قراءة في الطبعة الأخيرة من مشروع الشرق الأوسط الجديد
2006-07-25
الحياة - 26/07/06//
بينما كانت كوندوليزا رايس تدلي بحديثها في أول مؤتمر صحافي لها عن انفجار الوضع في لبنان، كانت رائحة الموت تنبعث من كل مكان في هذا البلد الجريح، وكانت أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ لا تزال مبعثرة فوق وتحت ركام البيوت المدمرة جراء القصف المتواصل للطيران الإسرائيلي كانت القلوب الوجلة تترقب ما ستقوله وزيرة الخارجية الأميركية على أمل أن تجد فيه ما يبشر بقرب انتهاء تلك المجزرة الرهيبة، إذا بكوندوليزا رايس، والتي يعتبرها البعض أكثر الوجوه
اعتدالاً في أكثر الإدارات تطرفاً في التاريخ الأميركي، تعلن بهدوء واطمئنان غريبين أن «شرقاً أوسط جديداً يتخلق الآن في رحم الأزمة اللبنانية» قبل أن تضيف «إن الوقت لم يحن بعد للحديث عن وقف لإطلاق النار». ولم يكن لما قالته هذه السيدة، والتي يطل من بين كتفيها رأس يشبه أحياناً رأس أشد أنواع الأفاعي فتكاً، سوى معنى واحد وهو أن حرب إسرائيل على لبنان هي حرب الولايات المتحدة، وأنها لن تسمح بوقفها قبل أن تحقق أهدافها، وأنه ليس أمام المجتمع الدولي وشعوب المنطقة من خيار آخر سوى تحمل آلامها، مهما كانت موجعة، لأنها ليست سوى آلام ولادة متعثرة لشيء رائع اسمه «الشرق الأوسط الجديد».
وليست هذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها الإدارة الأميركية عن «شرق أوسط جديد». فلا شك أن القارئ الكريم يذكر أنه سبق للإدارة نفسها أن بشرت شعوب المنطقة قبل سنوات بشرق أوسط ديموقراطي خال من الاستبداد والفساد. ولأن لبنان الذي تشن عليه الحرب الآن من أجل توليد النظام الشرق أوسطي الجديد كان، ولا يزال، أكثر البلدان العربية ديموقراطية، فقد اختلط الأمر على كثيرين ممن قرأوا الطبعة السابقة من المشروع الأميركي ذاته ولم يعد بوسع أحد أن يدرك بالضبط ماهية هذا «الشرق الأوسط الجديد» الذي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه، وأوجه الاختلاف بينه وبين مشروع الشرق الأوسط «الموسع» أو الكبير، لدرجة أن البعض بات يتصور أن السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط دخلت منعطفاً جديداً. غير أنني أعتقد أنه لم يطرأ على سياسة الإدارة الأميركية الحالية تجاه الشرق الأوسط أي تغيير. فالشرق الأوسط الجديد الذي تبشر به كان ولا يزال مجرد فكرة جوهرها استئصال النظم والقوى والأفكار المعادية للسياسات الأميركية والإسرائيلية والتمكين للنظم والقوى والأفكار المؤيدة لهذه السياسات. وبينما بقي جوهر الفكرة كما هو من دون أي تغيير فإن وسائل وأساليب تحقيقها كانت ولا تزال قابلة للتعديل والتغيير وفق تطور وملابسات الظروف المتجددة.
الشرق الأوسط في الإدراك الأميركي، كان ولا يزال مجرد «موزاييك» من قوميات وأعراق وأديان وطوائف متصارعة اضطر بعضها للانضواء قسراً تحت لواء دول بعينها بقوة الاستبداد وليس بتوافق الرضا. ولم تكن تلك الصورة النمطية هي الصورة السائدة في إدراك الإدارة الأميركية وحدها وإنما أيضاً لدى النخب السياسية كما تعبر عنها منتديات البحث المؤثرة على مراكز صنع القرار. وتأسيساً على هذه الصورة النمطية تصورت الإدارة الأميركية الحالية أن التنوع والانقسام الإثني والطائفي والمذهبي في العراق سيتيح أمامها فرصة ذهبية لإقامة «نموذج ديموقراطي» لدولة فيديرالية تخلو من سلطة مركزية قوية وتقبل بتواجد أميركي تجسده قواعد عسكرية تنتشر في طول البلاد وعرضها. ساعد على تعميق هذا التصور تعاون فصائل كردية وشيعية مهمة معها في مرحلة التخطيط للحرب على العراق واحتلاله أملاً في إسقاط نظام صدام. لذلك لم يكن غريباً حين راحت الإدارة الأميركية، عقب نجاحها في إسقاط نظام صدام حسين، تتحدث عن التحول الديموقراطي في مشروعها الأولي عن «الشرق الأوسط الكبير» أو «الموسع». بل إنها بدت من فرط حماسها غير عابئة حتى باحتمال وصول تيار الإسلام السياسي للسلطة لدرجة أن كوندوليزا رايس لم تتردد في وصفه بسيناريو «الفوضى الخلاقة».
كان بعض المحللين العرب رأى في هذا التوجه دليلاً على أن الإدارة الأميركية قررت أن تلقي بثقلها وراء القوى المطالبة بإحداث تحول ديمقراطي حقيقي في منطقة الشرق الأوسط. غير أن هذا الاستنتاج، وكما سبق أن نوهنا في مقالات سابقة، كان خاطئاً من أساسه. اذ سعى هذا التوجه، في تقديري، الى تحقيق هدفين. الأول: ابتزاز النظم العربية، خصوصا الموالية للولايات المتحدة، لحملها على تقديم المزيد من التنازلات لتأمين مظلة لسياستها في العراق ولسياسة إسرائيل تجاه القضية الفلسطينينة. والثاني: التأثير على المجتمع المدني العربي لضمان ولاء القطاعات ذات التوجه الليبرالي ودعم مواقعها وتأثيرها، ولدغدغة مشاعر الأقليات وتشجيعها على تحدي الأنظمة القائمة. بعبارة أخرى يمكن القول إن الديمقراطية التي سعى مشروع الشرق الأوسط الكبير للتمكين لها كانت مشروطة بإفراز نظم تضمن الولاء المطلق للسياسة الأميركية وتقوم على توازنات طائفية، بحجة حماية حقوق الأقليات. وقد تصورت الإدارة الأميركية أن بإمكانها تطبيق هذا النموذج في العراق ثم تعميمه بعد ذلك على «الشرق الأوسط الكبير».
غير أن المشروع الأميركي في العراق يتعثر تحت ضربات المقاومة العراقية، من ناحية، وتعقد الوضع الطائفي وارتباطه بالوضع الإقليمي، من ناحية أخرى. وعندما أيقنت الإدارة الأميركية أن مشروعها في العراق وصل إلى مأزق لم يكن أمامها سوى الاختيار بين طريقين. الأول: الانسحاب من العراق والتسليم بهزيمة مشروعها هناك والذي اعتبرته نقطة الانطلاق الرئيسي نحو مشروع الشرق الأوسط الكبير، والثاني: المضي قدماً في تنفيذ المخططات الموضوعة، لكن باستخدام أساليب ووسائل جديدة تعتمد على تغيير نمط التحالفات وليس السياسات. ولأن الخيار الأول لم يكن وارداً في عقل إدارة يمينية متطرفة تفكر بطريقة أيديولوجية وليس براغماتية، فلم يبق لها سوى الخيار الثاني، أي إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط اعتماداً على تغيير نمط التحالفات وليس نمط السياسات. لكن هذا الخيار واجهته معضلة كبيرة منذ البداية. فعلى أي أساس يمكن أن يستند نمط التحالفات الإقليمي الجديد؟ وكيف يمكن أن يكون لإسرائيل دور رئيسي فيه؟ وكان الحل الذي توصل له العقل الاستراتيجي الأميركي: تفجير الخلافات السنية - الشيعية.
والواقع أنه يصعب على المتابع لتطور الأحداث التي شهدتها المنطقة أخيراً عدم الربط بين ما يجري في لبنان اليوم وتصاعد الأزمة بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً حول ملف إيران النووي، وأوضحت الأزمة الأخيرة عدداً من الحقائق الجديدة نبرزها كالآتي:
1- أن الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان حاليا تبدو أميركية أكثر منها إسرائيلية أو على الأقل حرباً أميركية - إسرائيلية مشتركة. فدور الولايات المتحدة فيها لم يقتصر على منح الضوء الأخضر لها، وإنما كان دور المحرض عليها، والراعي لها، والملتزم بتهيئة المسرح العالمي والإقليمي الداعم لها والضامن لتحقيق النتائج المرجوة منها. ولم يسبق أن اختلط الدور الأميركي بالدور الإسرائيلي في حرب مفتوحة ضد دولة عربية بمثل هذا القدر من الوضوح في تاريخ الصراع العربي- الإسرئيلي.
2- إن السلوك الإسرائيلي فيها تجاوز كل ما يمكن تصوره من خطوط حمراء. اذ راحت هذه الدولة المارقة تتصرف كوحش كاسر يتحرك بحريّة في غابة لا تحكمها قوانين وليس في مجتمع دولي فيه محكمة جنائية أحد أهم وظائفها محاكمة مجرمي الحرب.
ومن الواضح، في سياق كهذا، أن الهدف الرئيسي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة من وراء هذه الحرب هو منح إسرائيل الفرصة كاملة لتدمير البنية العسكرية لحزب الله ثم الاستدارة بعد ذلك لتصفية حماس وإسقاط حكومتها، وتشكيل تحالف دولي وإقليمي قابل لإغراء سورية بالانضمام إليه، يعمل على عزل إيران وتقليص نفوذها في المنطقة تمهيدا لتصفية نظامها إن أمكن. وهذا هو «الشرق الأوسط الجديد» الذي تعتقد الولايات المتحدة أنه سيولد من رحم الأزمة اللبنانية.
وإذا صح هذا التحليل فمن الواضح أن الولايات المتحدة لم تتعلم شيئاً أو تستوعب شيئاً، وأن فهمها لحقيقة ما يجري في هذه المنطقة مشوه إلى درجة مرعبة. ففي تقديرنا أن هذه الاستراتيجية، إن صح أن نسمى هذا العبث الوحشي استراتيجية، قامت على افتراضات تبدو جميعها خاطئة. الافتراض الأول: أن بمقدور إسرائيل استئصال حزب الله وتدمير بنيته العسكرية. الافتراض الثاني: أن تدمير لبنان سيخيف الشعب اللبناني وسيدفعه لتحميل حزب الله مسئولية ما حدث وبالتالي الالتفاف حول عنقه وخنقه. والثالث: أن الخوف من «الخطر الشيعي» ومن تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة يكفي وحده أساساً لتشكيل حلف أميركي - عربي - إسرائيلي في مواجهة إيران. فحزب الله فكرة أساسها المقاومة وستستمر ما بقي الاحتلال والتوسع الإسرائيلي سواء حملها حزب الله أو غيره. مستحيل القضاء على فكرة خصوصاً إذا ارتبطت بمقاومة الاحتلال. والقوى الوطنية في لبنان وفي العالم العربي هي التي التفت حول حزب الله وساندته، باعتباره حزبا مقاوماً وليس حزباً شيعياً. والحلف الذي تتصور الولايات المتحدة أن بإمكانها تشكيله هو مجرد وهم في ذهن إدارة أميركية متطرفة إلى حد المرض.
أدرك تماما أن من الظلم تحميل الشعب اللبناني وحده فاتورة تخاذل عربي شامل على مستوى الحكومات وربما الشعوب العربية كلها. لكن من حق الشعب اللبناني أن يفخر بأنه أفرز مقاومة تمكنت من التصدي لأقوى جيش في المنطقة. وحين يتوقف العدوان الإسرائيلي - الأميركي على لبنان شعباً ودولةً، وهو حتماً سيتوقف، سيدرك الذين خططوا له أن الشرق الأوسط الذي ولد من رحمه ليس هو الشرق الأوسط الذي كانت تأمل الولايات المتحدة الأميركية في أن تراه مجسداً على الأرض، بصرف النظر عن النتائج العسكرية لهذا العدوان.
* كاتب واكاديمي مصري.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |