فصل من رواية الأزرق سقط من السماء رواية منذر حلوم الأولى
2009-08-02
سقط الأزرق من السماء رواية منذر حلوم الأولى
أن يفاجئك كاتب في روايته الأولى بطريقة غير متوقعة، أن يمتعك هذا الكاتب، ويستطيع أن يشدك من أول سطر إلى آخر سطر في روايته، أن يكون قادرا على امتلاك أدواته، التي اختارها صعبة، ككاتب تمرس بكتابة الرواية منذ سنوات بعيدة، لم يصادفني مثل هذا الكاتب، في المنطقة العربية على الأقل، من قبل.
منذر حلّوم يدهشك منذ الصفحة الأولى من روايته الأولى "سقط الأزرق من السماء"، وتستمر هذه الدهشة حتى آخر سطر في الرواية، تتركها حين يجب أن تتوقف عن القراءة لسبب ما وأنت تريد ن تقرأ سطرا إضافيا، وهذا السطر الإضافي يشدك للذي بعده.. ولا تشعر إلا وأنت تقرأ فصلا إضافيا بعدك قرارك بالتوقف.
هذه ليست قراءة في العمل وإنما وجهة نظر متواضعة في عمل بهرني، ودعوة لقراء ألف بعد قراءة هذا الفصل لقراءة الرواية كاملة فهي تستحق ذلك.
تناول منذر حلوم الربع قرن الأخير من القرن الماضي، بمآسيه وأحزانه، بفساده، برجال حكمه، بتشعبات الحياة فيه، حين تقرأ هذا العمل تتذكر كثيرا من الأمور كنت ترغب بنسيانها ولكن منذر أصر أن يذكرك بها، لأن نسيانها بالنسبة له خيانة للنفس.
لن أقول أكثر .. وأدعكم مع هذا الفصل النموذج.
سحبان السواح
-12-
على لسان البحر
ترددت نجوى بين قبول دعوة درويش لدخول الميناء وبين الاعتذار. قفزت إلى ذاكرتها أحاديث عزيز عن مالك الذي لم تره ولم يصف عزيز لها شكْلَه, لكنّها تخيلته بسحنة حمراء مليئة بحبوب يخرج منها القيح, تخيلته وتخيلت عزيز معه...أغمضت عينيها قليلا, ثم نظرت إلى عيني درويش وقررت النزول معه إلى لسان البحر. أمّا درويش فلم تكن هي المرّة الأولى التي يلجأ فيها إلى ذلك اللسان الطويل الممتد في البحر, اللسان الذي يحجز البواخر حين يشاء ويحررها حين يشاء.
عالم الميناء عالم رجال وحديد. كل شيء هنا من حديد, حتى نظرات الرجال, وحتى الماء الذي ينظر بعينين مفزوعتين إلى الحاويات الثقيلة تتأرجح فوق وجهه. كأنّ الماء هنا من طبيعة أخرى! أجلْ, لماء ميناء الصيد روح أخرى غير روح ماء ميناء الشحن, ولماء ميناء السفر روح غير هذه وتلك..شعرتْ نجوى بأن الحديد ينظر إليها من كل صوب, ينظر مرتابا متفحصا فهو لم يعتد على رؤية نساء في هكذا يوم. فثمّة باخرتا ركّاب فقط تؤمّان الميناء. وفي هذين اليومين, يوميّ قدومهما فقط يرى الحديد النساء. وأمّا الآن فينصرف الحديد إلى نفسه. ثمّة رائحة أخرى أقوى تأخذه عن هذه الزائرة التي تسير بخطوات مضطربة.
فيما يشبه الشارع بين صفوف الحاويات المعدنية الكبيرة قصّت نجوى على درويش آخر فصول لعبة عزيز معها, آخر فصول مسرح القرف, مسرح المرحاض, كما راحت تسميه
: أليس هناك مسرح الحجرة! فلماذا لا يكون هناك مسرح المرحاض؟ حكت له عن تلك الأمسية التي وجدت نفسها فيها هديّة يفض عنها عزيز أغلفتها الجميلة ليقدّمها لصديقه بسّام, وعن زواجها التالي الذي لم يدم أكثر من شهر...
كان عزيز قد اتفق مع بسّام على أن يأتي الأخير إلى غرفة العمليات, كما كانا يسميانها, الغرفة التي استأجراها معا للقاءات الخاصة. كان على بسّام أن يأتي في ساعة محددة ليلةَ رأس السنة ويفتح الباب بمفتاحه الخاص, حين تكون نجوى في وضعية لا تسمح لها بالرفض..
: كانت تلك المرّة الوحيدة التي أُمضي فيها سهرة رأس السنة خارج بيت أهلي. وعدني السافل بسهرة رومانسية رائعة نكون فيها وحدنا. أظهر لي من الحب في الأسبوع الأخير قبل رأس السنة ما لم يظهره من قبل, وراح يعتذر لي عن انشغاله عني بالاتحاد وبالحزب, وعن امتلاء أيامه بأشياء كثيرة تافهة..قال إن الأيام تمضي بسرعة فظيعة, وإنه لا يصدق أنّ عاما كاملا قد مضى دون أن يشبع عينيه من رؤيتي ويديه من ضمّ يدي..لم يقل شيئا عن حيوانيته! قال إنه جائع للنظر إلى عيني, قال إنّه سيجلس ويتطلع في عينيّ ألف ساعة, وإنّه سيخزّن صورتي وكلماتي ورمشاتي وارتعاشات أصابعي في دماغه..قال أشياء كثيرة أسكرتني وجعلتني أعتذر عن السفر لقضاء السهرة مع أهلي..- صمتت قليلا ثم تابعت- ولكنني لا أريد أن أكذب عليك, فأنا أيضا كنت أريد أن نلتقي وستعرف لماذا. حين احتجَّ أهلي على بقائي في دمشق. قلت لهم إن الوقت غدرني وإن المادة الأولى في الامتحان صعبة وأنا مسبوقة ولا أستطيع أن أسهر في أي مكان, ولا أستطيع أن أسافر فالامتحان ثاني يوم بعد رأس السنة. دعوا لي بالتوفيق وأوصوني بصون نفسي. قال إنّه نظّف الغرفة ورتّبها وزيّنها وإنّه حصل على ويسكي ونبيذ رائعين من حصة رئيس الاتحاد. قال إن الجميع مسافرون, وإن أحدا لن يخطر بباله أننا هنا. فأخيرا سنكون وحدنا, وسنقضي الليل معا وحدنا, سأستلقي واضعا رأسي في حضنك وأغفو بينما تفلّين شعري..كم أحلم بأن أغفو بين يديك..قال لي وصدّقتُ ورحتُ أتعجل الوقت لقضاء الساعات الرائعة الموعودة. رحت أسترجع المواقف التي قسوت فيها عليه وألوم نفسي على ظلمي له..فهو شاب وطبيعي أن ينشغل عني بأشياء كثيرة, وطبيعي أن يبدو لي متقلّب المزاج.. وحتى تلك المرّة التي حشر لي فيها المجلة بين دفاتري, رحت أراجعها فأجد أنني لم أكن على حق. فهو كما قال أرادها هدية لي, هديةً دَفَعَهُ الحبُّ لتقديمها. فمن أين لي أن أتعرف على هذه الأشياء إن لم يكن عن طريقه هو حبيبي وزوجي في المستقبل, وما العيب في أن أتفرج على ما يتفرج عليه الجميع ويتمنّونه في السر.. وسرعان ما وجدت له العذر: ألم أحتفظ أنا نفسي بتلك المجلة! ألم أعد إليها مرّات ومرّات في خلواتي! فلماذا, إذن, أصرخ في وجهه وأتهمه بالقذارة والعهر والانحطاط!؟ تغير عزيز كثيرا بعد تلك الحادثة. لم يقاطعني ولكنه راح يتعامل معي برسمية وقسوة. راحت أشياء صغيرة تغضبه. قلت له: من الأفضل لنا أن ننفصل, من الأفضل أن لا يرى أحدنا الآخر! فوافقني, وقال إنّه شخصيا لن يأتي لرؤيتي بعد اليوم, وانصرف دون أن يلتفت إلى الخلف. في اليوم التالي لم يسأل عني. وجدت نفسي أجلس طوال الوقت في المقصف وأنظر باتجاه الباب متطلعة إلى دخوله. لكن أسبوعا مضى لم أره فيه! وجدت نفسي أصعد الدرج إلى مكاتب قيادة الاتحاد. وهناك وقفت أمام الباب. وقف لمّا رآني وتحرّك نحوي. دعاني إلى الدخول فلم أدخل. شعرت بالندم على مجيئي. قال لي: انتظريني في المقصف سآتي بعد قليل. هربت إلى غرفتي في المدينة الجامعية. شعرت بأنني انهزمت وبأنه أقوى مني, ورحت أعلل انهزامي بالحب..قلت في نفسي: أنا أحبه بالتأكيد, أنا واثقة من ذلك, فلماذا أكذب على نفسي! ومن حق الحب عليّ أن أتنازل عن كبريائي الفارغة. فليس هناك كرامة وحب معا.. في اليوم التالي لم أذهب إلى المحاضرة الأولى, إنّما جلست منذ الساعة الثامنة في المقصف. هذه المرة جاء. جلس قبالتي وأمسك بيدي. لم أسحبها. ضغطها قائلا: أنا أعرف أنّك تنتظرينني هنا كل يوم. الحب بحاجة إلى امتحان وأنت نجحت فيه. وأنا أيضا سأنجح في امتحان الحب. ستتأكدين بنفسك من ظلمك لي. قلت له إنني شقية ومشوشة ولا أعرف إلى أين أذهب بنفسي..ضغط يدي برفق أكبر, فقلت: إنني أشعر الآن بحبه لي وبأنه لو لم يكن يحبني لما جاء. طلبت منه أن يقول لي أحبّك وهو ينظر في عيني. قال أحبّك دون أن ترمش عيناه. قالها وهو يبتسم, ثم قال: ليتني كنت أستطيع أن أضمّك هنا وأقبّلك أمام الجميع وليقتلوني بعد ذلك. فبكيت. وضعت رأسي على يديه وأجهشت بالبكاء. لم أر في عينيه أيّة ملامح للكذب. عيناه كانتا صادقتين. في ذلك اليوم سحبني من يدي فانقدت له. لم أقاومه ولم أسأله إلى أين يذهب بي. سحبني إلى تلك الغرفة, وما أن دخلنا حتى شدّني إليه وضمّني بقوة. راح يقبّل عنقي. لم أقاوم, بل رحت أنتظر فاصلا بين قبلة وأخرى حتى أرجوه الجلوس. فأنا متعبة جدا. شعرت برغبة شديدة في الاستلقاء والنوم. شعرت بأن جسدي كله ينتمي إلى عالم آخر, وبأنّ آلامه تنتمي أيضا إلى ذلك العالم. نعم كنت أتألم ولكنه لم يكن ألما قريبا, لم يكن ألما يخص روحي. إنّه ألمٌ من طبيعة ذلك التعب الذي تشعر به حين تسترخي بعد توتر طويل, ذلك الشعور بالانهداد, تلك الرغبة بفصل الهاتف وإغلاق النوافذ وإسدال الستائر والنوم, تلك الرغبة بالانفصال عن العالم, بالاكتهاف.. انسللت من بين يديه واستلقيت على السرير الوحيد الموجود في الغرفة. جلس قربي وراح يداعب عنقي بيديه. رجوته أن يتركني أغفو ولو خمس دقائق. قال لي: حسنا! نامي, نامي يا حبيبتي. أغمضت عيني, تاركة لجسدي أن ينفصل عنّي, كأنّ شيئا مما راح يفعله بي لا يعنيني. وهو بالفعل لم يكن يعنيني. لم أقاومه ولم أستسلم له. إنّما كنتُ في مكان آخر, في عالم آخر. استلقى قربي وراح يقلب جسدي الذي عرف كيف يطاوعه, تاركا لي أن أغفو. أنا لم أنم طبعا, ولم أستيقظ إلا عندما حاول الولوج. عندئذ دفعته, راجية أن لا يفعل. رجاني أن أتركه يحبني كما يكون الحب, وكلامه اللاهب الحلو ينساح على عنقي وصدري. رجاني أن أسمح لنفسي بتذوّق طعم الحب الحقيقي. حالفه جسدي. انزلق من بين يدي إليه. وإذا بشعور كاوٍ يعيد جسدي إليّ, وإذا بي أحدّق في السقف, وإذا به ينفضّ عني. انتظرت فيما أنا ساهمة في السقف أن يُقبّلني. كانت تلك القبلة ستعني لي شيئا كثيرا. كانت ستعيد الدموع من شرفتي عيني إلى جرار الدمع. لكنه لم يفعل. انصرف عنّي إلى الحمّام, تاركا لدمعي ساخناً أن يسيل. وعندما عاد ورآني أبكي وكان قد اغتسل صافعا وجهه الساخن بحفنات من الماء البارد, ظنني أبكي عذريتي. انتظرت أن أسمع صوت غنائه وهو يغتسل. قلت في نفسي غناؤه أفضل من صمته. فالذين يغتصبون النساء يحملقون في سحناتهم الحمراء في المرآة بعد أن ينتهوا من فعلتهم, أمّا الذين يغنّون فيشعرون بالسعادة. والسعادة ليست شيئا حيوانيا..هم يحبّون على طريقتهم..لكن القبلة تعني أكثر من ذلك. القبلة تعني مشاركة وامتنانا. القبلة هنا, وفي هذه اللحظة بالذات, كأنّما تتم في منطقة الحب الحقيقي التي تتشكل من الجسد والروح, من لذة اندماجهما معا. لكنه لم يقبّلني, بل انصرف عني إلى الماء. وهناك لم يُغنّ, بل ظل يصارع وجهه بالماء. لم يكن يبدو عليه أنه يتذكّر وجودي. شعرت بأنّه سينصرف ويتركني على حالي. أغمضت عيني شاعرة بأسى شديد. قلت في نفسي: أنا الحمقاء! أنا التي خدعت نفسي وتظاهرت بأنني أعيش لحظات حب حقيقي. أنا التي تركت له أن يفعل بي ما يشاء. رحت أستعيد أحاديث النساء عن طبيعة الرجال: الرجل ما أن يحصل على المرأة حتى لا تعود تعني له شيئا. يلاحقها, يتذلل لها, يعبّر عن ألف صورة للحب ولكن ما أن تخضع له حتى ينفضّ عنها. ألف مرّة سمعت بذلك, وألف مرّة عاهدت نفسي على أن لا أسمح لرجل بامتلاكي كي لا يهملني. عاهدت نفسي على أن لا أسمح لأحد باحتقاري, وها أنا على فراشه مهملة كالخرقة التي مسح بها قضيبه. لا تسلّمي نفسك له قبل الزواج, دعيه ينتظر هذه اللحظة ويحلم بها. سيحبّك أكثر كلما تمنّعت أكثر..أمّا أنا فأغمضت عيني وتواطأت معه على حرّاس جسدي..أدخلتهم في ضباب من أوهام الحب, فغافلهم وغافلني.. توقّفَ صوت اندفاع الماء من الصنبور, وتناهى صوت خطواته هو, يخنقني اسمه, خطواته تدنو من السرير. لم أفتح عيني. شعرت بيديه باردتين تمسحان الدمع عن وجهي, وبشفتيه تعيدان شفتي المختلجتين إلى بيت الأمان. استسلمت لقبلته. أردتها أطول وأعمق. راحت هذه القبلة تعيد إليّ عذريتي وإيماني بالحب معا. شددته نحوي ورحت أعالج شفتيه ولسانه. أوقدت جسده من جديد. أتاني ثانية. لم يعد يعني لي ذلك الألم شيئا. صرت كلّني قبلة, ولست أدري ما الذي صاره هو. لكنه لم يسرع إلى المغسلة هذه المرّة. هذه المرّة أنا التي قبّلته ونهضت. لم أشعر بالانكسار والهزيمة, إنما شعرت أنا نفسي بالامتلاك, شعرت بنشوة النصر وقررت أن لا أتنازل عن هذا الشعور أبدا. أنا مَنْ سيدير اللعبة الآن, ولن يكون بمقدوره التخلي عني بعد اليوم. فما تقوله النساء هراء. هو الذي سيريدني وهو الذي سيلاحقني..فمعي, معي وحدي سيكتشف لذة الحب, وحتى لو بحث عنها في ألف امرأة فسيعود إليّ, وهنا سيغوص أكثر في طقوسٍ ستجعله أجمل حتى لو أراد أن يكون أقبح, ستجعله أطيب حتى لو أراد أن يكون أكثر شرّاً.. قبّلته وسألته عن مكان القهوة. قرّرت أن أدير أنا اللعبة. قرّرت أن أطوّع جسدي ليخدم لعبتي أنا. على جسدي أن يقوِّي حُبَّه لي, لا أن ينفّره مني. على كل عناق أن يفتح حجرة جديدة من حجرات قلبه المغلقة. سأجعله يدمن عناقي, سأجعله يكتشف حبّي في هذه اللحظات. سيراني هنا كما لا يمكن أن يراني في أي مكان آخر, وفي أية لحظة أخرى. وسيراني كل مرّة جديدة, ويرى أشياء أحلى فأحلى, ويعاني شعورا أعمق فأعمق, وسيطلب المزيد كل مرّة... وهكذا رحت أنسج أيامي الجديدة مع عزيز. أتمنّع عنه حين أكون راغبة جدا في وصاله, وألتقيه حين يكون هو راغبا جدا, فأتحكّم بتفاصيل اللقاء. أتهرب من لقائه حين أكون مشتاقة جدا لرؤيته وأستجيب لندائه حين أكون متأكّدة من شوقه الشديد لرؤيتي. وفي كل لقاء أترك له أن يكتشف شيئا جديدا من نفسي ومن جسدي..وهكذا رأيته يفقد صبره على بُعدي مع كل يوم من أيام علاقتنا. فيتوسل قبلة هنا ولمسة هناك, في كل زاوية يصادفني فيها. يرجوني أن أزوره في المكتب في نهاية الدوام. يقول لي: حرام عليك, أنا أشتعل من جوا!... وجاء يوم رأس السنة. كنت أتمنّى أن يطلب مني قضاء سهرة رأس السنة معا. ولو أنّه لم يطلب لكنت لمّحت إلى ذلك بنفسي. الناس يقضون عيد رأس السنة وسط عائلاتهم. وأنا أردته أن يشعر أنه معي في عائلته, أردت نفسي عائلة له. سيكون لليلة رأس السنة معان أخرى. فإذا أمضينا ليلة رأس السنة معا فسنكون بمثابة زوجين عاشقين. كل شيء حينها سيكتسب معنى جديدا. كنت متأكّدة من الشعور الذي ينتظرنا. كنت قادرة على لمسه. كنت أعرف جيّدا كيف سيكون. وكنت أريد له أن يتعرّف عليه, أن يكتشف نفسه ويكتشفني مع هذا الشعور الذي لم يعرف مثله من قبل. كنت متأكدة من أنّه لم يعرف شعورا مثله من قبل, ولا خطر بباله كيف يكون, ولذلك رحت أستعد لتلك الليلة وأدرس تفاصيل الدقائق التي سنعيشها. كنت واثقة من أنني سأدير تلك الليلة دون أن يشعر بأنّه يفعل الأشياء التي أريدها أنا بالذات منه. بل سيشعر بأنّه هو نفسه الذي يريد, وأنّ ما يقوم به الآن كان يسعى إليه من زمان. قال لي: سنمضي سهرة رائعة لم تعيشي مثلها في حياتك, سهرة أفكّر بها منذ أكثر من شهر. أرجو أن لا ترفضي لأنها, حقيقةً, ستكون رائعة. فكل شيء جاهز..الأكل جاهز والمشروب جاهز والموسيقى جاهزة, وسأفاجئك بشيء رائع, ولكن خذي بالحسبان بأننا سنبقى يومين مع بعضنا..أعرف ستقولين لي: عندي امتحان! أرجوكِ لا ترفضي ولا تفوّتي هذه الفرصة الرائعة. أعدك بأن أضمن لك النجاح, أعرف موظّفة في الامتحانات ستغيّر لك العلامة إذا رسبتِ, قدّمت لي هذه الخدمة أكثر من مرّة, لا تستطيع أن تقول لا فأنا أعرف كيف أجعلها توافق, انسي أمر الامتحان..لم يكن عزيز يعلم أنني أنتظر هذه الفرصة أيضا, ولم يكن يعلم بأنني, من قبيل الاحتياط, مهدّت لأهلي الأمر أثناء زيارتي السابقة لهم الشهر الماضي. قلت لهم إنني قد لا أتمكن من المجيء وقضاء سهرة رأس السنة معهم. لم يكن عزيز يدري بأنني جهّزت روحي وجسدي لهذا اللقاء الذي سيكتشف معه نعيمَ أن نكون زوجين ونمضي العمر معا. درست تفاصيل اللقاء. وضعت ترتيبات مختلفة للسهرة التي سنمضيها والليل الذي سيعقبها والصباح. لم أكن قد رقصت له من قبل. قلت في نفسي هو لا يخطر بباله كم أنّ رقصي مثير. لم أكن قد توجته ملكا ورفعت من شأن رجولته من قبل. كنت واثقة من أنّه هو نفسه لا يعرف كيف يكون حين أكون بين يديه أنثى حتى النهاية. كنت لا أزال أجيد أن أكون أنثى يشعر معها الرجل بأنّه مارد يستطيع اقتلاع الجبال. وماذا يريد الرجل من المرأة أكثر من أن تجعل منه أقوى الرجال!؟ كنت بلهاء! كنت عمياء! رحت أرسم كل شيء على ورقة جعلها غبش عيني تبدو لي بيضاء. نعم, جعلتْ أوهامي من عزيز ورقةً بيضاء, وظننت أنّ الذي أبنيه في مخيلتي هو الذي سيتحقق في الواقع. لم يترك لي غبش ثقتي الزائدة بنفسي, وغبش الحب أن أرى الرسم الذي يلطخ الورقة بقذارته.
في الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم, كان عزيز بانتظاري تعلو وجهه ابتسامة. سألني في الطريق إن كنت لا أمانع أن نتفرج معا في سهرة اليوم على فيلم خلاعي: لديّ فيلم رائع, وعليّ أن أعيده بعد غد. فما رأيك بأن نستغل الفرصة. هي مرّة في العمر.. سيعجبك وسنقضي ليلة مجنونة! رفضّت الفكرة مباشرة وتوقّفت عن المسير. كانت لا تزال تفصلنا بضع خطوات في الزاروب عن باب الدار. قال لي مرتبكا: لا تنزعجي أرجوك..أنا فقط قلت لنفسي: اليوم عيد وربما كنتِ تريدين ذلك وتخجلين من طلبه. قلت له: عندما سأريد سأطلب منك. دعنا نكن معا. لا أريد أن تشاركنا سهرتنا نساء عاهرات. قال لي: أنا آسف! معك حق. لن أعرض عليك هذا الموضوع بعد اليوم. لم يكن واردا في ترتيباتي أن يعرض عليّ مشاهدة فيلم خلاعي معه. لو خطر ببالي الأمر قبلا ربما لقبلت. كنت سأرتّب الأمر وأدرس الطريقة التي سأتصرّف وفقها. كنت سأرتّب الأمر لأجعله يشعر بنفسه معي أنا بالذات أقوى من أولئك الرجال الذين يتفرّج عليهم, أولئك الرجال الذين لا يتعبون. لكنني لم أكن أريد لأي شيء مفاجئ أن يخرّب عيدي. لذلك رفضت: لا تهتم- قلت له- ولا تنزعج, أنت فقط فاجأتني. فأنا أخشى أن يكون الفيلم مثل المجلة..مجموعة رجال ونساء. غير معقول! فأنا لا أستطيع تصور ذلك. لو كان الأمر بين واحد وواحدة فقط ربما كان معقولا. ردّت كلماتي له الروح. وسرعان ما عرض عليّ: نتفرج على اللقطات التي فيها واحد و واحدة فقط..مع أنّ اللقطات الجماعية تثير أكثر! وماذا يضرّنا أن نتعلم منهم أشياء لا نعرفها. نتفرّج مرّة واحدة, وبعدها لن نحتاج إلى ذلك. كم من الناس لا يعرفون كيف يمارسون الجنس. هم بحاجة إلى من يعلّمهم. وأنا لا أرى عيبا في ذلك. ما رأيك؟ تركت لنفسي فرصة المناورة. قلت له: اتركنا من هذا الموضوع الآن. فإذا شعرت بأنني أستطيع رؤية الفيلم سأقول لك.. أمامنا يومان سنعيش فيهما كعروسين في العسل. قاطعني: كثيرون يتفرّجون على أفلام في شهر العسل..أنا أعرف ذلك..الجميع يقولون بأن ذلك مفيد..والرجال لا يخرجون من الفيلم حتى تخافي: ليست المسألة في الخوف- قلت له- ولكنني لا أفهمك, فهل يعقل أنّك لا تمانع أن أرى رجال غرباء, وأن أشتهيهم!!: ولكنهم رجال في فيلم وليسوا رجالا حقيقيين! أنت ستشتهينهم هم وستنامين معي أنا وليس معهم, وأنا أيضا سأشتهي نساء أخريات ولكنني سأنام معك أنت وليس معهن..وهنا فائدة أخرى في الإثارة غير العادية.. تلمّست لدى عزيز رغبة كبيرة في أن نشاهد الفيلم معا. راح يستحضر كل الحجج العقلية الممكنة لإقناعي بضرورة أن أشاهد فيلما ولو مرّة واحدة في حياتي وبأن ذلك سيكون أصح لو شاهدناه معا واليوم بالذات, فإذا ما شعرنا لاحقا بأثر نفسي سلبي سنعلل الأمر أمام أنفسنا بأنّها ليلة عيد وفي العيد يمكن فعل ما لا يُحتمل فعله في الأيام الأخرى.. وكلام آخر كثير أقنعني بأن نتفرج على الفيلم ولكن ليس من أوّل السهرة. وافق عزيز فرحا. قال لي: حسنا نتفرج بعد منتصف الليل. لم أكن أدري, أنا الحمقاء, أنّه كان يخطط لسكري قبل ذلك وللأشياء الأخرى التي حصلت.. ومع ذلك اعترضت: لا أريد أن يبدأ العام الجديد مع فيلم خلاعي. الأفضل أن نتفرج وننتهي منه قبل الثانية عشرة. وافق عزيز. ظننت لسان حاله يقول: ما أن تبدأي الفرجة حتى لا تعودين تقوين على الابتعاد عن الشاشة.. لم أكن أدري أنّه يخطط لما بعد الفيلم. وبأن الشيء الذي يخطط له ليس في حسباني على الإطلاق. ولكنني لمّا كنت قد وضعت نفسي أمام تحد مع عزيز منذ اليوم الأول الذي تركت له فيه أن يفض بكارتي, وجدت نفسي أمام تحد جديد, تحدٍ أقف فيه قبالة أولئك النسوة العاهرات الماهرات, تحدٍ ومنافسة لا بد أن أفوز فيها. لم يخطر ببالي, أنا البلهاء, أنّ التحدي من طبيعة أخرى, أن عزيز يريدني واحدة منهن لا واحدة قبالتهن.
في الساعة العاشرة كانت زجاجة الويسكي قد نقصت أربع كؤوس. قال لي عزيز: يشربون الويسكي, عادة, قبل الطعام, يخلطون الويسكي بالكولا, وبعد ذلك يشربون النبيذ الأحمر مع الطعام. مرّة كنت مع الزميل رئيس الاتحاد في حفلة راقية..هكذا كانوا يشربون. أولاد كلب أغنياء.. مائة راتب من رواتبي لا يكفي لفرش طاولة مثل تلك الطاولة!.. شعرت من إلحاح عزيز عليَّ بالشرب بأنه يريدني سكرانة تماما, بأنه يريدني أن أفقد وعيي. أمّا أنا فلم أكن أستطيع تصوّرَ أن أكون فاقدة الوعي..لذلك قررت أن أتحايل عليه وأتخلّص من المشروب بطريقة ما..وبينما راح هو يشرب باندفاع رحت أشرب من كأس الكولا الخالية من الويسكي..كان عزيز قد وضع ثلاث كؤوس بدلا من كأسين. لم يخطر ببالي أن أسأله عن الحاجة إلى الكأس الثالثة. لم أكن أعرف, بعد, أن هذه الكأس تنتظر صاحبها. لكنني حين بحثت عن حل للتخلص من المشروب بدت لي الكأس الثالثة منقذة فملأتها بالكولا. وهو لم يتساءل عن حاجتي إليها طالما كأسي ثلاثة أرباعها من الكولا. بدّلت موقع الكأسين وارتحت. بعد العاشرة بقليل, نظر نحوي غامزا وقام لتشغيل الڤيديو. اكتشفت أن الشريط الذي تحدّث عنه موضوع فوق جهاز الڤيديو من قبل. استعد السافل لكل شيء مسبقا.. من اللقطات الأولى تبين أن الشريط يحتوي أقذر لقطات يمكن أن تخطر بالبال. شعرت بقرف شديد. ليس فقط لم تثرني المشاهد التي راح يتابعها بنهم, بل أشعرتني بقذارة الجنس. رجوته أن يوقف العرض. قلت له: لا أستطيع أن أرى هذه القذارات! إذا كنت تريد مشاهدته, يمكنك فعل ذلك عندما تكون وحدك وليس بوجودي. أجابني مندهشا: انتظري قليلا هناك لقطات أحسن, هناك لقطات مثيرة جدا ستعجبك. بدت سحنته حمراء وجحظت عيناه حين راح يسرّع الشريط حينا ويرجعه حينا آخر.. قلت له: أرجوك أوقفه! أنا لا يمكن أن تثيرني شلعة كلاب على عاهرة. قلت ذلك وفتلت الكرسي لأواجه الجدار المقابل لطاولة الڤيديو. كان في الغرفة كرسي واحد فقط. كان قد جلس على حافة السرير. لم يصدّق ما سمعته أذناه. لم يصدق أن امرأة يمكن أن تقاوم الفرجة على كل هؤلاء الرجال. صرخ, وكأن إهانة كبيرة قد لحقت به: مستحيل! أنت متخلفة وستبقين طوال عمرك متخلفة.. قمت إلى المطبخ الصغير الذي ينفتح على الغرفة. هو مطبخ ومرحاض وحمّام في مكان واحد. وقفت هناك وأغلقت الباب. بعد دقيقتين جاءني صوته: أنا آسف, تعالي, تعالي, لا تزعلي..أطفأتُ الڤيديو..تعالي نكمل السهرة. فتح الباب وعانقني وسحبني وهو يلفّني باتجاه السرير. رجوته: ليس الآن, لا أستطيع! أشعر كأنّك ستغتصبني! أنتَ ما زلت في الفيلم! اهدأ الآن أرجوك..قال: طيّب, طيب. وجلسنا. شعرتُ برغبة في الشراب. أردتُ الخروج من حالتي..كنت حمارة! لا أعرف لماذا لم أفكّر بالخروج, بالذهاب إلى المدينة الجامعية أو إلى أي مكان. قلت في نفسي: أشربُ ونكمل السهرة. عدّت إلى كأس الويسكي وشربتها دفعة واحدة..ما أن فرغت من الكأس حتى رجوته: عدني بأنك لن تعرض عليّ مثل هذه القذارة مرّة أخرى! وعدني. أفرحه أن أشرب الكأس بهذه الطريقة. صبّ لي كأسا مضاعفة وقدمها لي دون أن يضيف إليها الكولا. قمت بنفسي بإضافة الكولا. لم أشرب الكأس الثانية دفعة واحدة ولكنني شربتها على جرعات كبيرة. نظرت إليه. كان ينقّل عينيه بين عينيّ وساعة يده. بدا كمن ينتظر شيئا ما. سألته: لماذا تنظر إلى ساعتك!؟ هل تريد الخروج. إذا كنت قد أمللتك رُحْ إلى أي مكان تريده, سأبقى هنا وحدي حتى الصباح, رح.. نهض من مكانه إليّ. لفّني وراح يقبّلني في عنقي. شعرت بدوار خفيف. قال: أنت لا تفهمينني, أنت تظلمينني دائما.. أنا فقط أنظر لأعرف كم بقي من الوقت لرفع نخب السنة الجديدة. كان قد بقي حوالي نصف ساعة. نهضت معه لأجلس قربه على السرير. طلبت منه وأنا أتملّص من قبلاته: قل لي إنّك تحبني, قل لي كلاما لطيفا. قال لي إنني أجمل واحدة في الدنيا وإنّه يحبني لدرجة أنّه يريد أن يَشربني دفعة واحدة, وإنّه مستعد لتقبيل كل خلية من خلايا جسمي ألف مرّة, وإنه على استعداد لتدمير العالم كله بشرط أن لا أزعل منه, وإنّ نظرة من عيني تعادل الكون كلّه بالنسبة له, وإن جسمي يثيره إلى درجة الجنون, وإنّه عندما يتذكرني ينتصب كلّه ولا يستطيع أن يعود إلى حياته الطبيعية إذا لم يمارس العادة السرية, وإنني أملك أشياء يتمناها الرجال كلّهم, فليس لدى امرأة أخرى مثلها..راح يصف مواضع الإثارة في جسدي بينما شفتاه ترعيان عنقي وصدري بين الكلمة والكلمة...استطاع أن يعيدني إليه. رأى ذلك في عيني. لم يكن من الصعب تخمين درجة انسجامي معه. ومع ذلك تركني ممددة في ضبابي, واتجهَ إلى آلة التسجيل. وضع شريطا لزمفير, وصب لي كأسا جديدة وعاد إليّ. شربت من الكأس جرعتين بينما راح يعالج ثيابي. لم ينقطع عن قول الكلام الحلو. طلبت منه أن يبعد السخانة الكهربائية عن السرير فأنا أشعر بحرارتها المرتفعة. أدارها باتجاه آخر. شربت ما بقي في الكأس. طلبت منه أن يطفئ النور. قام وأطفأ اللمبة الوحيدة المعلّقة في وسط الغرفة, ووقف قليلا قرب النافذة, وسحب الستارة قليلا ونظر إلى الخارج ثم أعادها وعاد إليّ. لم يبق في الغرفة إلا ضوء وشيعة الكهرباء الأحمر. بدا كل شيء رائعا ومثيرا: موسيقى ساحرة ودفء وكلام عذب ولمسات خبيرة..رحنا نتمرغ على السرير. لا أدري كم من الوقت مضى مع دفء الحب وبلله! وإذا بيدين باردتين تمسكان بمؤخرتي! لم أفهم في البداية من أين جاءت هذه البرودة إلى يدي عزيز. لكنّني سرعان ما جمدتُ, تصلّبتُ كالصخر! فهاتان اليدان ليستا له! يداه تطوقانني, تضغطان صدري على جسده المستلقي على السرير! فهمت أن رجلا آخر يقف هناك. انتفضت من حالي مذعورة. رأيت بسّام وقد أنزل سرواله, مستعدا لإغماد سيفه في لحمي. قفزت من السرير. لكن الكلب عزيز أمسك بي وأعادني. قيّدني برجليه ويديه. لم يفك قيدي, رغم أنني عضضته حتى أدميته, لم ينهض قبل أن يبصق صديقه بسّام بصقته القذرة في روحي..وبعد ذلك خيراني بين أن أبقى في سريرهما حتى الصباح, أو أن أخرج إلى الشيطان الرجيم. فاخترت الشيطان. بعد أن خطوت فوق العتبة توقفت. التفتُّ إلى الكلب عزيز. بصقت في وجهه فصفعني صفعة أعمتني وأغلق الباب.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |