من خطف الإسلام من العرب؟
2007-08-23
"إذا لم يبق دين قومي منفرد ينبغي التسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن" جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ..
الفرضية التي تحتاج إلى الاستقصاء والتدبر هي أنه لا يوجد إسلام واحد بل اسلامات بمعنى أنه ثمة تصورات متعددة للإسلام ولا يقتصر الأمر على تصور موحد منسجم يعتنقه الجميع ويطبقه على أرض الواقع إذ هناك تفاوت كبير بين الإسلام في حد ذاته والإسلام التاريخي وبين الظاهرة القرآنية والفكر الإسلامي، وما يشرع تلك الفرضية ليس كثرة المذاهب من سنة وشيعة وخوارج أو تعدد الملل والنحل من بهائية وقديانية ودروز وصابئة ويزيدية بل هو ما نراه الآن من صراع حول هذا الدين ومن قتال بين معتنقيه ومناوئيه بحيث تحدث البعض عن "الإسلام في الأسر" وتذكر البعض الآخر القول المأثور:"كلكم يبكي فمن سرق المصحف" وادعى الجميع أنه المؤمن المخلص المنتمي إلى الفرقة الناجية .
وتصاعدت أسهم الفتاوي سواء لمنح البركة والتعظيم للمريدين أو من أجل التكفير والتحريم للمعاندين والكل يغني على ليلاه دون أدنى تريث أو تنسيب . غير أن الحدث المداهم هذه الأيام هو أن الإسلام لم يعد البوصلة الهادية لمسيرة الحضارة عند العرب وأن العرب فقدوا قبلتهم الإبراهيمية وتاهوا في صحراء الوجود وبالتالي سلموا مشعل العناية بالمقدس إلى الأمم الأخرى وقد اختصر أحدهم الأمر بقوله:إنها عملية خطف مبرمجة للإسلام من العرب إلى غيرهم؟ فمن خطف الإسلام ولماذا؟وكيف فرط العرب بهذه السهولة في كنزهم الثمين وقد عدوا من المؤتمنين على الرسالة ومن المستخلفين في الأرض؟ وماذا سيفعلون بعد أن حصل الذي حصل؟هل يسارعون إلي استيراد الإسلام غير العربي حتى يستأنفون التجدد الحضاري أم هم مطالبون بالاستذكار ونسيان النسيان؟ وعن أي إسلام غير عربي نتحدث؟ وماهي مشروعية وجوده؟ وهل قدر الإسلام أن يكون عربيا وقدر العرب أن يكونوا مسلمين؟وهل أنزل الإسلام كرسالة للعرب دون سائر الأمم أم هو كتاب للعالمين؟ كيف نقدر على التمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود في كل ما يقال اليوم حول عملية خطف الإسلام؟
ما نسعى إلى تأكيده هو التعامل مع الإسلام كوسيلة ومع الانسان العربي كغاية،إذ لا خوف على الإسلام من السرقة والخطف فهناك من يحميه ويضمن استمراريته أما الانسان العربي فقد صبت على رأسه جميع كوارث الكون ويتعرض يوميا إلى عملية خلع للكرامة بالمعنى الحقيقي للكلمة ونخشى أن يتمادى في تجربة ضياعه في العالم ولذلك عوض أن يكون الانسان العربي في خدمة الإسلام ينبغي أن نجعل الإسلام في خدمة هذا الانسان العربي حتى نصالحه مع نفسه ومع العالم.
إذا شخصنا واقعنا الحضاري بعمق ونقبنا بين طيات تاريخنا نجد تلقيات متنوعة للإسلام واستعمالات ذرائعية متعددة له، إذ الكل لون الإسلام بلون الخصوصية اللغوية والاثنية والثقافية التي يتبناها ويعتقدها وبالتالي فان الإسلام الصافي كجوهر الهي نفيس قد تلوث بالموروثات الدخيلة التي اختلط معها واحتك بها، وهكذا يجوز لنا أن نتحدث عن إسلام هندي وإسلام إيراني وإسلام تركي وإسلام أمريكي وكل واحد له مميزاته وتوجهاته التي تفرقه عن غيره، فالي أي مدى يكون الإسلام على هذا النحو؟
الإسلام الهندي:
ارتبط الإسلام في الهند بالقومية والهوية في صراعه مع الهندوسية والسيخ والبوذية وقد ساهمت أدبيات محمد إقبال ومحمد علي جناح وأحمد خان في التأكيد على قيمة اللاعنف وانتصر المنزع السلمي ومنطق التعايش بين المتناقضات ولكن حركة التاريخ أدت إلى سيطرة دعاة اللاسلم والتشدد فاشتعلت الحرب وأدت إلى تقسيم العالم الهندي واصطبغ الإسلام بالطابع القتالي الحربي في أفغانستان ورفعت طالبان شعار الكفاح والجهاد ضد ما يعتبره ملحدين وكفار ومشركين وارتكز بالأساس على تعاليم أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي التي درست في الجامعة الحقانية والمسجد الأحمر ولا يقتصر تواجده على العالم الهندي بل يعبر نحو ماليزيا وأندونوسيا والصين وتايلاند وغيرها من الجزر والبلدان حيث يكون فيها المسلمون أقلية مثل الفلبين وبورما وتتلقى الأدبيات السلفية لهذا النوع من فهم الإسلام رواجا كبيرا في معظم أركان المعمورة وذلك لحالة الهوان والضعف والتشرذم واستفحال اليأس والإحباط .
الإسلام الإيراني:
رسمت معالم الإسلام في ايران الثورة الشعبية التي مكنت آيات الله من منظري ولاية الفقيه من الصعود إلى السلطة بعد إزاحة خصومهم العلمانيين والليبراليين واليساريين من طريقهم ويغلب على هذا النوع منطق المرجعيات الشيعية والحوزات الدينية التي تقدس آل البيت ويخضع إلى تسلسل هرمي يميل نحو الاكليروس والكهنوت ويؤمن بعصمة الإمام وتواصل الوحي عن طريق الإلهام وهو منتشر في ايران وفي العراق وسوريا ولبنان والمغرب العربي والباكستان وبعض المناطق من البحرين والسعودية ويؤمن بالتعددية داخل الفضاء الديني ويتبع ديمقراطية مقيدة وينتهج سياسة معادية للغرب وإسرائيل ولكنها براغماتية متحالفة مع الموروثات الثقافية والقومية التي تنتمي إلى عصر ما قبل الفتح الإسلامي(المجوس والكسروية والصفوية) وتتحكم فتاوي خامينائي والسيستاني في توجيه اعتقادات جمهور هذا النوع من التدين.
الإسلام التركي:
تحددت معالم الإسلام في تركيا مع الإمبراطورية العثمانية أين التصقت به تهمة الاستبداد الشرقي ومثل الجيش الانكشاري الغازي لأوروبا والمتحدي لروسيا القيصرية واجهته الأمامية ولكن إصلاحات السلطان عبد الحميد المستنيرة وصعود القومية الطورانية وما أنجزته الثورة الكمالية من قطيعة مع التقاليد حولت بوصلته من الشرق إلى الغرب وجعلته يتنفس الهواء القادم من العالم المتحضر الغربي ويغرس في تربته بعض مشاتل التقدم مثل دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة ويطلب حتى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة مع حزب العدالة والتنمية والتي تبنت إسلاما ليبراليا شطب الصراع العربي الإسرائيلي وأفتى بحوار الثقافات ووحدة الأديان والنهل من عوامل الرقي التي تمتلكها أمريكا وبقية دول العالم الغربي يلقى هذا الفهم اهتماما في بعض البلدان مثل المغرب واريتريا وماليزيا وتنجذب إليه بعض الجاليات العربية في المهجر.
الإسلام الأمريكي:
انه الإسلام المنتشر بين الجالية المسلمة التي تقيم في بلدان المهجر وبالخصوص في أستراليا وأمريكا الشمالية وأوروبا وهو النموذج الذي أيدته بعض الأنظمة العربية المعدلة وعملت على الترويج له عبر وسائل إعلامها ومثقفيها ورجال الدين التابعين لها وهو إسلام يميني متسامح يلغي الحدود والتكاليف ويحذف لغة التكفير والردة والبغي والتحريم والجهاد والقتال ويتكلم لغة السلم والعفو والحلم والتسامح وقد وقع التصرف في القرآن الكريم وأنقصت كل الآيات والسور التي لا تتلاءم مع هذا السياق وأخرجت طبعة جديدة تحت عنوان "الفرقان الحكيم" وقد رفع بعض المنظرين لهذا الإسلام مثل طارق رمضان وجمال البنا على غير حق شعار التجديد والتنوير والتقدم وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فوصل بهم الأمر إلى تحليل شرب الخمر وتولية المرأة كإمامة أثناء الصلاة والسماح لغير المسلمين بالترشح لمناصب قيادية بالنسبة لحكم الدولة ونظر البعض إلى التخفيف في عدد الصلوات وأيام الصوم والتساهل مع بقية الأركان.
والغريب أن هذه التراجعات تمت بعنوان الاعتدال والوسطية الفقهية لمواكبة العصر وامتلاك الوعي التاريخي وتحقيق التقدم المنشود وقد أشرف عليها بعض الفقهاء ورجال الدين وساندتهم مركز دراسات ومنتديات فكرية ومنظمات تدعي رعاية حقوق الانسان ونشر الديمقراطية بينما هي في الحقيقة تحاول انجاز مشاريع هيمنة وأجندات أمريكية غربية فشل في القيام بها أصحابها الحقيقيون،غير أن هذا الصنيع أنتج معضلة كبرى بالنسبة للعرب بحيث لم يعودوا قادرين على التمييز بين لبرلة الإسلام وأمركته،فما المقصود بالإسلام الليبرالي؟ وماهو التصور غير الليبرالي الذي يأتي ليحاربه؟
ما ينبغي الانتباه إليه أن الإسلام لم يخطف من العرب فحسب بل من قبل كل من اطلع عليه وتفاعل معه سلبا أم إيجابا وأن الخطف ليس فرضية بل واقعة مؤكدة، فهو لم يخطف لا من قبل الهنود فقط أو الفرس ولا الأتراك فحسب أو الغرب بل العرب هم الذين تخلوا عن كنزهم الثمين وقدموه لغيرهم دون مقابل وعيونهم مفتوحة في وضح النهار،إنهم هم الذين اختطفوا من التاريخ وتعرضوا إلى عملية تغيير وجهة نقلتهم من الاهتمام بصنع المستقبل والتخطيط الاستراتيجي له إلى الدفاع عن الماضي والاستماتة في صيانة مفاخره من التلف. زيادة على أن الإسلام هو بطبعه حمال أوجه والنص القرآني يدعوك منذ الوهلة الأولى إلى تجاوزه وخطفه عن طريق الفهم والتدبر والتعقل والتأويل، كما أن هذا الدين ليس مقتصرا على العرب بل هو موجه إلى البشرية كافة ولا يكون العرب خير أمة أخرجت إلى الناس إلا إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتراحموا في ما بينهم وكانوا أسوة حسنة لغيرهم وهذا الشرط لا يحوز عليه العرب الآن وهنا ولذلك هم في الدرك الأسفل من السلم الحضاري بل تسخر من تخلفهم وجهلهم جميع الأمم الأخرى. بيد أن الأمر الذي يجب أن نتوقف عنده أن الإسلام وقع خطفه وتدجينه من قبل الأنظمة الاستبدادية والإمبراطوريات الاستعمارية من أجل تطويعه وترويضه واستخدامه لتحقيق مصالحها وأغراضها من أجل إحكام السيطرة وتأبيد الوضع القائم إلى ما لا نهاية وهنا وقع إنتاج مجموعة من الأوهام وأسطرتها حتى يظل الجميع يدورون في فلكها ولا يهتمون بمشاكله الحقيقية وينتبهون إلى ما يحدق بهم من مخاطر وما يحاك ضدهم من مؤامرات.
انه من نافلة القول أن نميز بين نوعين من الإسلام أين ما كان طالما أن القرآن لم يقرأ بعد بشكل موضوعي وطالما أن الإسلام نفسه لم تتكشف فلسفته إلا جزئيا : الإسلام الشمولي الذي يخدم الحكومات ويحافظ على الأنظمة القائمة وهو تصور يميني رجعي متحالف مع السلطات المستبدة والعروش والشركات متعددة الجنسيات وإمبراطوريات العولمة المتغطرسة في وجهها الحربي الاقتصادي الامبريالي وهناك إسلام ليبرالي في خدمة الشعوب يقاوم الظلم وينتصر لقيم العدل والحق ضد الجور والاستغلال وهو تصور على يسار التاريخ متحالف مع الطبقات الناشئة ويعبر عن آمالها وتطلعاتها ويعيد الأمور إلى نصابها والرسالة إلى نقطة انطلاقها ومنابتها الأولى ويعطي للبعد العربي دور الريادة في التجدد الحضاري المنتظر،النمط الأول هو إسلام التقليد والتطبيع والركود والانحطاط تروج له فضائيات التنويم الإيماني على طريقة عمر خالد والنمط الثاني هو إسلام رأب الصدع والتوحد والانبعاث والثورة والمقاومة الذي يعمل على إعادة إدخال العرب إلي التاريخ من البوابة الرئيسية حتى يمسكوا بزمام الريادة ويشرعوا في صنع المستقبل الكوني بأنفسهم في اللحظة التي يتصالحون فيها مع خصوصياته ويرفعون رؤوسهم عاليا باعتزاز. المطلوب اليوم التخلي عن النظرة الشمولية السلطوية للإسلام لأنها سبب البلاء وأصل استفحال الاستبداد وتسارع نسق الاستعمار والانخراط في مشروع الإسلام الليبرالي بماهو تنوير أصيل يجمع بين الهوية العربية السردية والفهم العقلاني التقدمي للوحي ويستنير بقيم التيار الأممي المناهض للعولمة وكل أشكال التمييز العنصري بين البشر ومن محاسن الإسلام الليبرالي أنه يجعل من الدولة في الإسلام دولة مدنية لا دولة دينية ويكفل حق المواطنة للجميع ومساواة كل الناس أمام القانون ويقوى من نقاط الاستثبات والصمود في وجه التحديات والأزمات والحروب ويحترم الحريات الشخصية وبالخصوص حرية المعتقد ويتماهى هذا التصور الاعتقادي المتحرر مع مقولة الدين المدني الذي قال بشأنها روسو في كتابه في العقد الاجتماعي:"هناك مجاهرة بالعقيدة الدينية مدنية خالصة،من شأن صاحب السيادة أن يحدد موادها لا كالمعتقدات الدينية تماما وإنما كمشاعر اجتماعية لا يمكن للمرء بدونها أن يكون مواطنا صالحا ولا رعية مخلصة..."[2] فماهي خصائص هذا الدين المدني؟
يقول روسو في نفس الكتاب:"يجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير أو تعليق. إن الإيمان بوجود اله قادر،ذكي،محسن،بصير،مدبر،وبحياة ثانية،وبسعادة الصالحين وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوانين هي العقائد الايجابية. أما فيما يتعلق العقائد السلبية فإنني أقصرها على واحدة هي عدم التسامح إنها تدخل في العبادات التي استبعدناها"[3]، فمتى نرى الإسلام وقد استصلح فأصبح دينا مدنيا؟
يعتقد البعض أن العرب اليوم مطالبين بالتحالف مع الإسلام الإيراني والاحتماء بترسانته العسكرية المتطورة من أجل مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي أو استنساخ تجربة العدالة والتنمية في تركيا من أجل تحقيق المواءمة بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية أو تنبني خيار الإسلام الهندي الاحتجاجي والذي يقلد الماضي ويحتذي بالسلف ويعسكر الحياة السياسية ويشرع للجهاد دون ضوابط وقتل الأعداء دون تمييز أو الانخراط في الإسلام الأمريكي من أجل اتقاء شر العدو بمحاباته وإرضائه حتى نجنب المنطقة ويلات الحرب والدمار ونتعض من تجربة العناد السياسي الفاشلة التي اتبعها النظام البعثي في العراق والتي انتهت بإعادته إلى العصور الحجرية وطمس معالم المدنية منه ولكن ما يجدر ملاحظته في الختام أن جميع هذه الاقتراحات غير ممكنة على صعيد التجربة التاريخية للأمم لتباعد رؤى العالم وأشكال تدبره وتنافر التقاليد والموروثات وبالتالي لا خيار بالنسبة للعرب اليوم إذا ما أرادوا السؤدد سوى لبرلة اسلامهم وعلمنته بشكل جذري وتحويله من دين روحاني غيبي إلى دين مدني جمهوري يجمع بين الديمقراطية والعلمانية وبين الحرية والعدالة وبين السلطة والسيادة حتى يفككوا أسوار الشمولية التي حجبت أنواره ويفجروا طاقاته التجديدية الخلاقة من مكامنها واذا لم يفعلوا ذلك ولم يعتبروا من دروس الأمم الأخرى وبالخصوص تجارب الآباء الحمر في أمريكا اللاتينية وتجارب اليابانيين والكوريين والصينيين مع عقائدهم الدينية ويعوا بخطورة المرحلة لربما استبدلوا بقوم غيرهم يتفقهوا فيتوحدوا وينهضوا ويتقدموا نحو الطريق الواثق للمدنية!
08-أيار-2021
05-تشرين الأول-2019 | |
10-آب-2019 | |
13-شباط-2010 | |
12-تشرين الأول-2009 | |
23-أيلول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |