بَابُ عَقْدِ الذِّمة وأحكَامِهَا / للعلاّمة بن عثيمين رحمة الله
2009-04-22
قوله: «باب عقد الذمة وأحكامها» هذا الباب اشتمل على مسألتين:
الأولى: عقد الذمة، وتتضمن: معنى عقد الذمة، ومن تعقد له.
الثانية: أحكام أهل الذمة، أي: ما يلزم المسلمين نحو أهل الذمة، وما يلزم أهل الذمة نحو المسلمين.
الذمة لغة هي: العهد، ودليل ذلك قوله تعالى: {{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}} [التوبة: 10] ، والإل بمعنى القرابة والذمة بمعنى العهد؛ لأن الأصل أن الإنسان يحتمي بأمرين: إما بالقرابة، وإما بالعهد، قال تعالى: {{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}} [الإسراء: 34] . وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله» [(36)]، وعلى هذا فالذمة معناها العهد.
وتعريفه اصطلاحاً : «إقرار بعض الكفار على دينهم على وجه معين» الوجه المعين يأتي في أحكام أهل الذمة.
وقولنا: «إقرار بعض الكفار على دينهم على وجه معين» يفيد أن الأصل عدم إقرار الكافر على دينه، وهو كذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» [(37)]، ووجه هذا الأصل الذي دل عليه القرآن ـ كما سنذكره ـ ودلَّت عليه السنّة، أن الخلق عبادٌ لله يجب عليهم أن يقوموا بمقتضى هذه العبودية من التذلل له والتزام أحكام شريعته، فإذا خالفوا ذلك خرجوا عن مقتضى هذه العبودية، فكان يجب أن يردوا إليها؛ لأنهم خلقوا من أجلها، ولكن لنا أن نقرهم على دينهم بالذمة والعهد.
ولكن ما معنى الذمة هنا، هل هي العهد السابق؟.
الجواب : معنى الذمة هنا إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
أما العهد السابق فهو الهدنة، فنعاهد الكفار، وهم في أرضهم مستقلون عن المسلمين ليس لنا من شأنهم شيء إلا وضع القتال.
وقولنا: التزام أحكام الملة، وليس التزام الملة؛ لأنهم لو التزموا الملة لكانوا مسلمين، لكن التزام أحكام الملة، أي: ما حكمت به الشريعة الإسلامية عليهم.
والأصل في هذا قوله تعالى: {{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}} [التوبة] ، والخطاب في قوله: {{قَاتِلُوا}} للمسلمين عامة، فيكون قتالهم فرض كفاية، وقوله: {{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}}، «من» هنا يتعين أن تكون لبيان الجنس، وليس للتبعيض؛ وذلك لأن جميع أهل الكتاب لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا يدينون دين الحق، ولو جعلنا «من» للتبعيض لكان بعض أهل الكتاب على دين ومؤمناً، ولكن الأمر ليس كذلك، فيتعين أن تكون «من» هنا لبيان الجنس كقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}} [البينة: 6] ، فإن «من» هنا لبيان الجنس، يعني صنف الكفرة إلى قسمين: أهل كتاب ومشركين.
لاَ يُعْقَدُ لغَيْرِ المجُوسِ وَأَهْلِ الكِتَابَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُم،...................
قوله: «لا يعقد» بالبناء للمجهول، وسيأتي أن الذي يتولى عقدها الإمام أو نائبه.
قوله: «لغير المجوس» المجوس هم الذين يعبدون النار وهم مشركون، لكنهم طائفة مستقلة عن الشرك العام بخصائص معروفة في دينهم، يقولون بالأصلين الظلمة والنور ـ وهم فِرَق وهذه من فرقهم ـ ويقولون: إن الحوادث إما خير وإما شر، فالخير خلقه النور، والشر خلقته الظلمة، ومع ذلك لا يرون أن هذين الإلهين متساويان بل يقولون: إن النور خير من الظلمة، ويقولون: إن النور قديم، ويختلفون في الظلمة هل هي حادثة أو لا؟ ولهذا قال شيخ الإسلام: لم يُعلم أن أحداً من أرباب المقالات قال: إن للخلق إلـهين متساويين أبداً، حتى القائلين بالتثنية لا يرون أن هذا مساوٍ لهذا، فهؤلاء يعقد لهم.
ودليل ذلك أنه ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر[(38)]، وهجر هي الأحساء وما حولها وكان فيها مجوس؛ لأنها بجانب أرض الفرس، فأخذ منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزية، ومعلوم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ الجزية فهي شريعة.
قوله: «وأهل الكتابين» الكتابان هما التوراة والإنجيل، أنزل الله التوراة على موسى ـ عليه السلام ـ والإنجيل على عيسى ـ عليه السلام ـ والمتمسكون بالتوراة يقال لهم: اليهود، والمتمسكون بالإنجيل يقال لهم: النصارى، فهؤلاء يعقد لهم بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}} [التوبة] ، «حتى» غائية لا تعليلية، والفرق بينهما: إذا كانت بمعنى إلى فهي غائية، وإذا كانت بمعنى اللام فهي تعليلية، فمثال التعليلية قوله تعالى: {{لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}} [المنافقون: 7] ، أما قوله تعالى: {{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}} [التوبة: 29] ، فالمعنى إلى أن يعطوا، إذاً فهي غائية.
وقوله تعالى: {{عَنْ يَدٍ}}، قيل: معناها أن يعطوكم الجزية يداً بيد، بمعنى أن الواحد منهم يأتي ويسلم الجزية بيده لا يعطيها خادمه، ويقول له: اذهب بها إلى السلطان أو نائب السلطان، لا، هو بنفسه يأتي بها؛ لأن هذا أذل له مما لو أرسل بها خادمه.
وقيل: «عن يد» ، أي عن قوة منكم عليهم، بمعنى أننا نظهر أننا أقوياء أمامهم حتى يذلوا؛ لأنه كلما قوي الإنسان على عدوه ازداد العدو ذلًّا.
والآية تصلح للمعنيين جميعاً، فهي بمعنى أن الواحد منهم يأتي بها ويسلمها بيده، وأن نريه القوة والبأس حتى يكون ذلك أذل له.
أما ما قاله بعض الفقهاء: من أنه يطال وقوفهم عند تسليمها بحيث نصدُّ عنه أو نتلهى عنه بشيء لأجل إذلاله، ثم إذا أخذها منه تُجَر يدُه بقوة وربما تنخلع يده؛ لأن هذا من باب الإذلال.
لكن الصحيح خلاف ذلك، وأنه يكفي أن يأتوا أذلاء يسلمون الجزية عن يد.
إذاً لا تعقد إلا للمجوس واليهود والنصارى، ومن سواهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، فلا جزية، وهذا هو المشهور من المذهب.
واستدلوا بعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» إلى آخر الحديث[(39)]، ففيه أننا نقاتل الناس عامة، خُص منهم المجوس؛ لأنه ثبت بالسنة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخذ منهم الجزية، واليهود والنصارى في القرآن، فيبقى سائر الكفار على أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال.
لكن الصحيح أنها تصح من كل كافر، والدليل على هذا حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم أوصاه بوصايا، منها: أنه إذا لم يسلم القوم فيدعوهم إلى أخذ الجزية فإن أبوا قاتلهم»[(40)]، وهذا دليل على العموم، ويدل لذلك أيضاً: كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر[(41)] مع أنهم ليسوا من أهل الكتاب فيدل على أنها تؤخذ من كل كافر، والمعنى يقتضي ذلك؛ لأنه إذا جاز أخذها من أهل الكتاب والمجوس، فغيرهم مثلهم؛ لأن المقصود إقرار الكافر على دينه على وجه معين أو مخصوص وهو حاصل لكل كافر، وعلى هذا فإذا طلب أحد من المشركين أن نأخذ منه الجزية ويقر على دينه ورأينا المصلحة في ذلك فإننا نفعله.
تنبيه : زعم بعض العلماء أن المجوس لهم شبهة كتاب، ولكن نقول: أين الشبهة وأين الكتاب المشتبه فيه؟ إنما أخذها الرسول صلّى الله عليه وسلّم منهم؛ لأن الله تعالى قال: {{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}} [الأنفال: 39] ، فإذا كان الدين لله وغلب الدين الإسلامي على غيره، وأعطى هؤلاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فهذا هو الذي نريده، نحن لا نريد أن نلزم الناس بالإسلا
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |