قصة / صانع الأبواب
2007-01-29
قضيتَ جل حياتك تصنع أبواباً من الحديد وتثبت عليها أشكالاً فنية من النحاس وغير النحاس. ألم تتعب؟!
سألته ، وهي تضع إصبعها على صورة لأحد الأبواب. كان يحتل الصفحة الأولى من الإلبوم، وكان يحمل رقم ( 40 ) ، وبدا فارغاً من الأشكال الفنية باستثناء جزء صغير في أسفله يحمل ما بدا لها عريشة عنب آيلة للسقوط أو قفصاً خشبياً في وضعية مائلة . كان أصبعها الذي ظل ساكناً حيث وضعته ، يقع في فراغ الباب الأسود، في حين ثبتت بصرها على الشكل المرسوم في الأسفل.
ـ قلت لي من قبل أن كل الأبواب التي صنعتَها قبل هذا الباب ذهبت إلى أصحابها، إلا هذا الباب لم يطلبه أحد سمعته يقول أن الأبواب مثل الناس، وأن الزخارف الظاهرة على واجهاتها مثل الكلام، .
وأن لكل واحد بابه الذي ينتظره. ثم قال لها الكلام نفسه عندما سألته ما إذا كان صحيحاً تعلقه الشديد بتفاصيل معينة تتصل بأمور شخصية للعميل لا علاقة لها بالمهنة. وحدث أن قالت له معلقة على رأيه عن الزخارف أنها ليست إلا إضافات غير أساسية يعملها الحدادون وفقاً لما تعارف عليه الناس من أشكال فنية رائجة.
ـ أنت تتحدثين عن الحدادين وليس عني.
أجابها، بعدما كررت طرح رأيها في الباحة الخلفية للورشة، أمام أحد الأبواب الكبيرة، وكان مزيناً بأزهار نحاسية مقلوبة تسلقته من أعلاه إلى أسفله من دون سيقان ولا أوراق. فتح أمامها إلبوماً كبيراً يحوي صور عدد من الأبواب قال أنه صممها وصنعها في ورشته. انتقى بعضاً منها، وشرح لها الرسومات التي عليها، موضحاً أن كل شكل يعمله إنما هو مستوحى من معرفته بالعميل نفسه.
ـ إنني أرسم ما أعرف يا سيدتي.
قال لها، محاولاً أن يكون حديثه معها قصيراً، وفي صلب الموضوع تماما. ولكن ثمة خطأ وقع. إذ بينما هو يتحدث، ويشرح، ويضرب أمثلة هنا وهناك، لم يتنبه إلى يده التي اقتربت أكثر فأكثر من يدها إلى أن احتكت بها على صورة الباب الذي لم يطلبه أحد. مست جسمها قشعريرة احتكاك اليد باليد، وشعرت بها تتكثف لوهلة في ما بين الكتفين، ثم زحفت على شكل موجة دافئة إلى قذالها فخيل إليها أنه قال كلاماً لم تسمعه جيدا. أما هو، فأبعد يده بارتباك عن محيط الصورة، ونظر إلى سائقها الذي كان يقف على بعد خطوات منهما، ثم انتقل خطوة واحدة إلى الوراء، مفسحاً لها المجال في التصرف أو الذهاب.
عج المكان برائحة صدأ الحديد، وامتقع لون الضوء الساقط من فتحات الورشة العلوية على الإلبوم. وفيما هي تحاول تدقيق النظر في صورة الباب كعميل جاد يبحث عن باب يناسب ذوقه، تظاهرت ببرود الصفائح الحديدية المنتشرة حولها، وأبدت رأيها في الباب:
ـ هذا الباب ينقصه شيء، لكني لا أدري ما هو؟
جاءها صوته متزامناً مع صوت إحدى جلاخات الحديد التي اشتغلت في الجهة الأخرى من الورشة:
ـ هذا الباب صنعته منذ زمن طويل، وها هو منذ ذلك الوقت ينتظر صاحبه. أثارت عبارته الأخيرة فضولها:
ـ صاحبه؟!! .. هل هو من هنا؟
ـ في الواقع، هو كذلك.
ـ ولماذا تأخر في استلامه؟
ـ لعل الوقت لم يحن بعد.
ـ ولكنه راق لي وأرغب في أن تصنع لي مثله.
ـ هذه هي القضية يا سيدتي. الأبواب مثل الناس كما أخبرتك، والباب الذي أصممه لعميل لا أصنع مثله لعميل آخر.
مرة أخرى، تأملت الباب محاولة فهم انجذابها القوي إليه، بالرغم من واجهته الجرداء التي توحي بالفراغ، ولولا ذلك الشكل الفني الذي يستقر أسفله، لما وجدت عذراً في عدم وصف ذوقها بالرداءة. لم تشعر قبل رؤيتها إياه أنها أكثر انجذاباً إلى شيء كما شعرت تجاهه، ومما زادها حيرة أن رغبتها في امتلاكه تتفاقم كلما تذكرت أن كثيرين رأوه وتركوه في مكانه. ثم ذلك الشخص الذي يقول المعلم أنه لم يأت إلى الآن لأخذه، لماذا تأخر كل هذه المدة؟ ومن يكون؟ وكيف اتفق أن طابقت رغبتُها رغبتَه في امتلاكه؟ ألم يقل المعلم أن لكل واحد بابه الذي ينتظره؟!
ولئلا تجد نفسها أمام أسئلة لا نهاية لها، فكرت في أن تسأل المعلم عن اسم ذلك الشخص لتذهب إليه، وترجوه أن يبيعها الباب، أو أن يهبها إياه. وإن لم يقبل أياً من الخيارين، فإن مهمة الحصول على الباب ستكون أصعب مع غيره. على سبيل المثال، قد تلجأ إلى رشوة العمال، وراودتها فكرة أن يضعوا مكان الباب باباً آخر يشبهه. ولكن المعلم سيكتشف اللعبة. كيف؟ لا تدري. ربما من خلال الباب الشبيه نفسه، كأن تظهر عليه أيدي العمال عارية من الخبرة الكافية في تقليده. أو أن تفضحهم مبالغتهم في الحذر عند صنعه. لطالما قال لها أنه لا يحتاج إلى اختبار كبير ليعلم أن الأبواب التي صنعها لم تكذب عليه في غيابه، سواءً تلك التي ما زالت في الورشة، أو مئات الأبواب التي تفرقت في أحياء المدينة خلال السنين الماضية. حتى النتوءآت الصغيرة التي تبدو للناظر كما لو أنها خرجت خطأ من قلب تشكيلةٍ ما، كان يقول عنها أنها هكذا كانت، قبل الشروع في صنع الباب. في أحد الأبواب، رأت نتوءاً شاذاً على شكل قطعة من الحديد مفلطحة الرأس ذكرتها برؤوس الأفاعي فقال لها هكذا كانت في البداية؟ أين كانت؟ سألته مستغربة، فابتسم، وأشار ليس إلى الباب، وإنما إلى اسم عميل في إحدى صفحات سجل ضخم كتب على غلافه مدونة العملاء. أسماء رجال ونساء كتبت بترتيب متقن، وبخط أسود جميل على الصفحة، بحيث حمل كل اسم في خانته رقمه التسلسلي، وعنوان صاحبه، ثم رقم الباب الذي يخصه، وفي أقصى اليسار وضع هامش خصص للملاحظات. قسم من تلك الملاحظات كتب بهذه الصيغة: ( استلم الباب بتاريخ كذا ) ويذكر التاريخ، أما القسم الآخر، وهو يخص أولئك الذين لم يأتوا لاستلام أبوابهم، فكتب بهذا الشكل: ( لم يحن الوقت بعد )، وفي هذا القسم الأخير، لم تصدق عينيها حينما رأت اسمها مكتوباً في ذيل الصفحة، وعنوان منزلها، ثم الرقم ( 40 ) في المربع الصغير الخاص بالباب.
عواض العصيمي
3 سبتمبر 2006
موقع أمجد ريان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |