متسوّل الضوء / فينيق شعري آخر ينبعث من الرماد..
2009-05-13
ضعيفٌ وسقيم، هشٌُ سريع العدوى، لا يقوى على الوقوف يتهاوى كملاكٍ بنعلين مختلفين.
مخاتلٌ وغدار لا يؤتمن، قويٌ وسليط، لا يحفظ سراً حتى ولو في بئر، والويل الويل لانفلاشه بين القصب؛
حيث الريح صوته الفاضح، فهو كحاله لا صوت له.
الكلام أثقل منه فكيف يحمله الكلام؟، وهو أخفُّ من الحبر فكيف يطيقُ الأرق ألكحلي معه صبراً؟
كُثرٌ قالوا إنهم رأوه في تناثر الجهات، في لا جدوى الأماكن وأقسموا أنه مرّ بينهم، إلا أن أحداً عجز أن يصف ولو رائحة اللون المالح فيه، إذ غالباً ما يتركها إثر مروره في الصابحة والمسء تماماً من كل نوم.
أن تكتبَ عنه يعني أن تذهب أبعد منه فتفقدهُ، لأن الكتابة بائسة، فغالباً ما تصبح معه وعنه وحوله ماء ظهرٍ ابيضت منه راحة الكف، مراقاً في مرافئ مجازية، لكنه يستحق أن تهدر وقتكَ حين لا وقت لك، رغم كل ذلك الوقت لتمضي في أزقةٍ لا تفضي إلى شيء، ثم يبهر عينيك ألقٌ لا يخفت؛ يتسولُ ضوءاً من أماكن عصية على البال، وسماءٍ شحيحة الزرقة.
يمضي بنا«سامر محمد إسماعيل» في مطموريته الشعرية الأولى« متسول الضوء» إلى أجوبة لا أسئلةَ لها، ولأسبابٍ ليست محسومة حتى بالنسبةِ إليه.
فرت أنفاسه من أضلاعه اللينة وأصابعٍ لها ذاكرتها الخاصة المنفصلة تماماً عن صفة التكوين المتعارف
عليه «فكرة، ورقة، قلم ويد»؛ هربت وارتدت معطفاً آخر «تركه رجلاً معلقاً في خزانة» أو غوغولاً آخر حتى باتت غريبةً عنه دون أن يحار في ذلك، أدار ظهره لطفله العاق ودموعٍ من دم تثمر في الأحداق المطفئة؛ غريباً بين أترابه، مُسنداً قلقه على جذع أغنيةٍ، تاركاً بين أيدينا حيرةً واضحة، كلمات سوداء على ورق أبيض إنما...
«بلا نشيد ذهب أطفال المدارس، وجوهٌ تقف وراء وجوه، خطُّ وجوهٍ شاحب».
يختار الشاعر منذ البداية تضاداً عفوياً بين أشيائه وغرائبيتها، لتأتي الحرفية المتمرسة تمرداً بالغاً في احتواء اللغة في الأصوات التي انفلتت من عقال التجارب الشعرية الغزيرة، سواءً من بدء استيراد الشعر المعلب، وانتهاءً بمدته الصالحة، لترصد السحر الواقعي في تدفق الوضوح أمام أخيلةٍ مسبوقة الإدراك والوصف، إنما لتهمس بتصوف«للتسيرل» الشعري؛ أن :«اصمت قاتلي تحت السرير» معلناً بمونودراميته الشخصية والإنسانية فكراً منفرداً في التنحية والتعليق والتجنب؛ كاشفاً حيلة التعبير الشعري الضعيف أمام مكامن اللغز لأسئلة الوجود الأولى برمتها، ربما في حالةٍ فريدةٍ من نوعها من احتكار صورته الشعرية، لحصرية خصوصيته المتميزة في ذهابه أبعد ما أمكن في الإله والشاعر والنبي، وقلب مفاهيم الحداثة برغبة ماء يحتلم ببحر.
«أمدُ يدي إلى زجاج الصوت لا ينكسر الفجر لا يتعب الطريق» متغلباً على قصيدته في نفيه علاقته بما اقترفته يداهُ من قبل»ما الكذبةُ سوى الطريق» ليعودَ ذاك الطفل يخترع لغةً بإشارات تسمي الأشياء بأصوات، وتنغلق على ذاتها، ليتضح النص» اليوم الأول في المدرسة لا أعرف أحداً، لا أحد يعرفني، وقشرة الموز صدفتي السيئة.
للإيقاع الزمني الذي سيبدو على نحوٍ ما ضمير الغائب في المتكلم، حضوره الخاص في متسوّل الضوء، رغم المسافات السديمية، التي تركتنا فريسة النسيان، فأنت بحاجةٍ دائمة للعودة إلى الوراء بعد كل صفحةٍ، كي يمر بكَ نسيم صورة شعرية أخاذة تستطيع أن تضعها في أيِ لوحة من لوحاته الست عشرة، وتتابع القراءة من غير أن يزعجك التنافر المتناغم، الذي يدخلكَ به الشاعر دون أن تشعر كشريك في لعبته بالكلمات«قد تتفق إشارات المرور، ولو لمرةٍ واحدة على عبور الشارع»،«أُهرب إلى النمر في داخلك، ذلك القويُ الهادئ فيكَ».
ها أنا ذا فعلاً أقع فريسة النسيان في هذه المقالة، فسأعود إلى الإيقاع الزمني الواضح ليس في الموضوع فقط، بل في العنوان والفواصل، وفيه نفسه إن كنتَ تعرفه، لذلك يمكنك وبكل مرونة؛ أن تقرأ العنوان كقصيدة, والعكس صحيح جداً»الأطفال يزعجون الحمار في هدأتهِ، يرمونه بحجارةٍ كبيرة، أيُّ عزلةٍ هذه؟ أيُّ حزنٍ في عينيه؟.
وإذا أخذنا بمقولة( أن الشعر لا يحلل ولا يفسر، بل يستسلم كما يستسلم الجسد لشلال في يومٍ صائف) يقف لنا «سامر محمد إسماعيل» في متسوّل الضوء» على عتبةٍ تحملُ دمهُ وأحلامهُ وحقيقة روحه ماداً يده فقط، وفقط ليمسك أيادٍ أخرى فاتحاً عينيه على مصراعيها، لكي لا يهرب المشهد أياً كان من باله، فاردأ في أفقٍ ضيق أجنحةً من شمعٍ أصيلٍ ونقي، ليحلق بالمشهد الشعري السوري الذي احتفت به دمشق مؤخراً، كونها ستبقى دائماً عاصمةً للثقافة العربية، واحداً من الفائزين بمسابقة الشعر، نحو مفرداتٍ تعلن بقوة تمردها وانفصالها عن الفوتوكوبيات الشعرية العجيبة، في زمنٍ صار الشعر فيه ضيفاً طارئاً على المشهد الثقافي العام، أو كعاطلٍ عن المعنى، صارخاً شاقاً رئتيه مع حمزاتوف:«أيها الشعر لولاك لصرتُ يتيماً»، محلقاً مع الحلاج في روحانيته محاكياً حلاجه«أنا الكائن المكوِّن وكينونتي فنائي، وفنائي ليس إلا انعتاقي، وانعتاقي هو انعتاقي، أبيضٌُ وكثيف، ناحلٌ وأليف»، سامر قدمت أهلاً ووطئتَ سهلاً، فليورق زمنك.
تمام علي بركات
[email protected]
الكتاب :متسوّل الضوء - للشاعر:سامر محمد إسماعيل - صدر عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية2008
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |