هـل تتشابـه أم كلثـوم وهيفـا وهبـي؟
2007-02-09
كلتاهما كثفتا التغيير وافتتحتا فن عصر جديد
يذهب التضاد بين هيفا وهبي وأم كلثوم كل مذهب، بحيث يصبح الحديث عن «تشابه» بينهما وكأنه استثارة زائفة لمشاعر حساسة وصادقة ومتوترة في الوقت نفسه. وفي المقابل، فإن كل ذلك التضاد هو بالضبط ما يُغري بالمقارنة! إذ يبدو بديهياً اعتبار غناء «كوكب الشرق» رمزاً عالياً للفن، وخصوصاً في تلك الفترة التي يروج وصفها بأنها «الزمن الجميل». وفي الطرف المُضاد من الصورة، تبدو وكأنها مجازفة القول أن هيفا وهبي تُكثّف معطيات فن الفيديو كليب، الذي يبدو وكأنه يعيش زمنه الجميل أيضاً!
الى أي حدّ يصح القول أن هيفا هي لفن الفيديو كليب ما كانته سيدة الغناء العربي لفن الأغنية المسموعة؟
ويقود التأمل في صور سيدة الغناء العربي والتسجيلات التلفزيونية لحفلاتها التاريخية، رأساً الى صوتها الهائل، الذي لم يظهر ما يوازيه لحد الآن. على عكس كوكب الشرق، لا تملك هيفا صوتاً يُعتدّ به؛ والارجح أن صورة هيفا هي العكس تماماً. إذ تؤدي بجسدها، بحيث يبدو صوتها مجرد تابع لذلك الجسد؛ ولربما كان ذلك من الأشياء التي تصنع أهميتها أيضاً. وإذ تقف أم كلثوم للغناء في وقفات جامدة، يبدو جسدها وكأنه مملوء من ذلك الصوت الذي يتمدّد على مساحات بلا حدود. تحرص هيفا على تملّك جسدها، وتستخدمه في توهيم جنسي مُتّصل، تتفاوت النظرة القيمية والاخلاقية اليه دوماً. لا يحضر الجنس في وقفة أم كلثوم ولا حتى وهماً؛ ويقتصر حضورها الانثوي على تملكها لصوتها وحرصها على التفنّن به، وايصال لعبته مع اللحن والكلمات الى حدّها الاقصى، الى حدّ أن الصوت يختصر مكوّنات الغناء كافة، وينوب عنها. ولا تصف الكلمات السابقة سوى جزء يسير من التضاد بين أم كلثوم وهيفا.
الغناء التلفزيوني
وفي المقابل، فالارجح أن ما يجعل المقارنة ممكنة، بداية، هو معنى الفن، باعتباره ابتكاراً وابداعاً. لقد دفعت الفضائيات الى عالم العرب بفن جديد هو الغناء التلفزيوني، الذي يبدو أنه يعيش زمناً من نوع خاص: زمن فن الفيديو كليب وصناعته. وراهناً، لا تسود أشرطة الغناء التلفزيوني قوانين وشروط فنية آتية من زمن سابق أو من تقليد قديم؛ بل أن بروتوكولات هذا الفن تبدو وكأنها تُصنع الآن، فكأنها تُنشأ وتُصاغ وبنسبة عالية من الحرّية ومن هوامش التحرّك، أي كأنها تبتكر ابتكاراً حديثاً. ويحمل ذلك الشيء الكثير من الشبه مع أم كلثوم: الصوت الذي اجتمعت عنده الخيوط الأساسية في زمن الحركة الثانية (والأخيرة؟) الكبرى من التجديد في الأغنية العربية الحديثة، ووصلت معه، الى شكلها الأقصى والذي بات معياراً كلاسيكياً. والحق أن صوت أم كلثوم ومساره يصلح نموذجاً لمسار الغناء العربي. والمعلوم ان ذلك الفن يجد جذوره في التراث الديني، بفروعه كافة، وخصوصاً التجويد القرآني المعتمد على المقامات الاساسية وهي البيات والسيكا والنهاوند والصبا والحجاز. ويمثل المُلحّن الشهير الشيخ ابو العلا محمد، الذي عاصرته ام كلثوم وأدت له، الشكل الأكثر كلاسيكية للأغنية العربية. ويمكن القول، باختصار شديد الرداءة، أن تجديد الغناء العربي جرى في حركتين كبيرتين تاريخياً، وقد تفاعلتا دوماً بالموسيقى الغربية وتأثرتا بها. ففي العشرينيات من القرن العشرين، أنجز سيد درويش حركة التجديد الأولى وقوبل بنفور، وقيل أنه يحطم الغناء العربي، وخصوصاً عندما لحّن أوبريت «شهرزاد» (وأدّتها منيرة المهدية) التي اعتُبرت انقلاباً، لكنها ساهمت في صنع الشكل الراهن من الأغنية. وقد لحن درويش قرابة عشرين أوبريت، وهي شكل غربي لم يكن معروفاً قبلاً عند العرب. وكان درويش أول من فتح المقامات التقليدية أمام التجديد، مثلما فعل في دور «في شرع مين» التي توصف بأنها مُلحّنة على مقام الزنجران، وهو مقام غير مألوف الى حدّ أنه يُنسب الى درويش نفسه أحياناً! وكرّر ذلك التجديد في معظم أعماله، وخصوصاً «الحبيب للهجر مايل» ورائعته «أنا هويت وانتهيت» (مقام كرد). ويلفت أن مقام كرد هو أيضاً النغم الأساس في الموشحات الاندلسية وقد اندرج في صلب موسيقى الفلامنكو الاسبانية. ويصعب إغفال ريادته الأغنية السياسية وموسيقاها، كما ظهر في لحن «بلادي بلادي»؛ الذي صار نشيداً وطنياً. وسجل ريادة أُخرى في اقتباس فن المونولوج، الذي وصل مصر مع الاحتلال الانكليزي. وهكذا قاد درويش الغناء العربي في حركة تجديدية كبرى استمرت بعده، في الثلاثينيات والاربعينيات. وتشرّب التجديد الدرويشي الرموز التي صنعت «الفن الجميل» في حركة ثانية هائلة من التجديد، وصلت ذروتها في الستينيات، مع عبد الوهاب ومحمد القصبجي ومحمد الموجي وفريد الأطرش ورياض السنباطي، وبدرجة أقل زكريا أحمد، وغيرهم. وباختصار مُخلّ أيضاً، اللافت أن القصبجي طوّر الطقطوقة، كما أدخل التشيللو والكونترباص الى التخت الموسيقى التقليدي، فقرّب الطقطوقة من الشكل الحديث للأغنية. وأدخل عبد الوهاب سلم الكروماتيك، كما تلاعب بالمقامات و«غربنها»، وخصوصاً حجاز كار كرد، وعمد الى استعمال آلات غربية، بما فيها البلالايكا الروسية والأرغن، واغترف بقوة من الموسيقى الكلاسيكية الغربية. ويكفي الاستماع مثلاً الى عبد الحليم حافظ في «بُكرة وبعده»، بما تضمنه من آلات والحان غربية راقصة، لتتعرف الى التجديد الانقلابي الهائل الذي حدث في «الزمن الجميل». لم يأبه فنانو ذلك الفن الجميل بالرفض الذي قوبلوا به، ولا بالاتهام بأنهم حطموا قوالب أو خرجوا عن المألوف؛ بل الارجح أن ذلك شجّعهم على المضي في تحدي الابتكار. لم يأسر فنانو الزمن الجميل خيالهم في تقليد ولا ساروا على نمط، بل جعلوا التجديد والخروج عن المألوف عصباً أساسياً في أعمالهم.
التغيير
والارجح أن صوت أم كلثوم كثّف ذلك التغيير، بحركتيه الكبيرتين، في أغانيها المعروفة، التي أرست شكل الأغنية العربية، مثل «افرح ياقلبي» و«غنّيلي شوية شوية» و«ياصباح الخير ياللي معانا» و«ياليلة العيد» و«رق الحبيب» وغيرها. واستكمالاً، صنع لبنان الجناح الثاني من التجديد الفني في «الزمن الجميل»، خصوصاً عبر المدرسة الرحبانية وصوت فيروز. نهض الراديو والمسجّل والاسطوانة بالشق التكنولوجي للتجديد. ولهواة السياسة والاجتماع وصل الحركتين التجديديتين بمتغيرات السياسة مثل ثورتي 9191 (قادها سعد زغلول) و2591 (قادها جمال عبد الناصر).
ولكن، لم المجازفة بالقول ان هيفا تُمثّل فن الفيديو كليب الى هذا الحدّ. لنتأمل في فن الفيديو كليب، الذي استقبل عند ظهوره في بلدان العرب بالكثير من الرفض والاحتجاج. وتركّز كثير من الاحتجاج على المقارنة بين الأصوات التي تؤدي في أشرطة الغناء المتلفزة، وبين الحناجر الهائلة التي صنعت غناء الفن الجميل. والحق أن موقع الصوت، وضمنه الموسيقى أيضاً، لا يشكّل ملمح التجديد العميق في الفيديو كليب. ويمكن الزعم، من دون كبير مجازفة، أن أشرطة الغناء التلفزيوني هي فنّ بصري أساساً؛ ويتمثّل الفنّ فيها بما تُقدّمه من زاوية العين، التي تعلو على الأذن فيه.
وبالاستعادة، نستطيع ملاحظة أن الغناء المُصور وصل الى التلفزيون في شكل «بسيط»، مثل أغاني الأفلام واستعراضاته. والمقصود بالبسـيط، في سياق الترفيه التلفزيوني، هو أن النص البصري في أغاني السينما مثلاً يتكئ على الصوت ويتبعه.
وفي المقابل، فإن النصوص البصرية هي الصنعة الفنية الأساسية في الفيديو كليب. ولعب البث المُتلفز عبر الأقمار الاصطناعية ما يُشبه دور القابلة في ولادة فن الفيديو كليب. وفي سياق تطوّره عربياً، الذي اقتبس كثيراً من صور ذلك الفن في الغرب، يمثّل الجسد المُغني عنصر التحدي والابتكار في هذا الفن؛ وخصوصاً جسد الأُنثى في مجتمعات الكبت الجنسي العربية. وبمعنى ما، انعقد عصب التجديد الفني في أشرطة الغناء التلفزيوني عربياً على الجسد المؤدي. وبذا، تُصبح الطريقة التي تتمكن فيها هيفا وهبي من جسدها وحضوره وجنسانيته، نموذجاً قوياً؛ وليس حصرياً؛ عن العصب الأساسي في هذا التجديد. ويوازيها في ذلك ذكورياً إداء جاد شويري، الذي يبدو ملتقطاً للعصب نفسه.
ليس ضدها، بل بالعكس، أنها لم تأت الى الغناء المُتلفز من الغناء، كحال نانسي عجرم واليسا مثلاً اللتان تمتلكان أصوات أكثر غناء واقتداراً منها..
جاءت هيفا الى الفيديو كليب من عالم الجسد، بالأحرى من صورة جسدها وخياله. لنذكر أن ظهورها الأول جاء عقب «فضيحة» تلت عدم انتخابها ملكة جمال بسبب أمومتها. ثم راج اسمها كعارضة أزياء، من بين أشياء أُخرى، قبل أن تدخل الفيديو كليب بشريط «أقول أهواك»، التي بدا فيها صوتها قليل التملك من الغناء. والأرجح انها لم تكن بحاجة له. وحتى عندما تعتلي المسرح، فإنها تحرص على الكثير من الاداء الجسدي. وقد تبعتها كثيرات في ذلك، بعد أن كنّ أكثر تحفظاً حيال ذلك النوع من الحضور. والارجح أنه بسبب عدم تألق صوتها، وليس العكس، بسبب إكثارها من استخدام جسدها وصورته وخياله وتوهيماته وفنتازياته الجنسية، وليس العكس، تبدو هيفا وكأنها في القلب من زمن الفيديو كليب الجميل!
احمد مغربي كاتب فلسطيني عن جريدة السفير اللبنانية
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |