الحــــرب مــــرّت مـن هـــــنــا ولــذة الـحـــــيـاة أيـضـــاً
2006-08-11
أطــفــالٌ لـبـــنـانــــيــون يـرســـمـون فـي "مـســـرح المـــــديــــــنــة"
ثمة أصوات تتعالى من تحت الارض في "مسرح المدينة"، في شارع الحمراء. أصوات تريد أن تحيا، وان تتحدى، بقوة الطفولة، كل الأصوات الأخرى، أصوات التشرد والدمار والموت. انها اصوات الصغار يلهون في احدى الصالات، تعبيراً عن الحياة التي من شأنها أن تحيا لا أن تموت. ثمة في صالة فسيحة ثانية، مجموعة اخرى من الأولاد تتحلق حول طاولة تستضيف علباً من الاقلام الملونة، وانابيب زيتية ومائية، واقلاماً من الشمع، وفراشي من كل القياسات.
في هذا المسرح الجميل، يجتمع الصغار ليعلنوا حروبهم البيضاء والملونة ضد الحرب الهمجية.هنا بعض فتيات يجلسن حول شرشف كبير من البلاستيك، يزاولن هواية الرسم بصمت. هناك بعض صبية وبنات صغيرات الصبيان يتسابقون ليغطّ كل منهم فرشاته .في قنينة مبتورة من الوسط، تحوي مياهاً لم يعد يعرف لونها الاساسي من فرط ما داخلتها ألوان أخرى
أعمارهم بين الخامسة والثانية عشرة، لكنهم جميعهم أطفال وضدّ الحرب. علي اكبر هو الاكثر ثرثرة. يرسم لكنه أيضاً يتفرج على ما يرسمه شقيقه هاني. يقول ان والده سمّاه علي اكبر تمييزاً له، لانه هو أيضاً يحمل اسم علي. دائم الحركة، يتنقل بين هذه الطاولة وتلك، من دون أن يستطيع جلوساً. يرسم ويحكي ويقفز، ويضحك أيضاً لأنه يريد أن يعيش.
هنا ولد صغير "يجلغم" بيده الالوان المطحونة البراقة، كأنه يستعيد بخربشاته ذكريات البالونات في الاعياد. في الجهة المقابلة، ثمة فتى يرسم على ورقة بيضاء قمتين متساويتين. يلونهما بالاخضر الفاقع. تبدوان للوهلة الأولى أقرب الى نهدين. أتكون التلتان إذاً تعبيراً عن أمومة منشودة يطالب بها هذا الفتى. أراه ينظر اليهما طويلا ثم يمزق الورقة ليعود ويرسم النهدين او التلتين. انهما جبلان يحتضنان طفولة معذبة.
هؤلاء الصغار يصنعون بلاداً تحت الأرض. هم يضيئون المسرح وصالاته. بعيونهم أولاً. بأصواتهم ثانياً. بألوانهم ثالثاً. بأجسادهم المتلاعبة والمتراقصة رابعاً. وبأرواحهم في كل حين.
حركة الدخول الى الطبقة السفلية من المبنى، كما حركة الخروج، لا تتوقف. قيل لنا ان المحترف يفتح ابوابه يوميا ما بين العاشرة صباحا والثانية بعد الظهر. نصادف الاطفال الآتين الذين ترافقهم امهاتم. الصغار يجلسون أو يتحلقون أو يقفزون، في حين أن الامهات يراقبن فلذات أكبادهن في أحوالهم الشعرية، مباشرةً الى الخلف، او يتباعدن في حالة انتظار.
أعود قليلاً الى الرؤوس الصغيرة، أتفحص الأوراق المرسومة لعلي أستطيع أن أستقرىء الدلالات والمعاني. هنا يرسم محمد بالاحمر رجلا فاتحاً يديه كخيال صحراء او كتائه لم يعد يعرف اين الاتجاهات الصحيحة للخروج من جحيمه. هناك تلك الفتاة الصغيرة، ذات الجدائل الشقراء، تغطّ فرشاتها بيدها اليسرى. يدها اليمنى مصابة، يلفّها رباط حول عنقها. هي ترسم وردة حمراء تغلّفها تكويرات خضراء لتذكّر بالاوراق الطرية التي تساعدها على النمو. ثم وردة ثانية في جوارها. ثم تختار بيدها الانتقال الى تلك الشمس التي تطل من الزاوية اليمنى. انها منشغلة جديا بمنظرها الطبيعي الذي يشعرنا كم أن الاطفال يلاحقون عواطفهم الحسية التي تواكب تصوراتهم وتخيلاتهم الانية.
من حين الى آخر يطل شاب ليسأل: "مين بدّو ورقة؟". ترتفع اصابع او تبقى الوجوه مسمرة على أوراق مغطاة بالازهار او البيوت او الدبابات او الانفجارات. ما أراه لا يصدَّق. ففي جوار الازهار والتلال الخضراء، ثمة دم وقنابل وانفجارات وعلم لبناني بالاحمر والاخضر. ثم هناك ايضا طيارات تحلق فوق مساحات بيضاء، وتحتها اولاد وبيوت لم تهدَّم بعد. كأن "الرسامين لم يشاؤوا متابعة الصور المطبوعة في الذاكرة الحديثة لكي لا يشوهوا صورة البيوت الآمنة التي تحفظ وحدة العائلات وحميمياتها. كل الاشارات الحربية مختصرة في الرسوم المعلقة. بعض الرسوم لم يشأ أصحابها استحضار المأساة أو أنهم لم يشهدوها. كأنهم يريدون فقط ان يتذكروا الحياة السابقة الرغيدة فحسب. كأنهم لا يريدون سوى أن يتذكروا رموز الفرح والسعادة. أو انهم يريدون إعلان حق هذه الطفولة في الحياة السعيدة للحظة شعرت كأني امام اطفال جاؤوا الى المدرسة بثيابهم المكوية وروائحهم المعطرة. هم يدعون الواحد منا ليمرر يده على رؤوسهم الصغيرة ويتلاعب بخصلات شعورهم او على الاقل لاشعارهم بأن الكبار يحبون اطفال لبنان. فلتحرسهم العناية الإلهية.
اترك الاطفال يرسمون. اتقدم من الحائط الكبير حيث أنعم النظر في بعض الرسوم. انها تروي مأساة مثل مجزرة قانا او تلون دبابات للعدو. كتب احدهم اسم اولمرت، ورسم آخر نجمة.
نعم، الحرب مرّت من هنا، وقد تركت بصماتها الوحشية على الذاكرات والأيدي الطرية. لكن هذه الحرب لن تنتصر. الطفولة وحدها تنتصر. أحييكم أيها الصغار. أحيي رسومكم التي لا يحمل بعضها تواقيعكم لكنها تحمل مشاهداتكم ومخاوفكم، لكن أيضاً ضحكة العيش رغم عبوس الدمار وحلكة الموت.
لور غريب
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |