متاع علي الجندي / صبحي حديدي
2009-08-12
قلت في نفسي: أستميح محمود درويش العذر لأني، وقد حلّت يوم أمس سنة على رحيله، سوف أرجىء إحياء الذكرى إلى يوم آخر، بعد أن ودّعت صديقي صلاح حزيّنا الأسبوع الماضي؛ ولعلّي أشفق على قرّاء هذه الزاوية من سيرة الرحيل والراحلين،أسبوعاً تلو أسبوع. عزائي المرتجى كان أنّ العشرات من محبّي درويش سوف يكتبون عن سنة غيابه الأولى، في مختلف وسائل الإعلام؛ وأنّ الملايين سوف يتذكرونه على نحو أوآخر، هنا وهناك، في بلدان العرب وفي أربع رياح الأرض. غير أنّ الأقدار شاءت أن لاتغيب ظلال الموت الثقيلة عن هذه الزاوية، إذْ بلغني رحيل الشاعر السوري الرائد علي الجندي (1928 ـ 2009)، وكان محالاً عندي أن لا ألقي تحية الوداع على شاعر/ مواطن سوريّ بامتياز، استجمع في نصف قرن من عقود عمره قسطاً وافراً من العناصر السياسية والثقافية والنفسية والإبداعية التي ميّزت شخصية المثقف السوري البرجوازي الصغير،مثلما صنعت مصائره وجراحه وانكساراته وهزائمه، ضمن المشهدية الأعرض للوجدان السوري الحديث.
وعلي الجندي كان شاعراً رائداً، رغم انتمائه ـ من حيث النشر والحضورالثقافي، وصدور مجموعته الأولى 'الراية المنكسة' سنة 1962، بعد سنوات على نشرقصائده في دوريات أدبية سورية ولبنانية ـ إلى مجموعة شعراء الستينيات (علي كنعان،ممدوح عدوان، محمد عمران، فايز خضور، محمود السيد، أحمد سليمان الأحمد، خالد محي الدين البرادعي، وسواهم). وفي ظنّي أن مكمن ريادته يبدأ، أوّلاً، من حقيقة إقامةالصلة الحداثية، والتجديد المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط ا لصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل 'الشعر الحرّ' أو التفعيلي، وإنْ اختلفت الأساليب وتباعدت التجارب؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخيرالدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، والميول السوريالية؛ والحلقات المنفردة الكبرى كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط، إضافة إلى أدونيس حين نحتسبه على مشهد الشعر السوري، وليس اللبناني.
ومن نافل القول إنّ علي الجندي أقام تلك الصلات، وبالتالي نشر قصائده الحداثية الأولى، وهو على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقةالعامة، سواء على يد مجايلين مثل وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني، أو السطوة المقيمة لقصيدة عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد المعين الملوحي من جيل الكبار السابق. وهكذا، فإنّ مكمن ريادته، في المقام الثاني، كان اختراق تلك الغابة المتشابكة من الأشكال والأساليب والموضوعات واللغات والتجارب،والاستئناس الحيوي بمنجز الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (وكانا على صلة صداقة)، في ما يخصّ سيولة التفاعيل ومعالجات موضوعة الموت؛ والنجاح في النأي بذاته عن موجة الشعر التموزي، موضة العصر الحداثية آنذاك؛ والإفلات، التامّ والمدهش في الواقع، من طوق أدب الإلتزام، في صياغاته القومية والبعثية تحديداً، هو الذي كان قريباً من سلطة البعث حتى أواسط السبعينيات.
ذلك لأنّ أنموذجه القياسي، في الحياة والسلوك كما في الفلسفة والشعر، كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد البكري، سيّما تأملاته في أخلاقية الوجود والعدم: 'أرى قَبْر نحّامٍ بخيلٍ بماله/ كَقَبْرغَويٍّ في البطالة مُفسِد'؛ أو قوله: 'أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة/ وما تَنقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفدِ'. وإذا كانت ثلاثية الملذات عند طرفة هي شرب الخمر وإغاثةالمستغيث ومعاشرة النساء، فإنّ لذائذ الجندي كانت الشعر والنساء والخمر، ليس لأنّ إغاثة الملهوف لم تكن تلذ له، بل لأنه أغلب الظنّ كان يرى نفسه جديراً بالغوث وليسالإغاثة! وكانت مجموعته/ قصيدته الطويلة 'طرفة في مدار السرطان'، 1975، بمثابة كشف حساب مفصّل، جارح وحادّ وتراجيدي، عن حال انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف،والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم: 'عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة/ إمنحوني شكل موتي/ رحلتي المنكسرة/ ودعوني أرتوي... أسقي خلاياي/ بظلّ المقبرة/ أرتوي حتى أرى في ظلمة الدنيا حنان الآخرة/ وأرى الموتي يخفّون لكي يستقبلوا/ فارساً يحمل رؤيا خطرة/ مقبلاً، سكرانة خطواته/ حنقاً يجعل من عالمهم/ للمجانين ـ الذين انخذلوا ـ مستعمرة!'.
الأرجح أنّ هذه العقيدة الوجودية، فضلاًعن طراز حياته الصاخب والأبيقوري، جعلت علي الجندي قليل الإكتراث بتطوير قصيدته وترقية أدواته، فظلّ أسير نبرة واحدة، ولغة مقتصدة، وإيقاعات متماثلة، مع استثناءات محدودة في الواقع، كانت على الدوام تؤكد شاعريته الدافقة ومراسه العالي. لكنّ الملذات لم تمنعه من التوقيع على بيان الـ 99'، الذي أصدره نخبة من المثقفين السوريين (كان بينهم، للإيضاح الضروري في هذا السياق، عبد المعين الملوحي وعلي كنعان وممدوح عدوان)، ونُشر في أواخر أيلول (سبتمبر) 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاءالأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامةوالمدنية. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (بلدته التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته 'السيول تجتاح سلمية'، حتى صعد المنبر وأتمّ القصيدة عنه)، احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك،مدير المركز الثقافي السابق، وعضو مجلس أمانة 'إعلان دمشق'.
ذلك لأنّ الأنموذج الثاني في شخصية علي الجندي كان الشاعر الأموي قطري بن الفجاءة، فارس الأزارقة الذي قال لنفسه وقد طارت شعاعاً: وما للمرء خير في حياة/ إذا ما عُدّ من سقطالمتاع!
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |