Alef Logo
المرصد الصحفي
              

الصحافة المصرية تحاور فاطمة ناعوت بعد صدور ديوانها الجديد

ألف

2009-06-07


فاطمة ناعوت: الغربيُّ مشغول ببناء مجتمعه أما العربي فمشغول بمراقبة الآخر

جريدة القاهرة تحاور فاطمة ناعوت[1]

فاطمة ناعوت اسمٌ تربّع على عرش الأدب والثقافة خلال السنوات الأخيرة. ببساطة تأسرك بمجرد قراءة سطر واحد من شعرها، فتدخل في عالمها اللامحدود، وتنقلك مقالاتها وترجماتها إلى عالم الفنون الراقية والثقافة الرفيعة، ولا نلكُ أمامها سوى رفع القبعة احتراما، ومن ثم اهتمت القاهرة ليكون معها هذا الحوار.

العمارة والفنون
• أنتِ مهندسة معمارية، هذا المجال في حد ذاته بحاجة إلى جهد إبداعي هائل... كيف تستطيعين التوفيق بين كل مجهوداتك الإبداعية، من شعر وترجمة ونقد وووو، وكيف تحققين النجاح فيهم جميعا؟
أشكركِ، بدايةً، إن كنتِ ترين أنني حققتُ بعض النجاحِ في تلك المجالات؛ المتنافرةِ المختلفة، ظاهريًّا، المتناغمة المؤتلفة، جوهريًّا ومضمونيًّا. العمارةُ أمُّ الفنون. هكذا قالتِ الفلاسفة ومقسِّمو أجناس المنجز البشريّ من فنون وعلوم. سموها "أمَّ" الفنون لأنها أوّلُ ما أنجزه الإنسانُ فوق الأرض؛ إذ ابتنى لنفسه، ليحميها من الضواري والطبيعة، مأوًى من جذوع الشجر، تطوّر كهفًا في قلب جبل، ثم كوخًا، فبيتًا، ثم ناطحة سحاب. لكنني أسميها "أمَّ الفنون"، لأن كلَّ ألوان الفنون، بل والعلوم، تنطلق من نبعها وتصبُّ في حقلِها. علّمنا أساتذتُنا في كلية الهندسة، أنْ من أجل أن تكون معماريًّا ناجحًا، لابد أن تمتلكَ عينَ فنان، وأُذنَ موسيقيٍّ، وأصابعَ نحّاتٍ، وقلبَ شاعر. ثم اكتشفتُ، خلال سنواتِ دراستي العمارةَ بهندسة عين شمس، أننا "نستعير"، خلال يومنا الدراسيّ، معاجمَ الفنون الأخرى. كتلة وفراغ/ من النحت، هارموني وتنافر/ من الموسيقى، دائرة الألوان/ من الرسم، تماثل وتضاد واستعارة ومحاكاة وكناية ورمز...، من الشعر والمسرح والرواية. والأخطر أن المعماريّ عليه أن يدرس الرياضيات والفراغية وحساب المثلثات والتكامل والتفاضل والفيزياء والفضاء والجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا والديموجرافيا والإثنيات والحضارات وعادات الشعوب والاقتصاد والجيولوجيا والأركيلوجيا بل وعلم النفس وطبائع الإنسان وهلمّ جرا مما ابتكر الإنسان من علوم متخصصة. أفلا تتفقين معي إذًا أن العمارة عالمٌ كامل غنيٌّ وثريٌّ؟ من هنا يأتي الشعرُ والنقدُ، الانطباعيّ طبعًا، مثل أنهارٍ تنطلق من جبل العمارة، ثم تصبُّ في وديانها. حزنتْ أمي لأنني استبدلتُ الشعرَ بالعمارة، بعدما عملتُ بها عشر سنوات ونجحتُ، وسخر ابني مني أن أهدرتُ عمري في دراسةٍ معقدة ثم أنفلتُّ منها لعالمٍ مختلف. كلاهما مخطئٌ. فالعمارة علمتني ما لم يكن ممكنًا أن أتعلمه ولو قرأتُ أضعافَ ما قرأتُ من كتبٍ. علمتني كيف أفكك العالم ثم أعيدُ تركيبه على نحو مخالف. وهذا هو الجوهرُ العميق للشعر.


• متى علمتِ أو شعرت أنك كاتبة أو شاعرة؟ وعلى شعر من تتلمذتي أو تعتقدين انك تأثرت به؟
أبي، رحمه الله، كان يحكي لي، وأنا ربما في الخامسة من عمري، كلَّ يوم قصّةً من قصص الأنبياء. ولما وصلنا إلى قصةَ مريم العذراء والسيد المسيح، وكيف أنه كلّم اليهود وهو في المهد رضيعٌ، ركضتُ إلى عروستي وضغطت على زرٍّ خفي في ظهرها فتكلمت. قلتُ له بخيلاء: عروستي أيضا تتكلم وهي بعدُ صغيرة! فضحك أبي وقال إنها إنما تتكلم كلماتٍ محددةً مُبرمجة على أسطوانة داخل جسمها الصغير. بينما المسيح كان يساجل أحبار اليهود ويحاججهم في أمور معقّدة مُلغِزة تفوق حتى أعمارهم، هم الكبار، وليس وحسب عمره الصغير كطفلٍ! تلك معجزةُ الله. الكلمة. وقتها تفتّح وعيي على عالم فانتازيّ ميتافيزيقي، غير هذا الذي نراه ونلمسه. وربما من يومها بدأت رحلتي في البحث عن هذا العالم غير الأرضي، غير المحكوم بقوانين الفيزياء والمنطق. هذا العالم هو الشعر. وربما لهذا السبب كانت دواويني الأولى تنهل بجنون من العوالم المسيحية الكنسية، ليس وحسب بسبب نشأتي في مدرسة قبطية، بل لأن عالم المسيحية ضاخٌّ بالشعر والعذوبة وإعمال الخيال المُحلِّق. ومن ثم كان طبيعيًّا جدًّا، أن أبدأ الشعرَ، قراءةً، بجبران، ومطران، وإيليا، والأخطل الصغير. ثم فتنني إبراهيم ناجي، حتى كنتُ أحاكيه تمام المحاكاة.


الشعر والسياسة
• في ظل وضع سياسي عالمي غير مستقر واقرب إلى التدهور، كيف يكون الموقف السياسي للشاعر.
السياسة بمعناها الضيق، من تنظير وممارسة وكتابة قصائد تضجُّ بالتثوير والتعبئة، أم السياسة بمعناها الواقعيّ الأشمل؟ إن كان هذا ما تعنين، فكلُّ شيء في الحياة خاضعٌ للسياسة متأثرٌ بها. ومن ثم فلا تخلو قصيدةٌ في الكون من معنًى سياسيٍّ ما، مباشرٍ أو خفيّ. وإن كانت قصيدةَ غزل. أما الشاعرُ، الشاعر الحقيقي، فلابد أن يكون سياسيًّا من طراز ممتاز. الشاعرُ مستشرفٌ دومًا، قارئٌ رفيع لواقعه، ومستقبله من ثم. قال الجميل صلاح عبد الصبور مرّةً: "الفئرانُ والشعراءُ أولُ من يشعرُ بالخطر." فمثلما يعرفُ القبطان أن سفينته على وشك الغرق حينما تبدأ الفئران بالهروب من جحورها، يستشرفُ الشاعرُ أن خطرًا ما يحيق بأمّته. يحذِّرُ الساسةَ، لكن الساسةَ كعادتهم أصمّاء متكبرون تأخذهم العزّةُ بالنفسِ ولا يسمعون سوى أصواتهم. وهذا ما كان، حينما صرخ أمل دنقل: لا تُصالح. وكأنه يقرأُ كل سطر في مدونة الراهن.

• من خلال متابعة كثير مما تكتبين وخاصة الشعر يمكن ملاحظة ابتعادك عن السياسة فهل باعتبارك امرأة هل تبتعدين عن السياسة، أم هو موقف ما تتخذينه حيالها؟ فكتاباتك أكثرها تعبر عن الوضع الثقافي وأحيانا الاجتماعي.
إجابتي سؤالكِ السابق طرحت فكرةَ أن السياسة تدخل في أدق تفاصيل يومنا. وأن كل قصيدة مستحيلٌ أن تخلو من رؤية سياسية ما. فمثلا: إن قال شاعرٌ في قصيدة: وددتُ أن أشتري لحبيبتي وردةً، لكن دكان الورد كان مغلقًا." هنا رؤية سياسية؛ لأن القارئ لابد يسأل: لماذا محلُّ الورد مغلق؟ هل لأن هذا البلد مُحتَّلٌ مثلا، فهو فلسطين أو العراق؟ أم لأن البلدَ حزينٌ؟ وربما الوردُ حزينٌ، فكفَّ فلاحو الورد عن زراعته... كل ما سبق هي معانٍ سياسيةٌ بامتياز. وإن خلتِ القصيدةُ من كلمة واحدة مباشرة تدلّ على إعمال البُعد السياسيّ. أما عن كون المرأة بعيدة عن السياسة، فدعيني أقول لك إن للمرأة مراكزَ استشرافٍ أكثر دقّةً وحدسًا من أعتى السياسيين. المرأةُ كائنٌ سياسيٌّ بامتياز. ولو حكمتِ العالمَ لانصلحَ حاله. فأنا من الذاهبين إلى فكرة تأنيث العالم. وأحيلكِ إلى التاريخ لنقرأ كيف نجحت المجتمعاتُ الأمومية، في حين لم تورث البطريركيةُ العالمَ سوى الدمار.

الوضع العام
• كيف ترين الوضع العام للشعر والمثقفين في مصر والعالم؟
في مصر والعالم العربيّ الشعرُ بخير، والثقافة في أحطّ عصورها. في العالم الأول كلاهما بخير.
• وماذا ينقصنا في مصر ثقافيا وأدبيا باعتبارك سافرت كثيرًا وتعاملت مع شعراء من مختلف أنحاء العالم؟
ينقصنا أن نحبَّ أنفسنا قليلا. نحن نكيد للآخر بأكثر مما نحبُّ أنفسَنا. نحاربُ الناجحين، عِوضَ أن نفكّر كيف ننجح نحن. ينسحبُ هذا داخليًّا وخارجيًّا. فمثلما نكيد للغرب وأمريكا بوصفها سبب دمارنا، وننسى كيف نفكر أن ننجح نحن مثلما نجحوا، نفعلُ الشيءَ ذاتَه داخليًّا فنحاول هدم جارنا الناجح بدلَ أن نحاول أن ننجح مثله. هذا منهجٌ في التفكير وليس مجرد سلوكٍ عابر. هو داءٌ عربيٌّ راهن أنتجه الانفتاحُ وحكم العسكر والمدُّ السلفيّ والانتشار الوهابيّ وعُلوّ قيمة النموذج البترو-دولاري الخاوي من كل شيء عدا المال. الفردُ الغربي مشغول طوال الوقت ببناء دماغه وروحه وحياته، بينما العربيُّ مهمومٌ بمراقبة الآخر، سلبًا، من أجل النَّيل منه لكي يتساوي بنا ونتساوى به. ينقصنا شيء من "البرجماتية"، وأنا أعني الكلمة حَرفيًّا.

• بعد مرور كل سنوات من الإبداع ومن مخالطة الوسط الثقافي .. كيف تقيمين تجربتك الشخصية؟
تجربتي، مثل معظم تجربة جيلي، لم تُقرأ بعد. وربما لن تُقرأ إلا بعد موتي. مثلما حدث مع الكثير من المبدعين.
• وماذا في خطتك وأحلامك للغد؟
لا أتمنى إلا أن أرى مصرَ جميلةً مثلما كانت حتى الخمسينيات الماضية. أتمنى أن أتركها بهيّةً فاتنةً، لكي أطمئن على أولادي بحبِّها لهم وحبهم لها. لا شيء أكثر.

[1] - جريدة القاهرة/ الثلاثاء 12 مايو 2009

تحدثت لـ"السياسة" عن تجربتها في الترجمة والشعر
فاطمة ناعوت تكتب القصيدة وتنزوي من صدمة المثقفين

6 يونيو 09

القاهرة - "السياسة" - محمود النجار:
استطاعت الشاعرة "فاطمة ناعوت" خلال تسعسنوات هى عمر تفرغها للأدب أن تنتج 13 كتابًا منها 6 دواوين شعرية احدثها ما صدرلها هذه الأيام بعنوان "اسمي ليس صعبًا". كما أن لها 7 أعمال مترجمة أبرزها " جيوبمثقلة بالحجارة " لفرجينيا وولف, وذلك بالإضافة إلى مقالاتها الأسبوعية بالكثير منالصحف المصرية والعربية ومقالاتها في النقد الأدبي وأيضًا في الهندسة المعمارية "تخصصها الأساسي".. هذا النتاج المتنوع والغزير مثار لدهشة الكثيرين أمام هذهالغزارة.. حول نتاجها الادبي وكثرته كان المدخل لحوار معها هذا نصه:

* بداية ما هو سر هذه الغزارة في الإنتاج وتنوعه؟
= إنه لمن نكد الزمان أن يأتي علينا حينٌ من الدهر يُعتبر فيه العملُ سُبَةً، وهذه ليست المرة الأولى التي أسمع فيها هذه "التهمة"، إن كانت تهمةً. على أنني للحق لا أسمعها إلا من أولئك الكسالى الذين لا يعملون، ويسوءُهم أن يعمل الآخرون، حسب تعبير العبقري طه حسين.

* ومن قال أننا نتهمك نحن نبدى اندهاشنا المغلف بالإعجاب فلماذا فهمتها على هذا النحو؟
لا أشير إلى سؤالك، بل إلى بعض مَن اعتبرها مثلبةً أن يتنوع إنتاجي ويَغزُر. حتى أن أحدهم قال لي مرّةً لابد أن جنيًّا يصعد من تحت الأرض يكتب لي. (ابتسمت). هذه هي الإجابة الفولكلروية، أما الحقيقي فهو أنني لستُ مسؤولة عن تكاسل الكسالى الذين يهرقون أوقاتهم في النميمة على المقاهي وفي غرف الدردشة على الإنترنت وفي سواها من مُنسفات الوقت، بينما أنا منكبّة على الاشتغال على دماغي وإثراء مكوّني الثقافي والروحي بالقراءة والتأمل. أنا كائنٌ يستمتع بالقراءة وبالعمل، فتأتي "الغزارة" كنتيجة حتمية. فلمَ ولصالح مَن أترك ما يمتعني لما لا يمتعني. سيما إذا كانت تلك المتعة مُنتجةً. أنتظر من يرمي كتاباتي، مثلا، بالضحالة أو الركاكة أو الخطأ اللغوي الخ، لكي أستمع إليه وأتعلم وأصحح أخطائي. أما الغزارة والتنوع فتهمة لا أنكرها، وأفرح بها، لو كانت صحيحة. إنها منحة سماوية أن تتحول الهواية إلى عمل. وأنا بعد تفرغي من عملي كمهندسة معمارية للكتابة والصحافة، حققت هذه المكرمة الإلهية. بما يعني أن وقتي كله للكتابة، أضف إلى ذلك أن لدي أرقًا مزمنًا، غير مَرضي، يجعلني لا أنام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات باليوم على أقصى تقدير، كما أنني لا أشاهد التليفزيون ولا أتنزه تقريبا، كل هذا يجعل يومي طويلا ومشحونا بالعمل، ومن ثم بالإنتاج.

* ولكن ألا تأخذك الترجمة والمقالات شبه اليومية بعيدا عن إبداعك الشعري خاصة أن الترجمة تحتاج إلى قراءات كثيرة كي تنتقى نصًّا يغريك بالترجمة؟
= أتفق معك في هذا، فأنا لا أعكف إلا على ترجمة النص الذي يثير غيرتي وأجدني وقد ضبطت نفسي متلبسة بتمني أن أكون كاتبته وهذا بالفعل يتطلب قراءات جمة. على أنني، أنا البخيلة بالوقت، لا أعتبره وقتًا مُهدرًا. فالشاعرُ لابد أن يكون قارئًا ممتازا، ومثقفًا رفيع الطراز، لكي يأتي شيئًا مدهشا. والترجمةُ ليست قراءةً وحسب، بل هي قراءة فوق العادة، لأنها لونٌ من النظر "في" النص"، وليس النظر "إليه". وربما تندهش حينما تعرف أن معظم قراءاتي علمية وفلسفية وتاريخية، وأقلها القليل في الشعر.

* تقام في مصر هذه الأيام مسابقة للأديبات فقط ألا يعتبر ذلك تكريسا للتفرقة بين أبداع المرأة وإبداع الرجل الذي لا تملوا– كأديبات – من مناهضته؟
= أستطيع أن أتفهم مبرر ودوافع تخصيص مسابقة للبنات فقط، لكني لا أتبنى الفكرة، لو كان قيد لي أن أفعلها. أكره العنصرية بكافة أشكالها، لكن حينما تنتصر العنصرية لأقليّة ما أو فئة ما مهضومٌ حقُّها، أتبناها لبرهة، حتى تتسق الموازين من جديد، فأعود وأنبذها، أعني العنصرية. والمرأة الكاتبة، للحق، تحاربُ في أكثر من جبهة. فمنذ البدء، وقبل أن تمسك قلما لتكتب، هي حاملة تهمةَ نوعها. بوصفها ناقصة عقل، ومركز غواية متنقل. فكيف لها أن تُبدع! هي مُدانةٌ من أبيها وأخيها وابنها بل وأمّها أيضًا، تلك التي عانت صغيرةً مما تعاني منه ابنتها اليوم. ولهذا فلن ينهدم العالم لو شجعنا هذه البنت قليلا في مشوارها الأدبي، حتى نهيئ لها مناخًا مناسبًا للكتابة والإدهاش. أعرف نقادا يخافون من كتابة مقالات عن أديبات ممتازات فقط لكيلا يُرموا بما لا يحبون.

* معنى هذا أن المثقفين أيضا يخشون إنصاف الأديبة حتى لو تستحق ذلك؟
الواقع الثقافي، المصري والعربي، واقعٌ مراهق ثقافيًّا. المثقف مأزومٌ ومشطورٌ بين ما يقرؤه من مُثُل عليا في الكتب، وبين شرقيته التي تحتم عليه وضع المرأة في خانة أدنى من الرجل. يكتب كلاما جميلا حول المرأة وحقوقها، ثم يعود إلى بيته ليقمع امرأته ويسفهها، بعدما يكون قد قمع زميلته في العمل وسفهها. المشكلة الأخرى الأخطر هي أن العربيّ لم يتعلم بعد ثقافة قبول "الآخر"، وحين أقول الآخر فأنا أعني كل ما عدا هذا الشخص. كل ما يقع خارج حدود جسده. الآخر يعني البشر الآخرين والحيوان والطير والنبات والبيئة والوطن والأوطان الأخرى والعالم والكون. كيف تسميه مثقفًا مَن يسكت على قطع شجرة؟ وهي جريمة في حق الله. كيف تسميه مثقفًا مَن يلقي قمامةً في الطريق ومن يبصق ومن يرهب طفلا أو يضرب امرأة؟ هذه النماذج الشائهة كيف تتوقع منها أن تحترم ما تكتبه امرأة، فضلا عن إنصافها إن كانت تستحق الإنصاف؟ الثقافةُ ليست قراءة وندوات أو مؤتمرات إنما هي سلوك وطريقة إنصات للعالم.

*لماذا نشعر ان المثقفين اصبحوا يعيشون فيما يشبه ال"جيتو" من حيث لغتهم المتداولة بعيدا عن الناس ؟
ليتهم "جيتو". الجيتو له نظام وقوانين يقوم عليها. حتى الغجر لهم قانونهم الذي لا يُخترق، حتى وإن كانت قوانينَ عدميةً أو فوضويةً إلا انه في النهاية هناك قانون ما يحكمهم، ويضمن حقوقهم على بعضهم البعض. لكن المثقفين لا قانون ينتظمهم ولا أعراف بينهم تضمن لهم أن يحترموا بعضهم البعض في السر وفي العلن. من أسف.

* إذن لماذا نجد إصرارهم حين يتحدثون أو يكتبون أو يدلون بأحاديث يختارون من الكلم أصعبه لدرجة جعلت الوزير فاروق حسنى يصف كلامهم بال"مجعلص" وكأن هناك اتفاقًا على هذا الكلام؟
= ثمة مثل إنجليزي أحبه كثيرا يقول: Empty vessels make the most of noise، بما يعني أن الأواني الفارغة هي التي تُطلق الصوت الأعلى حينما تطرق عليها بملعقة أو مطرقة مثلا. الكاتب الضحل الذي لا جد ما يقوله لابد يلجأ إلى تقعير قوله كلون من إرهاب القارئ بغامض القول، فيقع في شركه القارئ السطحي ويظن أن الكلام عميق. لكن هذا الهراء لا ينطلي على القارئ الحصيف المدرب على القراءة. ذاك أن القراءة فنٌّ عسير، لا يقل عسرا عن فن الكتابة.

* نفهم من كلامك أن ابتعادك عن الوسط الثقافي لا يعد انزواءً وبعدا عن وسط أنت بحاجة إلى الانخراط داخله؟
= انزوائي هو لون من صَوْن النفس والروح. دخلتُ هذا الوسط من عشر سنوات وأنا محمّلة بأفكار رومانسية، أصفها الآن بالساذجة، حول طبيعة الأديب والشاعر. كنت أظن أن كل كاتب هو طه حسين، بكل استنارته وعمقه وعبقريته، وأن كل شاعر هو جبران بكل ملائكيته. وأنا طفلة كنت أظن أن جناحين ينبتان لجبران، ولكل شاعر، في الليل، فيصعد إلى السماء، ثم يعود إلينا، نحن البشر عند الصبح. لكن احتكاكي بالأدباء والشعراء عن قرب بيّن لي هول سذاجة الفكرة. وكان أمامي خياران. أن أندمج مع المثقفين فأتناحر معهم كل يوم، بسبب سلوكات لا أراها جميلة، أو ورفيعة، أو أنضوي تحت عباءتهم فأتماهى مع قبح لا أحبه. وكلا الخيارين مُرٌّ. فاخترتُ البديل الثالث وهو أن أنزوي في شرنقتي الجميلة، فأقرأ وأكتب وأُثري دماغي وروحي. وهو ما فعلت. وهو الخيار الذي يقف وراء "ظاهرة" غزارة الإنتاج، سؤالك الأول.

* ألا يبعدك ذلك عن فعاليات كثيرة كما حدث مؤخرا مع مؤتمرى قصيدة النثر؟
= لم انشغل يومًا بما يجري من فعاليات ومهرجانات تنتظمها سياسات الشللية والمحاباة والإقصاءات والتناحرات. الشعرُ يُكتب ولا يُتناحَر من أجله. وأنا أكتب الشعر، وفقط. ويجيء تكريمي من دول أجنبية، لا تعرفني ولا أعرفها، ذاك أن المطلوب هو معرفة "النص" الذي أكتب، وليس "صاحب" النص، إن كان خفيف الظل أو يجيد العلاقات العامة أم لا. وأما نصي هذا فموجود بين دفتي كتبي، يقرأه الناس، فيدعونني لأمثل اسم مصر في مهرجانات دولية رفيعة المستوى شاركت بها. أما ما يحدث هنا من تربيطات مقاه فلا يشغلني مطلقا.

* وماذا عن جديدك؟
= انتهيتُ من كتابي الثاني عن فرجينيا وولف "أثرٌ على الحائط"، وقد شرّفني عميد المترجمين العرب د. محمد عناني بكتابة تصدير راق له، وأنتظر صدوره بين يوم وآخر، كذلك أتوفر على ترجمة رواية ضخمة لكاتبة نيجيرية شابة اسمها شيمامندا ناجوزي أديتشي، عنوانها "نصفُ شمس صفراء"، لصالح الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز. ومازلت أستمتع بردود فعل ديواني الأخير "اسمي ليس صعبًا"، كما أعكف الآن على كتابة ديوان شعري جديد لم أضع عنوانا له، أظنه سيكون نقطة مفصلية في تجربتي الشعرية.

















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow