تعتبر القصة القصيرة جدا أوالقصة الومضة فن التركيز اللغوي والمشهدي، فن الحذف والاختزال، الإيحاء والإدهاش... وقد أغوت مجموعة من القصّاصين المغاربة، ومنهم من أفرد مجموعة قصصية لهذا اللون السرد، من بينهم القاص والروائي مصطفى لغتيري الذي صدر له قبل أضمومته الأخيرة "تسونامي" مجموعة "مظلة في قبر"، و يطغى على المجموعتين الطابع الذهني والثقافي، تحفلان بالرمز والتناص وتؤنسان الأشياء/عناصر الطبيعة، مما يجعله متفردا عن بقية كتاب القصة القصيرة جدا في المغرب.

وفي نصوصه الذهنية وغيرها، ينتصر مصطفى لغتيري للإنسان كقيمة، كما يشي بذلك الإهداء : "إلى كل من آمن بالإنسان كقيمة تسمو على ما سواها من القيم"، وفي هذه الورقة العجلى سنتوقف عند هاجس الطفولة والهم الأنثوي في "تسونامي" لغتيري.
في "حذر" : نصطدم بتلك المفارقة الاجتماعية القاسية، حيث الطفولة المقهورة، المحرومة من براءة المرحلة وملائكيتها، فالطفل يعرض بضاعته على المصطافين، وحين يقترب من امرأة عارضة عليها بضاعته، تمد يدها إلى حافظتها الجلدية، تسحبها في حذر، وتعود إلى إغفاءتها..
في"تفوكت" : يجد التلميذ الأمازيغي صعوبة في التأقلم مع الازدواجية اللغوية في حياتنا اليومية، فحين سأله الأستاذ عن اسم الشمس مشيرا إليها وهي تطل من النافذة، يجيب بأنها "تفوكت"، فيغضب المدرس ويطلب من التلاميذ أن يرددوا اللفظة، وعندما سحب أحد التلاميذ من يده وسأله عنها، أجاب الطفل بدون تردد : "في المدرسة اسمها الشمس وفي البيت اسمها تفوكت".
في "طفولة": يقترب الطفل من ابنة الجيران التي تلعب الحجلة، يعرض عليها أن يلعب معها، فتعترض لأن اللعبة خاصة بالبنات، ويدعوها لأن تلعب معه لعبة البلي، فترد بأنها لعبة فتيان، يسألها : ماذا نلعب إذن؟ وقبل أن ترد يرجّهما صوت أمها المتوعد :" ألم أحذرك من اللعب مع الفتيان؟".
" عدالة" : من النصوص الذهنية، لكن تحضر فيه الطفولة وشغبها الفاتن باعتبارها فاعلة ومشاركة في الصنع الحدث، فالطفل حين يسمع قوقأة الدجاجة بعد أن تبيض يسارع إلى سرقة البيضة، قبل الجدة، وحين تصل العجوز، وتبحث في كل مكان ولا تجدها، تقرر ذبح الدجاجة لأنها "لم تعد نافعة في شيء".
وفي "عرائس":يجعل الفضول المعرفي لدي الطفل محرك العرائس مندهشا، وفاقدا للسيطرة عليها، وهو يرى الصبي يحملق فيه، فتتعالى احتجاجات جمهور الصغار.
"دمعة" : نص شجي عن الطفولة المحرومة، لكن مصطفى لغتيري قدمه من زاوية أخرى، فالدمية تتألم من أجل الطفلة التي حرمت منها، بعد أن جرتها الأم من يدها ، وسحبتها بعيدا عن الواجهة، وتترقرق في عيني الدمية دمعة.
و لمِلح الحياة في هذه الومضات السردية نصيب، في " ذكرى" : تفتح المرأة الأرملة الصندوق كل ليلة، وتستنشق رائحة معطف الزوج الراحل، وتشهق باكية، وبعد انفراج غمتها، تعيده إلى الصندوق وتأوي إلى فراشها. أما "عري" : فهو عن ازدواجية نظرة المجتمع للمرأة، مجتمع ازدواجي متناقض... يحرم ويشتهي في آن واحد، وهذه الرؤية نلمسها بوضوح في "مراهنة"، فالجنين يبتسم حين تتحسس الأم بطنها، وحين يضع الأب يده على بطنها تختفي ابتسامة الجنين، ويعلق :"أراهن بأن الجنين ذكر".
وأما"العرافة" : فتخبر الرجل بأنه محظوظ، وستفتح له الدنيا أبوابها، ويغادر المكان متسائلا، بعد أن حذرته من النساء : "أي حظ هذا بدون نساء"، والنص يختزل تلك الرؤية الأخلاقية والدينية للمرأة التي يتوارثها الوعي الجمعي، لكن الأغرب أن العرافة ضد بنات جنسها، وهذا الحيف المجتمعي الذي تعاني منه المرأة، سيتجلى بوضوح في نص "غزل" الغني بالدلالات، فالأستاذ أثناء شرحه لقصيدة غزل، يصف الحب بأنه عاطفة نبيلة، لكن حين يرى تلميذة مراهقة ترسم قلبا على الورق، مزق الورقة واصفا إياها بأنها "فتاة قليلة الأدب".

القصة القصيرة جدا عند الكاتب متفاوتة الحجم، فهناك نصوص لا تتجاوز سطرين، مثل "السكوت من ذهب"، وبعضها يتجاوز الصفحة كـ "طفولة" و"غزل"، و تعد الأضمومة إشكالية، بأقل الكلام تطرح التساؤلات وتدعو للتأمل دون السقوط في المباشرة والتقريرية، كما يفعل بعض المتطفلين على هذا الجنس الأدبي الصعب، لا سيما ممن لم يسبق لهم أن خبروا وكابدوا فن كتابة القصة القصيرة، مما يكرس تلك الصورة النمطية لدى بعض النقاد والمتابعين، الذين يعتقدون بأنها ملاذ الفاشلين والمعاقين إبداعيا.