختمت وأنت تبدأ من جديد" و" تذنب في السجود" وكل تلك المفارقات سواء كانت لفظية أو معنوية يتربع وراءها اهتمام بالغ بنوعية عريضة من الجمهور الحاضر الآن وهنا، مما عدل من مسار القصيدة فبدلا من أن تتحاور مع التناص، استخدمته كالطعم الذي يجذب انتباه الجمهور، ليحيلهم فيما بعد إلى الواقع المعيش وما به من انحناء.
ثم تأتي قصيدة "في البدء كانت الولادة" للشاعر تامر عبد الحميد الذي اختار أن ينهل من نبع الموروث كهدف في حد ذاته، وذلك ما حتمت عليه التجربة التي يحاول فيها أن يضع تعريفاته الخاصة لعالمه الشعري، متناصا في ذلك مع الموروث، بعيده وقريبه فنرى تناصات مع محمد عفيفي مطر وكارم عزيز وصلاح والي، كما يورد تناصات مستترة في عمق أركيولوجية الكلمة متشابكا في ذلك مع الموروث البعيد الذي نسج الكثير من آليات التفكير والتخييل ففي تلك القصيدة يقول:
(أنت سفينة
فلتحمل ما عجزوا عن قوله
ولتنطق رمزا)
عمدني خمسا
ورقاني بالفاتحة ونام
فحلمت
وبصرت بما لم يبصر
فقبضت كثيرا
وقذفت المعنى في بطن التنور
رسمت صليبي بين الحوت وبين الذئب
خلعت قميصي قبل الهجرة
بت بحضن الناقة في النيران
لكني
ـ رغم قراءاتي السبعة ـ
لم أصبح شيخا
وبقيت سفينة
وفي هذا المقطع الذي لا يخلو أي شطر شعري فيه من الإشارة إلى شخصية تراثية أو حادثة دينية، فمنذ أن قال "أنت سفينة"، ـ التي ربما تكون سفينة الشمس التي تنقل إلى الحياة الأخرى، أو ربما تكون سفينة نوح المعادلة لكل مظاهر الحياة على وجه الأرض ـ انهالت التداعيات والاستدعاءات بلا نتوء أسلوبي أو استعراض ثقافي.
فمن هارون الذي ينطق بما يعجز موسى عن قوله، إلى زكريا الذي يكلم الناس رمزا، ثم إلى المسيح الذي يعمِّد، لكن خمسا كما في الإسلام، ثم إلى هدهد سليمان الذي أحاط بما لم يحط أو بصر بما لم يبصر، ثم إلى السامري الذي قبض قبضة من أثر الرسول، ثم إلى الشاعر الذي يقذف بالمعني في حجر الأنثى ثم يعيد اكتشافه والسعي وراءه، ثم إلى الصليب الذي رسم ما بين حوت يونس وذئب يوسف، ثم إلى الهجرة المفروضة على كل الأنبياء، ثم البيات بحضن ناقة صالح في قلب النيران التي أعدت لإبراهيم.
وبعد كل تلك الرحلة الشاقة له وللقارئ على حد سواء، يستسلم إلى النهاية التي لم تأت بما تشتهى سفن المعرفة، فيخلص الشاعر إلى أنه في آخر الأمر لم يصبح شيخا وبقي كما هو، سفينة، غير أن السفينة التي أوردها في أول المقطع، ليست هي السفينة التي في أخر المقطع لأنها أبحرت واكتسبت خبرة الإبحار وشعرت بلذة الموج العاتية، وتنسمت الريح البحري، ومن ثم يكون الخلاص على تلك النتيجة ـ الذي أورده بلا أي انفعال أو ضجيج ـ يكاد يكون أمرا حتميا ويقينيا ودافعا لاستمرار الحياة والمعرفة والولادة من كل شيء وفي كل شيء، كما يقول في موضع آخر "من منا لم يولد أكثر من مرة".
واستكمالا للروح الرومانسية التي نلمحها بوضوح في عدد من التجارب، تتكشف هذه الروح بشكل جلي في قصائد كل من حسام جايل، وأسماء جلال إلا أنه في قصيدة جايل المعنونة بـ "مسافر" والتي يقول فيها:
يمشي يمني نفسه
ويرسم الحنين قلعة
والحب غيمة
للبائسين الهاربين من حياة
تسرق ما تهب
أواه يا ليل كفي
ضم الغريب للغريب
كلاهما عاري النسب
كلاهما
إن مسه العشق نصب
يا رب
زد في المدد
لا تظهر تلك الروح التي ألفناها عند علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي، بل تبدو وكأنها استلهمت تلك الروح المستغربة والمتغربة الناتجة من اصطدام الشاعر بالكون وماديته، مضيفة إليها حساسية قصيدة التفعيلة التي شكلها في مصر كل من صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، بل يأتي ذلك الشطر الذي يقول "جايل" فيه "ضم الغريب للغريب كلاهما عاري النسب" كدعاء مكمل لما شعر به أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدة الطريق إلى السيدة حينما قال" هذا الكئيب / لعله مثلي غريب/ أليس يعرف الكلام/ يقول لي حتى سلام"، وذلك ـ وإن جاز أن نسميه بالتنناص الاستكمالي ـ يعد تأكيدا على وعي الشاعر بتناصه كما يعيد إلى أذهاننا فكرة أن هذا الجيل له آباؤه وله رواده الذين يحتفي بهم على المستوى الشخصي وعلى المستوى الإبداعي.
أما عند الشاعرة أسماء جلال فتبدو تلك الروح الأنثوية البوَّاحة التي ترى في الرجل كل الأضداد، ويتشابك في وعيها احتفاء مأجج بكل من الروح الجسد في الآن نفسه، وتمارس نوعا من أنواع الحلول في الرجل وبالرجل، بحيث تجعل وجود الرجل هو السبب الرئيس لوجودها، مع الحرص الشديد على أن تعلو بصوت الموسيقى الداخلية والخارجية، وكأن ذلك العلو هو الأداة الوحيدة المناسبة لتلك الحالة من الاحتفائية فتقول مثلا في قصيدتها المعنونة بـ "ورأيت معه السماء الثامنة"
يجيء إلي
مثل الصيف
في عيني ينسرب
ويسكن في شراييني
وفوق الروح ينسحب
وحيث يكون ألقاه
وألقاني
وأنقش زهر أحزاني
بيمناه
وأعرفه
فأعرفني بسيماه
وأطلق بوح وجداني
وعيناه تزخرفني
وأقترب.
ومن الملامح المهمة التي تظهر في هؤلاء الشعراء: ابتعاد المعظم عن قصيدة النثر متخذين منها موقفا عدائيًا حينا واستغرابيًا حينا آخر، فلا نكاد نلحظ لها وجودا حقيقيا فاعلا، باستثناء بعض المحاولات الفردية التي يقوم بها بعضهم على استحياء وتردد، فالشاعر "عمر حاذق" يكتب القصيدة التفعيلية والعمودية، إلا إنه في الآونة الأخيرة مال ناحية قصيدة النثر فكتب قصيدة بعنوان "لن أستحم" يقول فيها:
وحيث رقطت حبيبات عرقك
على صدري وذراعي
كانت اللآلئ تفقس لتوها
وتتحدر على جسدي
كخيوط المطر الوهاج
التي تترقق على خدي القمر
عندما يتلهف على شمسه الحبيبة
وحيث شقت أظافرك
خدشا طوليا في ظهري
ابتسمت ضفتاه عن نهر ذهبي
نفثه الرب للبشر
في لحظة صفاء نادرة مع سيجارته.
والقصيدة وإن كانت تحاول أن تصف اللحظات المتوهجة بين الرجل والأنثى، مستعينا على وصف ذلك التوهج بكل المفردات الواقعية لتلك الممارسة، وإن كان الشاعر قد نجح في بعض الأحيان في أن يضيف خيالا تركيبيا عن طريق وصل الجمل بالأسماء الموصولة ومحاولة تفعيل ذلك الخيال على أكثر من مستوى، إلا إنه في آخر الأمر قد كشف عن فخ عميق قد يسقط فيه من يحاول أن يغاير أدوات وتراكيب وأساليب التخييل والتشعير في قصيدة النثر، وذلك لأن الشاعر حاول جاهدا أن يكتب قصيدة النثر بلا أي تأثيرات قريبة، وفي النهاية يمكن أن نقول إنه قد رجع إلى آليات سابقة حتى على قصيدة التفعيلة، واختتم قصيدته بأشطر تكاد تكون قريبة من "كأنك شمس والنجوم كواكب".
أما الشاعر محمد منصور فقد آثر أن يبتعد بقصيدته المعنونة بـ "ربما في المرة القادمة أدرك القطار" عن الحلول الجاهزة والمسلمات الشعرية، ووقف في "الشارع المسدود يبتكر الهروب" متحدثا مع الموت تارة ومع الصمت تارة أخرى، آخذا على عنقه مهمة كشف المجردات التي تحاور معها الشعر منذ القديم كالموت والضعف والخوف والفقر فيقول في تلك القصيدة:
الميتون يحاولون الآن خلخلة الجدار
يوسعون مساحة
للصائمين عن الكلام
القادمين على خيول لم تزل مفقوءة العينين
تنتظر السماء
الميتون يفتشون الآن عن أرواحهم
في كف شحاذ
يسلط نحو وجهي كلمة مبلولة الجفنين
غايتها انضمامي للرفاق الميتين
الميتون يفضلون النوم في حضني
يطمئنني انحباس الصوت بين شفاههم
وتكاد تفزعني الحواديت التي يحكونها
بعيونهم عن موتهم تحت الجدار.
فيصور ملك الموت وكأنه شحاذ يتسول منه روحه، ويستعطفه لينضم للموات، غير أن "الحكاية" و "الحواديت" التي وهبت شهرزاد الحياة، وجعلت منها أسطورة الأساطير، هي التي تبقي سواء منه هو أو من الميتين، الذين أفزعوه بما رأوه من موت تحت الجدار، ذلك الجدار الذي رسخ في الوجدان الجمعي بأنه إشارة على الكنز ـ كما في قصة موسى والخضر مثلا ـ فيكون الموت هو الكنز الحقيقي الذي قد نهرب منه.
وثمة محاولات شعرية متزنة يبذلها الشاعر نزار شهاب الدين غايتها الشكل اللغوي الأنيق، والمعنى العام الذي تؤطره الشاعرية، وصياغة التجربة بنوع من أنواع المهارة اللغوية، والتي تتحلى بقليل من المجاز الخلاق المحلق، إلا أن كثرة الاهتمام باللغة وتراكيبها وجرسها الموسيقي، دفعه إلى التكلف بعض الشيء ففي قصيدة "لماذا أسافر عنك بعيدا" يقول :
لماذا أسافر عنك بعيدا ؟
لأشتاق؟!
يا للسخافة !
لأرتاح ؟
تلك خرافة
لأشفى ؟
وهل أنت آفة؟!!!
وهل خط قلبي على دربك المستحيل انحرافه
ألم تسمعي عن هروب المخافة
ألم تشعري في عناق الوداع دبيب ارتجافه
ألم تلحظي ـ طول عشرين عاما ـ
غياب ابنك العبقري شديد النحافة ؟!!!!
أما في الشعر العامي فظهرت في بعض تلك الأمسيات أصوات شعرية جديرة بالتأمل والانتباه منهم على سبيل المثال الشاعرة دعاء فُتُوح، ففي قصيدتها المعنونة بـ "نُصْ حكاية" تقول :
أدخل
من نص حكاية غيري
أضيع نص حكايتي
أخرج
من نص حكاية غيري لوحدي
أغرس أحاسيسي ف أرض حزينة
أتشكل وصف جديد
أتعرى بصدق حقيقتي
ميتغيرش الجوهر
يتزود عمري بتاريخ مشحون
لما أسد فراغ اللحظة بجد
أتفاعل حب
أتعلم حق وجودي
ما استناش بكره
أجريله حياة
فاخرج من نص حكاية غيري
ما اخفش
وفي تلك القصيدة ترصد الشاعرة حالة من البوح الدائم، عبر الحكي المتقطع الذي يعكس سيكولوجية المجتمع المصري، الذي تتشابه حكاياته وتتقاطع فنرى الذاتي في الآخَري، والخاص في العام فتكون النتيجة أن "تتشكل وصف جديد" وتسعى إلى الغد و الحياة بلا خوف أو ريب.
أما الشاعرة هيام سعيد فقد آثرت أن تبتعد عن الكلام عن الحياة واختارت الموت بكل تفاصيله لتحاول أن تعيد تركيبته وتستنطق منه الشعر مادام قد أخرس الحياة، بل ترى فيه وفي مفرداته الكائن الوحيد القادر على التجميع وتناجيه كإله قادر على الإبكاء وبالتالي قادر على الإضحاك وتجعل من الموت الشيء الوحيد الذي يمنحها الرؤية بصفاء وجلاء حتى إنها عنونت قصيدتها بـ " النعش" وفيها تقول:
النعش يصرخ م اللي جوا حشاه
والميتين يشتكو
يا نعشنا متبكيناش والنبي
دحنا غلابه أوي
وانت اللي جمعتنا
الشامي ع المغربي
والدنيا عتمة والكفن مرعوش والقبر لما انفتح
بانت ببانه أوي
وكأنهم مماتوش
........
.........
دلوقتي إيه العمل ؟
دلوقتي مين مع مين ؟
إحنا هنا خايفين
والفجر عاري البدن
كأنه معانا اندفن
بس احنا مش فاهمين
والصبح متغرب هنا
والضل فوق الشمس بات
إحنا بنبكي ع اللي جاي
أما ف عزانا الناس بتبكي ع اللي جاي
والميتين ماشيين بيطوحوا
كَنِّ الصراط معوج
أما الشاعر سالم الشهباني وهو الوحيد تقريبا في ذلك الجمع من الشعراء الذي نجح في أن يصدر ديوانا ضمن سلسلة "الكتاب الأول"، فنرى في تجربته احتفاء بعالم القرية والأسرة والمدرسة والتعامل مع تلك المفردات بحس المغني الشعبي"مغني السيرة" الذي يخط لنفسه ولمجتمعه سيرة ذاتية تصلح للغناء الحي في كل أوان وزمان ففي قصيدته المعنونة بـالـ "حارس" يقول:
وحدي بشوفك
لما بتدخل وتعدي من عقب الباب
وأبويا النايم ع الكنبه
وبيجتر الماضي عذاب
وأمي بتغزل من أحزانها
حبال
وحبال
وتربَّط
فـ عواد الغاب
لاجل ما تستر سطح البيت
لما يفوت على بيتنا سحاب
إلا أن في تلك القصيدة كما في القصيدة السابقة احتفي كل من "سالم وهيام" بالموسيقي وهمهم الغناء على حساب الدراما والبوح على حساب الرؤية مما قد يموه على التجربة حالتها الشعرية، ويجعلها أكثر استهلاكية.
أما الشاعر مصطفي الحسيني فقد آثر أن يثير الحالة الدرامية التي تنتج بين الشاعر وأنثى الحقيقة التي تراوغ وجوده وتغازله وفي وقت الرضا تمنحه فقط الطريق إليها وهي تمثل الأمل المتباعد والنقاء الحقيقي، ففي قصيدة "حاجز الدوران" يقول:
أنا ما احتملش الانسحاب تاني
ومش كل اما اتوه فيكي
تروقي
وتمنحي سكة وصول
ماملكش غير الاشتياق
وانتي البراءة المزمنة
حاسب خروجك من معادلات
السكون / العشق
ما استجراش أعدي
حاجز الدوران
للفضا المسموح
ولا اكسر حاجز الدوران
وفي القصيدة المعنونة بـ "تلاته6 X 4" للشاعر محمد عز الدين يقول:
تصاويري
رافضة تكلمني
والكاميرا الملزوقة ف عيني
من يوم ما وعيت
بتزق اكتافي
وتبعدني
وتغمض عدستها
وتبكي
فلاشات مخنوقة
أباجورتي
السهرانة ليالي
تونسني
قطعت شرايينها
انتحرت
علشان سرحاني
كان حاضن صورتك
وبتلك المشاهد المختلفة والتي قصد الشاعر من خلالها أن يهب الحياة للجمادات ويصف الحي بالجمود، يحاول الشاعر أن يستغل شاعريته ليصبغها على تفاصيله جاعلا من عينه كاميرا ومن البصر فلاشات مخنوقة، وتلك الشعرية تؤسس لمفهوم الشاعر الحي المتفاعل مع كونه الخارجي والمنفعل به، فالقصيدة تتكون من ثلاث مقاطع الأول يبدأ بتصاوير الشاعر نفسه والثاني يبدأ بالـ "أوضة التي اكتست بالستائر الجلد والثالث يبدأ بتصاوير حبيبته وبذلك التقسيم يضع الشاعر عالمه / غرفته ما بين قوسين من صورته وصورة حبيبته، عازما ـ في آخر القصيدة ـ أنه لن يسمح بهدم هذا العالم " مش هسمح لدليله تكسر معبد شمشون".
وكل هؤلاء الشعراء الذي يتشكلون كألوان الطيف ويتقاسمون فيما بينهم فنيات الشعر وجمالياته، سيشكلون عما قليل المشهد الشعري في مصر، وقد يسقط البعض في أتون الحياة المتعجل اللاهث، وقد يضاف إليهم بعض الآخر، لكن الثابت دوما هو الشعر وحساسية العصر التي اجتهدوا ـ قدر امكانهم ـ في أن يعبروا عنها.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |