ملف / الصحافة العربية تحتفي بمرور 40 عاما على الهبوط على سطح القمر
2009-07-20
لاشك أنها كانت نقطة تحول كبيرة، ولا شك أنها فاجأتنا ونحن في مطلع حياتنا، ذاك القمر الذي تغنى به البشر، وتحالف معه العشاق فجأة يصبح أرضا يسير عليها رواد الفضاء، فجأة ماعاد يعني شيئا للعشاق، صار مادة ملموسة ولم يعد خيالا.
مرور أربعين عاما على أول هبوط عليه .. حفز الصحافة والكتاب العرب في كتابة انطباعاتهم عن هذا الحدث الكبير .. من جريدة الحياة وجريدة السفير هذه المختارات.
ألف
الذكرى الـ40 للهبوط على سطح القمر: حملة تشكيك لا تلغي الانجاز الكبير
الحياة / الأحد, 19 يوليو 2009
أحمد شعلان *
«التابع المُنير» يدور حول الشمس بعد ملايين السنين والرحلات إليه قراءة لمستقبل الأرض والكائنات
النشائي: بات في متناول اليد
في 20 تموز (يوليو) 2009 يحتفل العالم بالذكرى الأربعين لتحقيق أكبر إنجاز فضائي منذ أربعة عقود. حينها، وصلت أقدام البشر إلى القمر في رحلةٍ فضائيةٍ مأهولة أولى من نوعها، استمرت أكثر من ثمانية أيام. وشكّلت مفتتح عصر المهمات الفضائية المعقدة لدراسة كواكب المجموعة الشمسية وأقمارها. وكذلك أنهت زمن التأمل الرومانسي بوجه القمر الذي لا يطال.
السباق نحو عصر الفضاء
قبل أربعين عاماً، كان السباق بين الاتحاد السوفياتي (السابق) والولايات المتحدة على أشدّه في الفضاء، مع أسبقية واضحة للسوفيات.
بدأ عصر الفضاء صبيحة 4 تشرين الأول (اكتوبر) 1957 حين أطلق الاتحاد السوفياتي القمر الاصطناعي الأول «سبوتنيك». وبعد 13 شهراً تماماً، في 4 كانون الثاني (يناير) 1959، تمكّن المسبار السوفياتي الأول «لونا 1» من التغلب على جاذبية الأرض والذهاب بعيداً في الفضاء، من دون عودة إلى الأرض. وفي أيلول (سبتمبر) من العام ذاته، استطاعت «لونا 2» الوصول إلى سطح القمر، متحطّمة عليه أثناء الهبوط. وبعد شهر، تمكنّت «لونا 3» من الدخول في مدار حول القمر، وبثّت الصور الأولى للجهة الخلفية للقمر (الجهة التي لا تُرى من الأرض). وتتابعت نجاحات مركبات «لونا». وهبط بعضها بسلام على سطح القمر وعاد إلى الأرض ناقلاً بعضاً من تراب التابع المُنير. وأديرت المركبات بمزيج من البرمجة المؤتمتة والتحكّم لاسلكياً من القيادة على الأرض. وأعطت نجاحات برنامج «لونا» تفوقاً للاتحاد السوفياتي في الفضاء، دعمه إنجاز سير البشر في الفضاء، من خلال رائد الفضاء الشهير يوري غاغارين.
ولم يحاول الاتحاد السوفياتي إرسال مركبة مأهولة بشرياً للهبوط على سطح القمر. وفي ذلك السباق، عانى برنامج الفضاء الأميركي من صعوبة في الانطلاق. وبين عامي 1961 و 1964، فشلت المحاولات الست الأولى لسلسلة مسابر «رينجر» في الوصول إلى سطح القمر. وفي المحاولة السابعة، نجح «رينجر 7» في 28 حزيران (يونيو) 1964 بالوصول على سطح القمر، ولو أنه تحطم هناك. ثم سارت الأمور بسرعة أميركياً. وبين عامي 1966 و 1967، نجحت خمسة مسابر من طراز «لونار أوربايتر» في الدوران حول القمر. ونقلت إلى الأرض صوراً عالية الدقة عن معظم سطحه. وبين 1966 و1968 هبطت 7 مسابر من نوع «سرفايور» بهدوء على سطح القمر، ودرست سطحه في شكل أولي. وارتدت معظم المهمات الفضائية الاميركية طابع التحضير لمهمةٍ رئيسية تولاّها بعد ذلك برنامج «أبولو»، استجابةً للتحدي الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق جون كيندي في خطابه التاريخي في 25 أيار (مايو) 1961، حين أبدى عدم رضاه عن تخلّف الولايات المتحدة عن الاتحاد السوفياتي في مجال الفضاء، وحفز الأمّة الأميركية على إيصال رجلٍ إلى القمر والعودة به سالماً إلى الأرض قبل نهاية عقد الستينات من القرن العشرين. ورصدت الدولة أموالاً طائلة لتلك الغاية. وأنشأت مؤسسة «ناسا» التي سوف يكون لها الدور الحاسم في سباق الفضاء، وفي تمكين البشر من التعرف عن كثب الى كواكب المجموعة الشمسية القريبة والبعيدة وأقمارها، وفي سبر أعماق السماء بحثاً عن كواكب سيّارة في الكون شبيهة بالأرض.
وفي 20 تموز (يوليو) 1969، بعد اقل من 12 عاماً على إطلاق (سبوتنيك) وثماني سنوات على إطلاق المشروع الأميركي لاكتشاف القمر، أصبح نيل أرمسترونغ قائد المركبة الأميركية «أبوللو 11»، أول رجلٍ أرضيّ تطأ قدماه سطح القمر، في منطقة «بحر الهدوء». وخلال السنوات الثلاث التي تلت، أرسلت «ناسا» ست بعثات «أبوللو» متتالية إلى القمر. ومشى 12 رجلاً على سطحه. ولم تفشل سوى «أبوللو 13» في متابعة مهمتها نتيجة انفجار في أحد خزانات الأوكسيجين، فعادت خائبة إلى الأرض. وفي 1972، سار أخر رجل على القمر، هو الأميركي هاريسون شميث، في المركبة «أبولو 17».
ذكريات الأمس قمرياً
تشكّل فريق «أبوللو 11» من ثلاثة رواد هم نيل أرمسترونغ، ورفيقه في قيادة قمرة الهبوط مايكل كولنز، وإدوين إ. ألدراين.
وبعد هبوط المركبة القمرية «إيغل» (وترجمتها «النسر») في «بحر الهدوء»، خرج أرمسترونغ. ومشى. وقال كلمته التاريخية: «إنها خطوة صغيرة لرجل، لكنها قفزة عملاقة للجنس البشري». وتولت كاميرا من «إيغل» مهمة التغطية التلفزيونية المباشرة للسير على أرض القمر. ونظر أرمسترونغ إلى كوكب الأرض ليراه كما لم يره أحدٌ قبله: قنديل أزرق كبير معلق في السماء. بعد قليل تبعه ألدراين. وقضى الرجلان أكثر من ساعتين في أعمال مثل المشي والقفز، وزرع علم أميركا، وملء أكياس من تراب القمر وحجارته.
وساعدت السترة الواقية الثقيلة الرواد في تكبير قوة الجاذبية القمرية من جهة، وأمدّتهم بالحرارة والضغط والأكسيجين من جهة أخرى.
خلال هذا الوقت، أنجزت المركبة المدارية «كولومبيا» دورات حول القمر. ثم توجّب الانطلاق «بإيغل» لملاقاة «كولومبيا» وإعادة الالتحام بها. وتركت «إيغل» على سطح القمر قاعدة معدنية من أربعة قوائم استعملت في الهبوط، واستُخدِمَت كقاعدة انطلاق لمغادرة سطح القمر.
و في 24 تموز (يوليو) 1969، هبطت المركبة بهدوء في المحيط الهادئ حيث سارعت طائرة هليكوبتر لتنقل المركبة والرواد إلى سفينة إنقاذ. ثم وُضع الفريق الفضائي والعينات من القمر في العزل، للتأكد من خلوّهم من فيروسات فلكية قد تهدد سلامة الأرض.
وجلبت رحلات «أبوللو» 382 كيلوغراماً من تربة القمر وصخوره. وأتاحت تلك العينات دراسة تاريخ نشوء القمر، مُظهرة أن صخوره تشكّلت بعد أكثر من بليون سنة من تشكّل مجموعتنا الشمسية.
ومع عام 1973 خرج القمر من دائرة الاهتمام المباشر لمغامرة الفضاء. وفي 1993، قصده القمر الاصطناعي العسكري الأميركي الصغير «كليمنتين». ومنذ بضع سنين، ظهر احتمال أن تعاود وكالة «ناسا» رحلاتها المأهولة إلى القمر بغية بناء محطة ثابتة على سطحه، تستخدم كمرصد فلكي وقاعدة انطلاق للرحلات الفلكية المستقبلية نحو الكواكب البعيدة.
التشكيك في نجاح «أبولو 11»
خلّف سير الإنسان على القمر وقعاً شديد الإثارة على كثير من البشر. ولم يصدق البعض الحدث في حينه (ولا يزالون) واعتبروه تمثيلاً سينمائياً . ووصفته وسائل الإعلام السوفياتية، حينها، بالـ «الكذبة الكبيرة»، لأنها أعتبرت أن الاميركيين ليسوا في مستوى ذلك الإنجاز. ولم يخفت صوت التشكيك راهناً. ويملأ شبكة الإنترنت. ومثلاً، يعرض أحد المهندسين الأميركين عبر مواقع الكترونية، تفاصيل ما يسمّيه «الكذبة التاريخية».
ويعتبر العملية بكاملها أعدّت كتمثيلية في المنطقة رقم 51 من صحراء أريزونا. وفي سياق متصل، عُرِض فيلم وثائقي على قناة «فوكس» الأميركية أخيراً، يقدم أكثر من عشرين زعماً للتشكيك بإنجاز «أبولو11». وطُرح هذا الفيلم على شبكة الإنترنت. وفي المقابل، ردّ علماء وكالة «ناسا» على الفيلم، معتبرين الحجج المقدّمة فيه واهية، وردّوا على نقاط الالتباس في الفيلم في شكل علمي مقنع.
والحق أن السنوات التي تلت رحلة «أبوللو» شهدت نجاحات لعمليات معقّدة فضائياً. إذ أرسلت مسابر فضائية الى كواكب أبعد بآلاف المرات من القمر، مثل كوكب المشتري الذي دخل غلافه الجوي السميك المسبار «غاليليو» وأرسل الى الأرض صوراً دقيقة للكوكب ومعلوماتٍ قيّمة عن تركيب الكوكب العملاق في المجموعة الشمسية. كما تعددت منذ ذلك الحين المركبات الفضائية والمهمات نحو الكواكب القريبة والبعيدة. ووصلت بعض المسابر إلى حوافي النظام الشمسي.
* أستاذ فيزياء في الجامعة اللبنانية
الذكرى الـ 40 لنزول الإنسان على القمر يستعيدها كتّاب عرب
عن الحياة اللندنية
الإثنين, 20 يوليو 2009
ذلك القمر الذي فتن الشعر العربي على مرّ العصور
في 20 تموز (يوليو) 1969 حطت مركبة «أبولو 11» على سطح القمر ومنها نزل رائدان فضائيان وراحا يخطوان الخطوات الأولى على تراب هذا الكوكب، جار أرضنا، وسراجها في الليل... كان النزول الأول على سطح القمر حدثاً علمياً مثلما كان حدثاً إيديولوجياً وسياسياً في غمرة النزاع التاريخي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي...
لكنه كان ايضاً حدثاً ثقافياً وشعبياً لارتباطه بالمخيلة البشرية التي طالما حاكت حوله القصص والحكايات الخرافية والأساطير.
في الذكرى الأربعين لنزول أول إنسان على القمر، التي يحتفل بها العالم سألت «الحياة» شعراء وروائيين عرباً عن تلك اللحظة التاريخية وكيف يستعيدونها بعد أربعين عاماً. وهنا الشهادات.
> محمد البساطي: ما من شك في ان حدث هبوط الإنسان للمرة الأولى على سطح القمر هو حدث مذهل. فيكفي أنه جعل الإنسان يغير وجهة نظره إلى العالم، وإلى الكون، كما جعله يلتفت إلى ان ما يقرأه عن الكواكب والنجوم بما فيها الشمس والقمر ليس صواباً دائماً. لكنّ القمر ظل هو القمر رمز الضياء والعذوبة والرقة... فهذه الحادثة وعلى رغم أهميتها لم تغير الصورة التي نراها للقمر في السماء، فقد ظلت وستظل رؤيتنا له ثابته كما هي لن تتغير، ما تغير فقط هو مفهومنا عنه، بعد ان اكتسب بفضل هذا الحدث المذهل كثيراً من الشكوك.
> أمجد ناصر: أظن أنها لحظة من المشاهدات الخارقة. شيء يشبه السينما التي كنت أتسلل اليها بعيداً عن أعين الأهل في مدينة الزرقاء. شيء يشبه الخيال العلمي، بل هو الخيال العلمي الحقيقي لتلك الفترة. لو كنت شاعراً يومها لما أعجنبي الأمر ربما، لو كان قلبي يدق، آنذاك، لسبب آخر غير الخوف أو الهلع لما أعجبني الأمر أيضاً. فيكف يتحول القمر، مجاز الشعر الشهير ومجاز العشاق الأشهر الى كومة من تراب وصخور وتجاعيد؟ لكنني لم أكن يومها شاعراً ولا كنت أعرف حقاً ما هو الحب، حتى لو عرفته ما كان سيتغير شيء. فلم يكن القمر من معجمي ولا له معنى مختلف في ذهني. كنت على حدود المراهقة. كانت القوة والجسارة هما اللتان تفتنان واحداً مثلي لا الهشاشة، لا الشحوب، لا السرحات الرومنطيقية. بهذا المعنى كنت واقعياً، ولداً يرى العالم، في حي شعبي تسيطر على أزقته الضيقة العصابات وتلمع فيها أنصال السكاكين، من منظور البقاء الصرف. لم يســـقط القمر، مأسوفاً عليه، من مدونة التمارين الكتابية الأولى ولا من علو قلبي. كان ذلك الهبوط البطيء لرجل ببزة قصديرية مربعة من مركبة فضائية غريبة، مثل مشهد سينمائي.
الفارق أنني لم أره في السينما ولكن على شاشة تلفزيون يقدم وصلات مشاهدة لمسلسلات عربية وأجنبية لأولاد الحي مدفوعة الأجر. نحن الأولاد صدقنا ما يحدث أمامنا. أهلنا لم يصدقوا. شيخ الجامع كذَّب ذلك في صلاة الجمعة. قال إنها تمثيلية صورت في الصحراء. فقد كان يخشى، على ما يبدو، أن يكون ذلك تجديفاً، تحدياً للسماء، صعوداً الى حيث الله.
شيخ الجامع المسكين ظن، على الأغلب، أن المطلق هناك وهؤلاء الكفرة يطأون عتبته. الغريب أن مجاز القمر، الذي تكشف لنا أرضاً أكثر جدباً وتصحراً من أرضنا، كان أقوى من واقع القمر. فلم يسقط من القصيدة نهائياً، لم يبد مضحكاً في الأغنية، لم يهجر معجم العـــشق والعشاق، لم يتغير موقعه في الوصف. المجاز أقوى من الواقع. الشعر أقوى من المركبات الفضائية. والأغنية التي تقول: «نحنا والقمر جيران» تبقى، على رغم أن رجلاً ببزة قصديرية مربعة وطأ المجاز بقدمه.
> عباس بيضون: لا أملك ذكرى خاصة عن اللحظة التي علمت فيها بنزول أول إنســان على سطح القمر، ومردُّ ذلك إلى النسيان. لكنني شاركت الآخرين في انفعالهم بما جرى، مع أن مسألة كهذه ليست بما تثيره في حينها، وإنما هي على الأغلب تدوم طويلاً، وتكون آثارها في ما بعد أقوى من آثارها في حينه.
أعتقد أن نزول أول إنسان إلى القمر يعني خروج الإنسان إلى الكون. في هذه اللحظة أيقنا أن الأرض ونحن معها، لسنا سوى جرم صغير في كون، لن نتوقف بعد الآن عن التوغل فيه، وعن الشعور أننا كلما ازددنا ضآلة، ازدادت سرية الكون ومســـتغلقاته علينا.هناك من يرى أن النزول إلى القمر أفقدنا جزءاً من خيالنا، وبدا القمر جُرماً موحشاً لا يشبه مثاله في الشعر والأغنيات، وكأن القائلين بذلك يريدون الإفادة بأن العلم دمَّر خيالنا. الحقيقة غير ذلك، بل على العكس، فمع نزول الإنسان على القمر والدخول في الكون، بدا خيال المرء أقل بكثير من الحقيقة. فعلم الفلك أوسع خيالاً من الشعر، والأرجح أن الشعر بعد هذه الغزوة للكون تراجع عن إدعاء الخيال أو عن اعتماد الخيال سبباً وأساساً. أيقن الشعراء منذ ذلك الحين أنهم أقل خيالاً بكثير من العلماء، وأيقنوا أيضاً أن خيالهم الأرضي ليس شيئاً في مقابل الخيال الكوني الذي لا يملكونه، وبات على الشعر أن يبحث عن عامل آخر أو ساحة أخرى.
لم يقضِ النزول إلى القمر على الخيال، بل أطلقه أكثر بكثير منا ومن أرضنا وأدبنا، وعلى الأرجح أن الأدباء العرب كانوا أقل تأثراً، فقد جرى النفاذ إلى الكون بعيداً منهم.
> رفعت سلام: لا أذكر الآن تماماً كيف استقبلتُ الحدث آنذاك إذ مر أربعون عاماً كاملاً على الذاكرة المتخمة. لكن الأرجح أنه الاستغراب من الحدث، وأسئلة متحيرة عن كيفية الوصول إلى هناك، فيما كنا نتعثر ونعاني في الوصول من القرية إلى المدينة. لم يكن القمر من مفرداتي الحياتية الأثيرة، على رغم أنني كنتُ أخرج وقتها نفسياً وحياتياً من القرية الصغيرة إلى القاهرة. كما لم يكن من مفرداتي الشعرية. لا قمر في قصائدي القديمة غير المنشورة، ولن يحتل مكانةً ما في الأعمال الشعرية اللاحقة - لعلِّي مضادٌّ منذ صغري للرومنطيقية.
لم أتعلق به في مراهقتي الريفية، مع أن الأشعار التي كنتُ أقرأها في ذلك الحين، والأغاني الرائجة في «الإذاعة» المصرية، كانت متخمةً به، كمرادف للحبيبة، أو نجيٍّ للعاشق الولهان. كان، بالنسبة الى ذلك الفتى الريفي، ظاهرةً طبيعيةً شأن الشمس والنهر والأشجار والطيور المحيطة به، من دون أن ترتقي العلاقة الافتراضية إلى نوع من التصعيد الخيالي و «الأنسنة» المعتادة في الوعي الرومنطيقي. أما الآن، فلعلي أعتبرها خطوة إنســانية جبارة، على صعيد العلم والتقدم التكنولوجي. لكنني سرعان ما تدهمني الأســئلة حول تلك الفجوة العلمية والثقافية الهائلة بيننا - في مجتمعاتنا العربية - وبينهم؛ وحول واقع مجتمعاتنا العربية المتخبط في الحضيض والأفكار الظلامية المنتشرة، على نحو أو آخر؛ وحول انتظار يطول ويطول للخروج من نفق يبدو بلا نهاية. إنه حدثٌ هائل يطرح علينا الأسئلة الجارحة، التي لا إجابة شافية عنها. ويمر الحدث، ويأتي آخر، ولا تزال الأسئلة المطروحة علينا مشرعةً؛ إلى متى؟
> موسى حوامدة: هبوط أول إنـــسان على سطح القمر يعد أول اختراق شـــعري يجسد عبقرية الإنسان وسعة خياله من ناحية عملية، لأن عمر الخيّام الذي كان يمتلك مرصداً فلكياً كان يفكر بوسيلة تنقله إلى تلك النجوم وجاء من يجسد خيال الإنسان عملياً للوصول إلى سطح القمر وفتح شهية الشعراء على النظر أعلى إلى السموات. الشاعر مطالب دائماً بالتحدث إلى السماء ليس لاستمطار الأفكار منها، بل لنقل الواقع أعلى فأعلى. والهبوط على سطح القمر هو أساساً فكرة شعرية خلاقة، إذ بات في إمكان الإنسان الصعود إلى أعلى ليس خيالياً فقط بل عملياً أيضاً، حتى النظر إلى الحياة اليومية عبر قصيدة التفاصيل من دون الخيال المجنّح سيكون حصاده مجرد حديث عادي.
> سعيد الكفراوي: طار الأميـــركيون إلى القمر، وهبـــطوا علـــيه في العام 1969. ضـــجت الدنيا بالـــخبر، وصـــاح البعض في قريتنا النائية، هذا الحدث دلالة على قيام الســاعة. وسمعت يومها فلاحاً يقول: «يطــلعوا القمــر والله ولا الحـــواديت! يومها قال لي جدي العجوز الـــقادم من القرن الأول الهجري: صحـــيح حكاية القمر ديه يا ابني... ولما أكدت له الأمر ركن عكازه الى الحائط وصفق بيديه وقال: «والله عجايب!! بطلوا ده وسمعوا ده».
وسيدنا القمر لمن لا يعرف أقرب جيراننا، وهو أكثر الأجرام سطوعاً، ولذلك أحببنا البنات أول العمر على ضوئه، ومشينا في الغيطان وعلى الســـكك، وفي الســـاحات نغني حين يكون مزهزهاً، وضوؤه يحيي المخـــلوقات في الليل وهو أيضاً يحيي الحب، وهو مثل «شقة البطيخ» أو في منتصف الشهر العربي يكون بدراً فيشتد السحر ويكتب الشعراء قصائدهم المبللة بالدموع.
منذ أن نزل الأميركيون على سطح القمر وهم يذبحون خلق الله واستخدُمت الرأسمالية غير القابلة للإصلاح في مذلة العالم، ودفعنا نحن العرب ثمن سيادة الصهيونية بالمباركة الأميركية، التي بدأت في القرن التاسع عشر... خرج البعض علينا حينذاك، وقال: «تمثيلية الصعود الى القمر لم تحدث وما تم تصويره فيلم «بايخ» أنجز في صحراء «نيفادا»، والدليل على ذلك رائد يقفز في الفضاء له ظل، والقمر بحمد الله لا يعكس الظلال ولا يحزنون».
> علوية صبح: أربعون عاماً هي مسافة بعيدة إلى درجة أنني أستعيد رد فعلي كشيء يشبه المنام. أذكر حينها أنني انحزت إلى قول السيدة فيروز حين سألوها تعليقها على الحدث فقالت: «يصطفلو، القمر بالنـــسبة لي رح يضل القمر اللي غنيتو». لقد صدقتها لأنني أصـــدق فيـــروز أكثر مما أصدق العلم. رحت أستعيد كل ما غنته عن القمر، ووجدت وما زلت أجد، أن قمر الرحابنة وفيروز هو قمري، إنهم جزء من ذاكرتنا ومن تذوقنا الأول للعالم والحب والطفولة وأشياء كثيرة من بينها القمر.
لطالما كنا نشبِّه القـــمر بالحبيب أو الإنسان المثالي، وكتبـــت في إحدى روايـــاتي، أننــي حين كنت أنظر إلى القـــمر وأنا طفلة، كان يخيل إلي أنه عبدالناصر، وأحـــياناً كنت أرى فيه الفتى الذي ســـأحب وأعـــشــق لاحقاً. على كلٍ، الحقـــيقة العلمية لا تلغي الشعر والأغنية والتصورات والرؤى الفنـــية، والوهــم دائماً هو جزء من الواقع كما الواقع جزء من التـــخييل، لذلك لا العلم هو علم صرف ولا الجمال منفصل عن حقيقة الأشياء.
> بهاء جاهين: كنت نسيت تماماً حكاية هبوط الإنسان على سطح القمر، التي حصلت قبل أربعين عاماً. وقتها شاهدنا بالصوت والصورة كم أن وجه القمر مكدور، هذا القرص الفضّي الشفاف، ما هو إلا كوكب مملوء بالفوهات البركانية الخامدة. الحدث وقتها كان بمثابة لطمة أفاقتنا وأثّرت في نظرتنا الرومنطيقية إليه. لكنني شخصياً ومع مرور الوقت نسيت تماماً ما حدث وما زلت أنظر اليه في السماء. هذه الحادثة على رغم أهميتها لم تؤثر في رؤيتنا الى القمر الذي لا يزال حاضراً، بصورته القديمة الرومنطيقية المتخيلة، وبصفته عنصراً من عناصر الطبيعة كالشمس والبحر ومفردة من مفردات الشعر.
> حسن داود: لم أوفق في أن أفهم المغزى الرومنطيقي المحيط بالقمر، دائماً كنت أعزو رومنطيقيته إلى مخيلات بشر سواي، ربما كانوا من سبقونا إلى التغزل وحب الشعر. كنت في أحيان كثيرة أجده مؤنساً خصوصاً في ضيعتنا التي كانت قبل النزول إلى القمر بسنوات قليلة خالية من الكهرباء. كان ضوؤه منعشاً في الصيف، وكنا في طفولتنا نُشبِّهه بوجه رجل، فنعيد ما يظهر من أطياف تضاريسه لنكوِّن وجه رجل تام.
في مثل هذا اليوم بالذات، كنا مجموعة شبان نتفيأ قرب نبع الدردارة، وقف محمد العبدالله وقال لنا: لقد نزلوا على سطح القمر، وهذا الذي إسمه نيل أرمستـــرونغ يمشي على سطحه. لم تسعفنا مخيلتنا يومها في أن نهيّء لهذا الحدث ما يناسبه من صور وأفكار.
قال كثيرون حينها أن القمر دخل مرحلة جديدة في تاريخه، وبعضهم قال أنه أصبح رملاً ورماداً بعد أن كان ضوءاً ونوراً. كان ذلك غير قابل للتصديق، وكانت صدمة بل ومفاجأة، إلى حد أن من هيأوا لها وصنعوا حدثها، لم يتقدموا خطوة واحدة إضافية عن ذلك التاريخ، وكأن ذلك بات من ماضي البشرية المجيد كما نقول عن أهرامات الفراعنة.
ما زلنا نسمع شكوكاً حول إذا كان ما جرى حقيقياً، خصوصاً أننا قرأنا عمّن يحاول إثبات ذلك، على اعتبار أن العَلم الأميركي الذي رُفع على سطح القمر كان يرفرف، في حين أن سطح القمر لا هواء يمخره.
> محمد أبي سمرا: أذكر أننا كنا في المدرسة عندما سمعنا الخبر، انتظرنا بفارغ الصبر العودة إلى منازلنا لنشاهد عبر التلفزيون ما جرى هناك في السماء البعيدة. كان الناس مندهشين، وكانت للخبر أصداء المعجزة، ولكن سرعان ما انطوى الحدث مثل أية حوادث أخرى، وغرقنا بعدها في الأرض ولم نعد ننظر إلى السماء. عندما أستعيد هذه الذكرى اليوم أنتبه إلى الأعوام الأربعين الكثيرة التي مرَّت، والتي لم يبق منها إلا أشياء قليلة لا تتجاوز لحظات وذكريات سريعة.
ذلك القمر الذي فتن الشعر العربي على مرّ العصور / ديمة الشكر
الإثنين الحياة, 20 يوليو 2009
الذكرى الـ 40 لنزول الإنسان على القمر يستعيدها كتّاب عرب
< القمر تشبيهٌ جاهزٌ، استعارةٌ غبّ الطلب، ومجازٌ في متناول اليد، فماذا يفعلُ الشاعر حيال لفظٍ شاعري من تلقائه، ودربه واضح نحو العاطفة والحبّ والجمال؟ لا مسارب أخرى تقنعُ القمر بالنزول من علياء عاطفته إلى أرض القصيدة. هو اللفظ الأكثر تحديّاً للشعراء، فالجمال في حروفه ومعانيه يمنع مقاومة وضعه في قصيدة حبّ، الحبّ خفّ أم ثقل، فالقمر رافعته نحو وصف المحبوب. فكم من العاشقات العشيقات راضيات مرضيّات، إذ وضعن في القصيدة لصق هذا اللفظ الصغير، فالمديح مباشرٌ صريحٌ واضحٌ لا يحتمل شيئاً من التأويل، ويحوّل النساء إلى ليلى بضربةٍ واحدة، وكأن لفظ القمر طاردٌ للبلاغة.
ماذا فعل الشعراء العرب قديماً وحديثاً إزاء هذا اللفظ العصيّ؟
لعلّ مراتب لفظ «القمر» وأحواله ومنازله وفيرة في ««لسان العرب»، وكيف لا، واللسان جامع لخمسة معاجم لغوية يُشار إليها بالبنان! فهو «لونٌ إلى الخضرة، بياض فيه كدرة، ويقال للسحاب الذي يشتدّ ضوءه لكثرة مائه: سحاب أقمر، قال ابن سيدة: والقمر يكون في الليلة الثالثة من الشهر». كما أنه يفيد معنى الصيد «تقمّر الأسد، خرج يطلب الصيد في القمراء»، ومعنى الأرق: «قمر قمراً؛ أرق في القمر فلم ينم»، ومعنى آخر طريفاً: «قمر الرجل: حار بصره في الثلج فلم يبصر».
وهناك معانٍ أخرى لا حصر لها، فكأن المجاز واقعٌ في القاموس لا الشعر. ولاختبار رأيٍ مشابه، لا بدّ من زيارة الشعر قديمه الذهبي وحديثه المذهّب. والبداية لا تستوي من دون العذريين؛ يقول مجنون ليلى: «بَيضاءُ باكَرَها النَعيمُ كَأَنَّها/ قَمَرٌ تَوَسَّطَ جُنحَ لَيلٍ أَسوَدِ». فأن تطلّ ليلى عليه بجمالها وضيائها هي مدار المعنى هنا. أمّا في بيت آخر فتكون ليلى المجنون مضيئة من ذاتها: «قَمَرٌ نَمَّ عَلَيهِ نورُهُ/ كَيفَ يُخفي اللَيلُ بَدراً طَلَعا». وفي الحالين يمكرُ اللفظ الصغير بالمجنون، ولا يخرج عن «ضوء» معناه، فهو للمدح الأنثوي حصراً. بيد أن الفرزدق الأموي يذكّر المديح فيه، وكذلك نجد للقمر طريقاً فرعيةً للفخر، ولمناكفة جرير بالطبع: «كَم مِن أَبٍ لي يا جَريرُ كَأَنَّهُ/ قَمَرُ المَجَرَّةِ أَو سِراجُ نَهارِ».
أمّا المتنبي فلن يقف مكتوفاً إزاء اللفظ العصّي، والبداية تكون أوّلاً برفع «أنا» الشاعر- كدأب المتنبي - في غزلية نسيبيّة: «فَمَضَت وَقَد صَبَغَ الحَياءُ بَياضَها / لَوني كَما صَبَغَ اللُجَينَ العَسجَدُ/ فَرَأَيتُ قَرنَ الشَمسِ في قَمَرِ الدُجى/ مُتَأَوِّداً غُصنٌ بِهِ يَتَأَوَّدُ».
يحضر القمر ليظهر تبادل الألوان بين المتنبي وحبيبته جراء نظرة حبّ فاتنة. وقمر المتنبي هو أيضاً مصباحٌ/ مرآة في خدمته: «وَأَسري في ظَلامِ اللَيلِ وَحدي/ كَأَنّي مِنهُ في قَمَرٍ مُنيرِ». وهو أيضاً يمشي على قدمين ليوائم خطو الحبيبة: «بِالواخِداتِ وَحاديها وَبي قَمَرٌ/ يَظَلُّ مِن وَخدِها في الخِدرِ حَشيانا».
وفي الأحوال كلّها تزحزح قمرُ المتنبي، - وإن قليلاً - عن صورته الجاهزة. وربما هذا ما ألهم شعراء الحداثة من بعده مواصلة التصويب نحو هذا اللفظ العصّي، وأوّل الغيث مع من يترادف اسمه مع القمر. فبدر شاكر السياب من الرّواد الأوائل، ولوقع شعره أثرٌ كبيرٌ في النفوس لا يبدّده الزمن؛ فإن تغزّل بدر جاء القمر على هيئتين: مفرد وجمع في «أنشودة المطر»، وفي الحالين يرتبط القمر بعيني الحبيبة: «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر/ عيناك حين تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء كالأقمار في نهر». العينان عند بدر صورةٌ للبريق الجميل الذي يعكس معنى، لذا لا بدّ من أن يطفئهما إن تحدثّ عن «المومس العمياء» لئلا نرى جمالاً متسرباً منهما، فالقصد أن نأخذ موقف الشاعر من الأنثى المستباحة: «وجه تطفّأت النواظر فيه/ كيف هو الطلاء؟/ وكيف أبدو؟/ وردة قمرٌ ضياء/ زور وكل الخلق زور/ والكون مين وافتراء». وهو ما يبرر الكذب المتهكم القاسي عليها، إذ إنها لن ترى صورتها، أمّا القمر فمجاز لخداعها. ينفتح «قمر بدر» رويداً رويداً على الحزن، فهو شاهد قصّة حبّ لم تكتمل، وتركت حسرة في قلب بدر: «وتلك؟ تلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها/ شربت الشعر من أحداقها ونعست في أفياء/ تنشرها قصائدها علي: فكلّ ماضيها/ وكلّ شبابها كان انتظاراً لي على شط يهوّم فوقه القمر».
وله يدٌ تحنّ على الشاعر الحزين: «يدُ القمر الندية بالشذى مرّت على جرحي/ يدُ القمر الندية مثل أعشاب الربيع لها إلى الصبح/ خفوقٌ فوق وجهي»، وهو رفيق وفيقة - حبيبته - لكنه ملوّنٌ ويحرسها في قبرها : «تتمطّى في سريرٍ من شعاع القمر/ زنبقي أخضر/ في شحوبٍ دامعٍ، فيه ابتسام/ مثل أفقٍ من ضياء وظلام / وخيال وحقيقة».
ويبدو أن ربط القمر بالحزن كما فعل السياب، اتضح أكثر في الحداثة، وكيف لا، إذ لا نجاة من قمرين: قمر نزار قباني في «خبز وحشيش وقمر» وقمر الماغوط في «حزنٌ في ضوء القمر». فالقمر النزاري موضع للتهكم من الخرافات التي ربطته بالقضاء والقدر الذي لا رادّ لهما. ولا يتورع الشاعر العاطفي عن توجيه صفعة الى القمر بعد تاريخٍ محدّد يحزننا ويؤلمنا ولا يزال، فنكسة حزيران (يونيو) كسرت حتّى صورة القمر: «ما الذي يفعلهُ فينا القمرْ؟/ فنضيع الكبرياءْ/ ونعيش/ لنستجدي السماءْ/ ما الذي عندَ السماءْ/ لكُسالى ضعفاءْ/ يستحيلونَ إلى موتى/ إذا عاشَ القمرْ».
ويقول الوجه الجديد إن القمر عتبةٌ عاطفيّة ليس إلا، يقف فيها الشاعر الحداثي كما لو أنّها طلل: «أيّها الربيع المقبل من عينيها/ أيّها الكناري المسافر في ضوء القمر/ خذني إليها / قصيدةَ غرامٍ أو طعنة خنجر». فضوء القمر للاستهلال ليس إلا، إذ إن مدار القصيدة يثير الحزن لا لأنّ الشوق أودى بالماغوط، بل لأنّ حالتنا أودت بنا: «يا نظرات الحزن الطويله/... إنني أراك هنا/ على البيارق المنكسه/ وأنا أسير كالرعد الأشقر في الزحام/... أمضي باكياً يا وطني».
أمّا أنسي الحاج، فينقل القمر إلى منطقته الأثيرة: اشتباك المقدّس والمدنّس في لغة انجيليّة شبه صافية، الأمرُ الذي يخلق مجازاً استثنائياً له، إذ يحضر في القصيدة مرتدياً تارةً ثوب الاتحاد الجسدي بين حبيبين: «أنا لنفسي وحبيبتي لنفسها/ نحن متحدان مثل القمر»، ومرتدياً تارةً أخرى ثوباً حسيّاً: «كانت الشمس جالسةً بين النساء/ سيكون للشمس قمرٌ على يديَّ وسأعطيها يد الليل». فقمر أنسي مجاز للعلاقة لا صورة للأنثى، إذ لا يكتمل الذكر إلا بحضور أنثاه: «وحيداً أنزل مع الندى/ وحيداً أرتفع مع الهواء/ ولا يكتمل قمر استراحتي»، ليكشف عن وجه حداثيٍ جديد: المرأة مرفأ وملجأ وأصل.
وماذا عن قمر أدونيس؟ يبدو أنه متوارٍ، إذ هو نادرُ الورود في قصائده، وفي الأمر دلالة على عزوف أدونيس عن كلّ ما هو جاهزٌ وغبّ الطلب وفي متناول اليد، فالقصد هو الاختلاف والخروج. ومع ذلك، فقد هربَ قمرٌ من رقابة الشاعر، وأكثر من ذلك، ناكف القمر أدونيس، فظهر في قصيدة «مفردٍ في صيغة الجمع»، حيث تصير «حتى الخُرق أقماراً».
أمّا قمر درويش، فمتفردٌ متعدّدٌ متجدّدٌ، لا يجد حرجاً في الدخول إلى أي قصيدة، فهو في كبد السماء، لكنه ليس عاطلاً من العمل، إذ يشهد كيف اقتُلع الفلسطينيون من أرضهم في غير ما قصيدة: «تعوي ذئاب/ البراري على قمرٍ خائف/ ويقول أبٌ لابنه: كن قويا كجدّك». والشاعر يعرفه في البروة عن ظهر قلب، ويقيس من خلاله تغير الخريطة: «كنت أتبع وصف المكان. هنا/ شجرٌ زائد، وهنا قمرٌ ناقصٌ».
بيد أن اللفظ العصيّ انصاع لأحابيل درويش، فالمسافة بينه وبيننا خلّفت أوهاماً عاطفيّة، بدّدها درويش عند حضور «الطفولة السعيدة» تارةً: «لم أكن ولداً سعيد الحظ يومئذٍ/ ولكن المسافة، مثل حدّادين ممتازين/ تصنعُ من حديدٍ تافهٍ قمراً». وعند حضور عيد ميلاده تارةً أخرى: «قمر فضولي على الأطلال/ يضحك كالغبي/ فلا تصدق أنه يدنو كي يستقبلك». ولم يغفل درويش تعبيراً «عصرياً» رائجاً عن القمر، فأمسكه ليختزل مذبحة الهندي الأحمر: «عمّا قليل/ تقيمون عالمكم فوق عالمنا: من مقابرنا تفتحون الطريق/ إلى القمر الاصطناعي».
ولم ينسَ درويش أن يواجه القمر في بلاغته الجاهزة، ولعلّه أقنعه بأن يعيد النظر إذ كتب: «أحب من الشّعر عفوية النثر والصورة الخافية/ بلا قمرٍ للبلاغة: حين تسيرين حافية تترك القافية/ جماع الكلام وينكسر الوزن في ذروة التجربة». حضرت الأنثى أخت القصيدة من دون قمر، تخطو على مهلٍ بين الحسيّة والإباحيّة، كمّر السحابة فلا ريث ولا عجل، لأنّ اللفظ العصيّ وديعٌ مطيعٌ لشبكة درويش الاستثنائية.
يبقى القمر صديق ليالي الصيف الصافية، فيه ما فيه من مغريات شعريّة، فالقصائد «القمريّات» تفتن النقد المحتار، لكنّه مضطّرٌ للاختيار بين أقمار/ قصائد جميلة ومتنوعة. ولعلّ الكلام كلّه، ليس إلا عتبة جماليّة تقنع القارئ بقراءة الشّعر في إجازة الصيف تحت ضوء القمر.
ليس قمرنا عباس بيضون
عن السفير
قبل 40 عاماً نزل أول إنسان على سطح القمر. لقد مشى بقدميه الشبيهتين بالحراشف على أرض أحلامنا. عندها صاح الشعراء الساذجون بأنهم استعمروا أرض خيالهم. الحقيقة أن خيالهم بدا في هذه اللحظة بائساً وضيقاً. بدا الشعر ايضاً، هذا الشعر على الأقل، بلا خيال. لقد كان مسبوقا، ليس الآن، ولكن منذ بدأ التفكير بالكون وفي كل مرة يبدأ فيها التفكير بالكون. من حسن حظ الشعر أن ليس كله مرتهنا بالقصور العلمي او بجهل الكون. ليس شكسبير ولا غوته، ولا هو لورين ولا المتنبي من هذا النوع.
أما بالنسبة لنا نحن العرب فإن واحداً من كبار مفكرينا لم يصدق أن التقنيات العلمية نفذت من الجاذبية. كان رجلاً غلبه العمر ورده إلى تقوى حرفية ففهم من بعض الآيات ان هذا محال وأنه فوق إرادة الله. على كل حال لم يكن الوحيد فقد شكك كثيرون، لأسباب مختلفة، بالمسألة كلها. لا يهمنا ذلك الآن. سواء انكر ذلك الكبير ام أقر فاننا كنا بعيدين كثيراً عن المسألة. في تلك الفترة لم تكن عقولنا ولا أحلامنا ولا زادنا العلمي او الفكري تطمح الى فتح كهذا. لقد بدت هذه قضية غيرنا. قمرنا حينذاك الذي لم نبلغه كان برنامجا آخر مختلطا ومركبا. قبل أربعين عاما كنا نتطلع إلى التحديث والتحرير والتوحيد معاً. لم نكن نعرف يومذاك كم كان ذلك طموحا وصعبا. كنا نظنه قريبا وأقرب من ذلك القمر الذي تباهوا بالنزول على أرضه. كان قمرنا ذلك الحين. الآن ننظر إلى ما حدث، مرورا بـ 1967 وما بعدها. فنرى الحروب الأهلية وريثة هذا البرنامج الضخم.
لقد فشلنا بالطبع. هذا صحيح. لكن الحروب الأصلية التي كانت انكشافاً للواقع وتوفزاً له في الوقت ذاته لم تكن كلها شراً. لقد أعادتنا مراحل إلى الوراء، لكن أي وراء، وراء أحلامنا الساذجة، وراء خيالاتنا التي لا مقابل لها في مؤسساتنا ودولنا وجيوشنا وأحزابنا وسياساتنا. لقد كان مشوار الاحلام قصيراً ومشوار الواقع طويلاً للغاية. ومهما يكن فإننا لا نزال في أوله. انه يتراكم علينا ويتتابع، لكننا نتلقاه اكثر مما نفهمه. نتابعه أكثر مما نستشرفه. نخوضه اكثر مما نستخلص منه. سيكون لذلك أطول بكثير. ما زلت على خصومة مع الواقع. ما زلنا نعيشه ونفكره في آن معاً. ما زلنا نعيش في مكان ونفكر في فضاء آخر. فانه سيكون أطول وأطول إلى ما لا نهاية.
نعود مع ذلك للقمر. لقد غدا هو الآخر ذكرى. الآن نحن بعده بكثير، لكن كلما تقدمنا نعلم اننا لا نكاد نعلم شيئاً. ان الكون لا يزال شبه مجهول لنا. تاريخ آخر كوني هذه المرة أمامنا. لا نعلم اذا لم يكن هذا من مصادر العولمة، مع عوامل الاقتصاد والصراع الايديولوجي والبيئة وخلافها فإن العالم قد تحوّل إلى جرم صغير. لا نعرف كم يخيف هذا هؤلاء الذين لم يجدوا مكاناً في العالم الصغير نفسه ولن يجدوا في الكون مكاناً أكبر. كم يخيفهم ان يفقدوا أنفسهم فيه. لذا يبحثون عن قمرهم على الأرض، اللغة، الحدود، التراب، الدين. ليست هذا أشياء صغيرة. لقد كانت جذوراً على الأرض فلماذا يبيعونها للسماء؟ لا أحد يجزم بماهية الصراع المقبل، لكننا نعلم أن هذا القمر الذي نزلوا على أرضه ليس قمرنا.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |